لأكون صريحاً معكَِ فقد أرهقني رمضان هذا العام على غير العادة، حتى إنّها أوّل مرّةٍ أبدّل ساعات عملي من النهار إلى الليل. وجدتُ هذا التغيير في نمط حياتي مقلقاً للغاية، إذ إنّي كائنٌ صباحيٌ حتى في رمضان. أمّا هذا العام فلا أكادُ أتحرّك نهاراً إلّا قليلاً. وقد وجدتُني طيلة الشهر أؤنّب نفسي على الاستيقاظ متأخراً، منتظراً باليوم والساعة أُفول الشهر حتى تعود لي حياتي الطبيعية. دمتُ على هذا الحال حتى قرأتُ مقالة زميلنا بالمجلّةِ طارق حجّي “الصوم وكسر العادة.. العالَم بين فرعَيْ زينة” التي يحاجّ فيها أنّ أصل الصيام هو هذا الخروج عن العالم المعتاد إلى عالمٍ آخَر.
ليست كلّ مقالاتنا هذا الأسبوع عن الصومِ بالطبع، لكنّها تتشابك مع بعضها في وجود الدِين عنصراً أساسياً فيها. فمرّةً حجّةً يستخدمها الفيلسوف الأمريكي مايكل والزر لإنشاءِ صهيونيةٍ ليبراليةٍ، ومرّةً حاضراً في كراماتِ قادة الحركة السنوسية في وطني ليبيا وأثرها في الانقيادِ السياسي، وتارةً في سوريا في محاولة شبابٍ سوريين للحفاظ على منبر الجامع الأموي في حلب، وأخرى في هواجس عودة تنظيم داعش.
استفتحنا هذا الأسبوع بمقالةِ يوسف موسى، الكاتب والمهندس المعماري السوري، عن رحلةِ منبر الجامع الأموي في حلب في عناية شبابٍ سوريين أرادوا الحفاظ على الآثار في المدينة. تأسرنا المقالة في هذه الرحلةِ الملحمية لحمايةِ آثار المدينة من أثرِ الحرب بين مختلف الجماعات السياسية والدينية التي أرادت السيطرة على حلب. فنتنفّسُ الصعداءَ مرّةً مع بطل المقالة، أي منبر الجامع، عندما يُحفَظُ أخيراً في سردابٍ سريٍّ. وتنقبضُ قلوبنا مرّةً أخرى عندما نتابع مع هؤلاءِ الشباب المتطوعين طريقهم في تهريبِ قطعِ المنبر قطعةً قطعةً عبر البوابات الأمنية للمتصارعين على الأرض السورية، لتنتهي القصّة بعودة المنبر بعد أحد عشر عاماً من اختفائه، عاشت فيها سوريا تحولاتٍ وحرباً طاحنةً استخدمت فيها الهُويّة الدينية سلاحاً للقمعِ والانتقام. وكان هذا المنبر غائباً حاضراً في سنوات الثورة، فهو قد اختفى عند بدئها وعادَ عند انتهائها. فهل مع عودته إلى مكانِه سيأمن الناس في حلب مجدداً على صلواتهم وأرواحهم وتراثهم؟
من سوريا إلى بلدٍ آخَر من بلدان الربيع العربي المنكوبة، أي ليبيا. فقد تحوّلت أمزجة ليبيين عديدين بعد سقوطِ نظام العقيد معمر القذّافي. وبدأ الصراع السياسي بين أصدقاء الأمس على أشدّه لينتج حرباً أهليةً طويلةً لا تهدأ حتى تشتعل من جديد. ووسط كلّ هذه الفوضى يَخرج وليّ العهد الليبي محمد السنوسي متّكئاً على إرثٍ طويلٍ لأجداده قادة الحركة السنوسية ساعياً إلى عودةِ ليبيا إلى الملكية، واجداً فيها الحَلّ لأزماتِ البلد. يحدّثنا الكاتب الليبي حسام الثني عن أثرِ كراماتِ هؤلاء القادة السنوسيين وحكمتهم الروحية في جمعِ النّاس حولهم وجعلهم ينقادون إلى أوامرِهم ونواهيهم ممّا مكّنَ لهم سياسياً في شرق ليبيا أولاً، وحتى أصبح محمد إدريس السنوسي حفيدُ مؤسّس الحركة أوّلَ ملكٍ لليبيا. هنا في هذه المقالة لا يتقاطع الدين والسياسية فقط، بل يندمجان ويختلطان حتى لا يكاد المرء يدرك الفرق بينهما.
