الرئيس الأميركي دونالد ترامب يخاطب العالم قائلاً: أنا لست جو بايدن الذي تراخى في مواجهة ايران، ورئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتنياهو يخاطب العرب قائلاً: أنا لست ايهود اولمرت الذي تراخى في مواجهة “حزب الله”.

رجلان يملكان من الجنون والغرور ما يكفي لتأجيج نيران العالم في مكان وربما إخمادها في مكان آخر، يساعدهما في ذلك صمت دولي وغياب عربي، اضافة الى استراتيجية ايرانية متهورة تضرب في كل مكان وتعطي الرجلين ما يحتاجان اليه للمضي في بناء مشروع الشرق الأوسط الجديد.

فما يجري في اليمن، يستهدف ايران أكثر مما يستهدف الحوثيين، وما يجري في غزة يهدف الى ترسيخ اليوم التالي ما بعد الحرب، أكثر مما يستهدف اطلاق ما تبقى من الرهائن العالقين في قبضة “حماس”، وما جرى على الحدود اللبنانية – السورية لم يكن الا انعكاساً لمحاولات ايرانية تهدف الى فتح جبهة في مكان، أو ما يمكن في مكان آخر أن تعيد خلط بعض الأوراق أو تعزيز بعضها الآخر استعداداً لما يكون في الغد اما مفاوضات مع أميركا تحت النار واما مواجهات بالنار.

وعلى الرغم من أن اشتباكات الحدود الشرقية مع سوريا لا تقارن بما أصاب الحوثيين في اليمن والفلسطينيين في غزة من حيث الحدة والضحايا والأضرار، الا أنها قد تجر، في حال تكرارها الى تدخل أميركي- اسرائيلي مباشر ينطلق من حالتين: الأولى اذا تهيأ لكل من ترامب ونتنياهو أن “حزب الله” قد يتمكن من استعادة أي موطئ قدم جديد في سوريا، والثانية اذا تهيأ لهما أن “هيئة تحرير الشام” قد تتوغل في الداخل اللبناني مهددة باشعال حروب أهلية من جهة وزعزعة الحكم الجديد في بيروت من جهة ثانية.

وتكشف مصادر ديبلوماسية غربية أن اشتباكات الأمس أدت الى تفعيل ثلاثة أمور أساسية، الأول الاستعجال بتزويد الجيش اللبناني ما يحتاج اليه من أسلحة نوعية تساعده على ضبط الحدود في شكل مطبق، والثاني الانطلاق بتطبيق القرار ١٦٨٠ وترسيم الحدود البرية مع سوريا شرقاً وشمالاً وبحراً، والثالث ازالة القواعد التي يتحكم بها “حزب الله” على الحدود المشتركة.

وتضيف المصادر: إن العملية التي أدت الى اختطاف ثلاثة جنود سوريين وقتلهم تشبه تلك العملية التي نفذها “حزب الله” داخل الأراضي الاسرائيلية وخطف وقتل خلالها جنديين اسرائيليين عشية اندلاع “حرب تموز”، ما يعني منطقياً أن عملية مثل هذه لا يتقن تنفيذها الا طرف محترف من جهة وطرف يعرف جغرافية المنطقة من جهة ثانية.

وبعيداً مما جرى على الحدود الشرقية، لا يبدو الرئيس ترامب في وارد التراجع عن قراراته الفوقية وعن الاستراتيجية الاقليمية والدولية التي رسم خطوطها وتفاصيلها مع فريق عمل متطرف لا يختلف كثيراً عن اليمينيين الاسرائيليين في ما يتعلق بالصراع مع ايران وأذرعها في أي مكان.

وتذهب مصادر قريبة من البيت الأبيض بعيداً الى حد القول ان ترامب يتبع سياسة حازمة تقول: “اما يستقر العالم سلمياً على قواعد أنصبها أنا واما أفعل ذلك بالقوة”، وهذا ما يفعله في مواجهة الحوثيين مدعوماً بنقمة اقليمية ودولية حيال الأضرار التي لحقت بالملاحة البحرية في البحر الأحمر، وهذا ما قد يفعله في مواجهة ايران إن هي حاولت نصرة حلفائها في اليمن أو لبنان أو سوريا وإن هي مضت قدماً في انتاج سلاح نووي.

