الانطباع الوحيد الذي تثيره حملة الإبادة الإسرائيلية المتجددة على قطاع غزة، هو ان إسرائيل تتولى مهمة ترتيب الوضع الفلسطيني بما يساهم في المضي قدما تنفيذ قرارات الاجماع العربي في قمة القاهرة في الرابع من هذا الشهر، الخاصة بإعادة اعمار القطاع بعد إخلائه من حركة حماس وخفض كثافته السكانية الى الحدود الدنيا. وكل ما يقال عن أن تلك الحملة هي مجرد تمهيد إسرائيلي لحرب أميركية على إيران، هو في الواضع طعن للفلسطينيين، بل ضوء أخضر لتهديد وجودهم على أرضهم.
القمة العربية الطارئة خلصت يومها الى خطة مفصلة، مرفقة بالوثائق والخرائط الهندسية والأكلاف المالية، والجداول الزمنية التي لا تحتمل التأجيل ولا التسويف، لأنها جاءت بطلب أميركي مباشر وعاجل، لتفادي الفكرة الجنونية التي طرحها الرئيس دونالد ترامب، بإفراغ قطاع غزة من السكان تماماً وإعادة إعماره ليصبح “ريفييرا الشرق الأوسط”. تلقت القمة وعداً من الرئيس الفلسطيني محمود عباس بتسليم السلطة والمنظمة، لكنها لم تقارب العنوان الأشد إلحاحاً بالنسبة الى الاميركيين والإسرائيليين، والعرب أيضا، أي نزع سلاح حماس وإخراجها من المشهد الفلسطيني كلياً.
حملة الإبادة الإسرائيلية المستأنفة هذه الأيام، تسير في هذا الاتجاه وفق مخطط وضع قبل ثلاثة أسابيع، حسب ما كشفت المصادر الاسرائيلية. وهو يتم بتنسيق سياسي وعسكري لم يسبق له مثيل بين الحكومة الإسرائيلية وبين الإدارة الأميركية، التي مهدت للحملة بواحدة من أعنف الضربات العسكرية الأميركية على اليمن، والتي تعيد الى الاذهان الحرب الأميركية على العراق العام 2003، وشملت توجيه تحذيرات غير مألوفة الى إيران، من مغبة التورط في مواجهة المخطط الجديد، الذي يبدو أن عنفه وسرعته ووحشيته، تستدعي ضمان عدم عرقلته من أي طرف كان. هذه المرة يقاتل الاميركيون والإسرائيليون كأنهم جيش واحد موحد، يخضع لإدارة غرفة عمليات واحدة، تنفذ أيضا غارات جوية استباقية أو تحذيرية على أهداف محددة في كل من لبنان وسوريا.
الحجم الهائل للخسائر البشرية والاضرار المادية في غزة وبقية الجبهات المتصلة بها، وكثافة النيران الأميركية والإسرائيلية المستخدمة، والتي تفوق كل ما استخدم منذ خريف العام 2023، توحي بأن هناك جدولاً زمنياً قصيراً لتحقيق أهداف الحملة العسكرية. لا أحد في واشنطن يريد التورط في حرب مفتوحة في الشرق الأوسط، ولا أحد في إسرائيل يود العودة الى عمليات الاستنزاف السابقة. وثمة من يقول ان ترامب يتطلع لإنهاء الحروب في الشرق الاوسط وأوكرانيا في وقت واحد.. لكي يتفرغ للحروب التجارية الطاحنة التي يشعلها في مختلف أنحاء العالم، من دون ان يطلق رصاصة واحدة، ومن دون ان يرسل أي جندي أميركي الى أرض المعركة.
هو بالفعل رجل سلام، وطموحه للفوز بجائزة نوبل للسلام جدي جدا، وهو ينال بركة المزيد من أعضاء الكونغرس ورجال الاعمال والسياسة والاعلام. ولن يكون القضاء على الآلاف من الفلسطينيين واليمنيين واللبنانيين والسوريين، سوى ضريبة عابرة لبلوغ “هذا الهدف النبيل”، الذي لن يضيع طبعا جراء تهديد إيران بضمها الى اللائحة..طالما أن ذلك لن يؤدي الى حرب تشبه الحرب على العراق، ولن يقطع في الوقت نفسه خيط التفاوض مع طهران.
الأولوية الإسرائيلية الأميركية الآن هي قطاع غزة، والوضع الفلسطيني برمته، وكل ما عداه تفاصيل وهوامش. حملة الإبادة تعنف يوماً بعد يوم، وحالة الاعتراض الدولي والعربي وحتى الفلسطيني تتضاءل يوماً بعد يوم..ما يترك الفلسطينيين لمواجهة قدرهم، ولا يبقي منهم سوى القلة من الشهود على واحدة من أبشع الجرائم ضد الإنسانية، وأسوأ عمليات التغيير الديموغرافي في المشرق العربي.
بيروت في 19 / 3 / 2025