وقد أراد الفيسلوف الأمريكي مايكل والزر خلطَ التراث الديني اليهودي وتوظيفَه. فقد أراد أن يبني نموذجاً لحركات التحرر في العالم بناءً على القصة الشهيرة عن خروج بني إسرائيل من مصر. وذلك سعياً منه لتأسيس صهيونيةٍ ليبراليةٍ في مواجهة الصهيونية اليمينية التي تستند على التراث الديني. يكتبُ نادر أندراوس، أستاذ علم الاجتماع في هارفارد، عن السِجال الذي أشعله كتاب والزر “سفر الخروج والثورة” بين المؤلف والمفكر العربي إدوارد سعيد الذي كتب مراجعةً نقديةً له يوضّح فيها أنّ والزر فشل في توظيف الدين في قضيته الليبرالية، بل على العكس أثبت قداسته بتأويله للقصة تأويلاً غير تاريخي. يرى والزر أنّ صهيونية الخروج تعطي الأولوية لاستقلال القرار السياسي للبشر وقدرتهم على صياغة تاريخهم، أي أنّهم لا يحتاجون لأمرٍ إلهيٍ “للعودة إلى أرض الميعاد”. ومن هنا نشأت فكرة احتلال فلسطين وإحلال شعبٍ آخَر محلّ شعبها. رأى سعيد أنّ أفكار والزر كانت شديدة المحافظة، وأنّ أخطر ما فيها هي إسباغُ صفةٍ تقدميةٍ زائفةٍ عليها، وبهذا تكمن خطورتها في أنّها تخلصُ للتراث الديني لكنّها تتنكّر له في الوقتِ ذاته.
يتناولُ زميلنا طارق حجي تأويلاً دينياً آخَر، هذه المرّة عن الصوم والعلّة منه. فقد درج عند عامّة المسلمين أنّ علّة الصوم تكمنُ في الإحساس بالفقير والشعور بالجوعِ والعطش، أي فيه تدريبٌ للنفسِ وتأديبٌ لها. لكن ثمّة علّةً أقلّ شهرةً، كما يقول طارق، وجدت لها مكاناً في التراث الإسلامي. ذلك أنّ الصوم هو الكفّ عن العادة كما يقول الحكيم الترمذي، أو كما يشرحُ طارق: ” أي كسر اعتياد الإنسان على ما ألِف زماناً ومكاناً وفعلاً”. ينطلقُ طارق على هذا التعريف وتحت ضوءِ أفكار مفكرين مثل إيريك فروم وبول تيليش، في شرحِ أفكار المقالة وتناولها. حتى إنّه يُظهِر زينةَ رمضان متّصلةً اتصالاً حقيقياً بالشهر، فيقول: “هذا الاحتفال بشهر رمضان يجسَّد نظراً للشهر انعطافةً في العام، تعليقاً للزمان، وتغييراً للمكان، وانتظاراً لتغييرٍ حقيقيٍ للذات… يتجسّد هذا الاحتفال ذو الصبغة الشعائرية في مظاهر التزيين والتواصل والانفتاح والخروج من الذات”. أي أنّه احتفاءٌ بحدوث خرقٍ وتوقّفٍ وتبدّلٍ في نظامِ الأشياء.
وعلى سيرةِ التوقف، فقد شاعَ أنّ تنظيم داعش في سوريا قد انتهى. إلّا أنّ الباحث السوري محمد حسّان يرى خلاف ذلك. فهو يحاجج بأنّ المعركة لم تنتهِ بعد. ويشرحُ أنّ داعش طوّر أساليب نجاةٍ منذ انهيارِ منظومة دولتِه، وبدّل هيكلته وطرق تواصله وتكيّف مع التغييرات على الأرض، وأنّ طبيعة العداوة بين داعش وفصائل الثورة السورية قد تجعلُ التنظيم يعود من جديد. يعتمد محمد في محاجّته على سردِ التاريخ الطويل للتنظيم منذ أميره أبي بكر البغدادي إلى سقوطِ نظام الأسد في 8 ديسمبر 2024، وحتى ما بعد ذلك. فقد وقعت مواجهاتٌ بينه وبين الحكومة الجديدة. بل إنّ التنظيم نفسه قد نشر في 25 يناير 2025 مقالاً يتّهمُ فيه قادة سوريا الجديدة، الذين تقاطعوا معهم سابقاً في أهدافٍ كثيرةٍ، بأنّهم “صحوات” وأنّهم يسعون لإقامةِ دولةٍ مدنيةٍ ديمقراطيةٍ إرضاءً للغرب حتى يسمح لهم بحكمِ سوريا. فهل يعودُ داعش من جديد؟
هذه المقالات الخمس هي جزءٌ من صورةٍ أكبر عن مقالات الفِراتْس، فهي نتيجة بحثٍ معمّقٍ قلّ نظيرُه في المحتوى المكتوب بالعربية. فالفِراتْس لا تكتفي بالكتابةِ عن مواضيع جديدةٍ أو بلدانٍ جديدة. لكن الشرط الأهمّ عندنا أن تكون الرؤية معمّقةً وتشتمل على فهمٍ حقيقي. فقد نشرنا في شهرِ مارس عن دورِ الطرق الصوفية في السنغال في التجربة الديمقراطية للبلد، ونشرنا عن نهر الليطاني في جنوب لبنان مهملاً من السلطات، وكتبنا عن أزمةِ اقتصاد المقاطعة والبدائل المحلية التي لا تستمر، وعن الصراع على صورةِ الإسلام في تركيا عبر الدراما والتلفزيون. وغير ذلك الكثير.
وحتى ألقاكَِ، كلّ عامٍ وأنتَِ بخيرٍ ومن المعيّدين الفايزين.