وتتابع المصادر: ان ما فعله نتنياهو في غزة بالتوازي يترجم التهديدات التي أطلقها ترامب ضد “حماس” لمنعها من الاستمرار في استغلال أزمة الرهائن الاسرائيليين والأميركيين، وهي الورقة الثمينة الوحيدة التي تملكها، لكسب الوقت واطالة عمر الهدنة سعياً الى أمرين، الأول اعادة التسلح والتجنيد وتنظيم الجبهات، والثاني منع أي حل يقضي بابعادها من الحكم لمصلحة السلطة الفلسطينية، أو بتهجير السكان من القطاع نحو دول أخرى قد تكون عربية أو إفريقية، اضافة الى أمر ثالث وهو القضاء على آخر موقع مسلح تراهن عليه ايران على الحدود مع اسرائيل بعد سقوط بشار الأسد في سوريا وانكفاء “حزب الله” في لبنان.

وليس سراً أن ما جرى ويجري في اليمن وغزة ليس الا ترجمة لما اتفق عليه ترامب ونتنياهو في لقائهما الأخير في البيت الأبيض، أي الانتقال من سياسة الضربات المتقطعة الى سياسة “الضربات الفتاكة” التي تتوخى الحسم العسكري وفرض الحلول بالقوة، سواء كانت الحلول التي تفرض السلام على الطريقة الأميركية أو تلك التي تفرض سياسات التصفية والالغاء على الطريقة الاسرائيلية.

وليس سراً أيضاً أن ثمة مخاوف في المنطقة من أن يكون قصف الحوثيين في اليمن مدخلاً الى مواجهة أميركية مع ايران التي تجهد للتنصل من ممارسات أذرعها في غير مكان، وأن يكون ما يجري في غزة مدخلاً الى مواجهة اسرائيلية جديدة مع “حزب الله” الذي يدرك ذلك ويحاول اللجوء الى بديلين جوهريين، الأول نقل المواجهة من الجنوب الى الشرق والانطلاق منه لزعزعة الحكم الجديد في دمشق، والثاني توريط الجيش اللبناني في حرب الهاء مع سوريا وعرقلة انتشاره في الجنوب وفق القرار ١٧٠١ واظهاره تالياً في مظهر البديل العسكري العاجز عن حماية لبنان وأهله من اعتداءات اسرائيل وأصوليي سوريا.

انها في اختصار اللحظة الحاسمة التي يريد منها الثنائي ترامب – نتنياهو القضاء على أذرع ايران الواحدة بعد الأخرى وصولاً الى الجمهورية الاسلامية نفسها اذا اختارت المواجهة لا التنازل، واللحظة التي يريد الرئيس الأميركي أن يقول من خلالها لمن يهمه الأمر انه رجل لا يمارس المزاح عندما يتعلق الأمر بالوعود التي أطلقها والتحديات التي نشرها في كل مكان.

انها أيضاً اللحظة التي يجب على الحكم الجديد في بيروت تلقفها سريعاً والذهاب الى تطبيق القرار ١٧٠١ ومندرجاته كلها من دون استنسابية اذا أراد فعلاً تجنب ما أصاب غزة وما يصيب اليمن، واذا أراد فعلاً منع ترامب من الالتفات صوب لبنان واعطاء نتنياهو الضوء الأخضر لاستئناف الحرب على “حزب الله” والقضاء على ما تبقى من قادته وما تبقى من بنيان هذا البلد.

وأخيراً انها أيضاً اللحظة التي يجب على “حزب الله” وايران أن يدركا فيها أن العودة الى ما قبل “الثامن من أكتوبر” أمر شبه مستحيل، وأن هذا البلد الصغير الذي كانا يتحكمان به من دون منافسة من أحد، بات “محمية أميركية” غير مباشرة ممنوع اعادتها الى الهلال الايراني أو تحويلها جزءاً من الأصولية الحاكمة في دمشق، وركناً من شرق جديد لم تعد فيه الايديولوجيات هي التي تحدد طبيعة الأنظمة الحاكمة من دون مراعاة لأحد، ولم تعد الأكثريات العددية هي التي تقرر مصير الشعوب وتعتبر الأقليات اما حراساً للحاكم واما رهائن غب الطلب.