قد تمثّل مرحلة ما بعد سقوط النظام في سوريا فرصة أمام تنظيم الدولة الإسلامية لإحياء نشاطه، وفرصة أيضاً أمام الدولة السورية الجديدة لإنهاء التنظيم.مع الحرب الدولية ضدّه، استمرّ نشاط التنظيم في سوريا والعراق |
في 5 يناير 2025، بعد تسع سنواتٍ من الغياب، وطأت قدماي أرض سوريا قادماً من هولندا. لم تكن هذه الزيارة لتتحقق لولا سقوط الأسد. خصصتُ يوماً واحداً للقاء عائلتي في مسقط رأسي، دير الزور، الواقعة شرق سوريا. توجهت بعدها إلى تدمر وسط البلاد لدراسة مناطق تنظيم الدولة الإسلامية المعروف بِاسم “داعش”، في البادية الممتدة بين محافظات حمص وحماة والرقة ودير الزور. وقد أصبحت هذه البادية ملاذاً آمناً لخلايا التنظيم منذ انهياره سنة 2017 إلى اليوم.

جابت سيارتي البادية من طرقٍ رئيسةٍ وفرعيةٍ، بدءاً من تدمر مروراً بجبال العمور ثم شمالاً إلى السخنة ومنها إلى مناطق شاعر والمراس. ثم اتجهت غرباً إلى مناطق الفرقلوس. وبعد استراحةٍ قصيرةٍ في حمص، سلكت طريقاً أثرياً إلى ريف حماة الشرقي وصولاً إلى الكوم، أحد أهم معاقل تنظيم الدولة الإسلامية، ثم إلى جبل البشري وبادية دير الزور الغربية. وانتهت الرحلة في محطة “تي 2” بالبادية الجنوبية لريف دير الزور الشرقي. شهدت هذه الرحلة تناقضاتٍ كبيرة. فقد تجوّلت في مناطق كانت تُعدّ قبل أقلّ من شهرين من أخطر المناطق في سوريا شاعراً بالنصر على تنظيمٍ كان، إلى جانب النظام السابق، سبباً رئيساً في مغادرتي دير الزور سنة 2014.

في السنوات التي أعقبت انهيار التنظيم حتى سقوط الأسد في 8 ديسمبر 2024، طوّر داعش باستمرارٍ خطط نجاة. فبدّل هيكليته وخططه العسكرية ومواقع نشاطه وطرق تواصله مع المجتمعات المحلية وأدوات الحشد والتجنيد، واستفاد من أزمات خصومه الداخلية، فاستغلّ دوافع غضب السكان المحليين من السلطات في إعادة التجنيد والنشاط. ومع نهاية نظام الأسد وصعود قائدٍ من خلفيةٍ جهاديةٍ إلى الحكم، وتوقيع اتفاقٍ بين “قسد” والدولة السورية الجديدة في مارس 2025، بدا أن عمليات التنظيم قد توقفت.

شاع اعتقادٌ أن نشاط تنظيم الدولة الإسلامية انتهى في سوريا، خصوصاً مع صعود سنّةٍ محافظين إلى الحكم وفقدان التنظيم أهم أركان خطابه التعبوي. ولكن متابعة نشاط التنظيم السابق قبل سقوط النظام، وتكيّفه واستمراره وإصراره على الوجود في سوريا مع طبيعة العداوة بينه وبين الثورة السورية وفصائلها. ومع الثغرات التي يعاني منها الحكم الجديد، يتبدّى أن معركة داعش لم تنتهِ بعد. وقد يرى التنظيم أن أمامه فرصاً لإعادة الانبعاث في سوريا، كما يرى تحدّياتٍ تعيق التحقق السريع لهذه الآمال.

في نوفمبر 2017، أعلن النظام السوري وحليفتاه روسيا وإيران القضاء على تنظيم داعش في مناطق غرب نهر الفرات، بعد السيطرة على مدينة البوكمال الحدودية. بينما تأخر القضاء على التنظيم في مناطق شرق الفرات حتى 19 مارس 2019، بعد أن أعلنت قوات سوريا الديمقراطية “قسد” التي يغلب عليها الطابع الكردي السيطرة على مخيم الباغوز، آخر جيوب التنظيم.

بعد سقوط مناطق تنظيم الدولة الإسلامية غرب الفرات، أعاد ترتيب صفوفه وتجميع قواه في البادية السورية، مع استمرار قتاله ضد قوات قسد في ريف دير الزور الشرقي. كانت قدرة التنظيم على البقاء في البادية نتيجة سياساتٍ عمل عليها في مراحل مختلفةٍ، منها ما سبق انهيارَه سنة 2017، وأخرى إبّان وجوده في السنوات الماضية على شكل خلايا. وتعلقت هذه السياسات بقضايا التسليح وتأمين الأموال والآليات، وتوفير حاجات عناصره من طعامٍ ودواءٍ ولباس.

اعتمد التنظيم ثلاثة مصادر رئيسةٍ لدعم قواته في البادية بالسلاح والذخائر آنذاك. أوّلها مدافن الأسلحة التي تركها أثناء سيطرته على شمال سوريا وشرقها بين سنتَيْ 2015 و2016. ومنها مستودعات عياش غرب محافظة دير الزور، أكبر مستودعات السلاح الاستراتيجية في شرق سوريا. مضافٌ لهذا مستودعات الأسلحة في مدينة تدمر، شرق محافظة حمص. وقد توفرت لتنظيم الدولة الإسلامية كمّيات أسلحةٍ زادت عن حاجته مع ركود جبهات قتاله، فخزّنها في أماكن تحت الأرض في البادية السورية بعيداً عن القصف الجوي الروسي وعيون طيران التحالف.

المصدر الثاني لدعم تنظيم الدولة الإسلامية كان “الغنائم” التي حصل عليها عقب هجماته على قوات النظام وحلفائه. أما المصدر الثالث فشراء السلاح من السوق السوداء من وسطاء متعاونين مع خلايا التنظيم، أبرزهم ضباطٌ فاسدون من جيش النظام السوري.

أُعيد انبعاث التنظيم في البادية السورية بإشراف زعيمه أبي بكر البغدادي، الذي كان يقيم في بلدة الباغوز قبل إخلائه منها بهجومٍ نفّذه التنظيم في 6 يونيو 2018 من محورين. الأول باتجاه بلدتَي الجلاء والرمادي الخاضعتين لسيطرة النظام غربي نهر الفرات، والثاني من بلدة هجين من الفرات. سيطر التنظيم في الهجوم على البلدتين ساعاتٍ، نُقل فيها البغدادي وأعضاء مجلس الشورى ومعتقلون مع أموالٍ من بلدة هجين بقوارب في نهر الفرات إلى قريتي الرمادي والجلاء، ومنها إلى مناطق سيطرته في البادية الجنوبية لدير الزور.

بعد ترتيب عمل التنظيم في البادية، قرَّرَ البغدادي ومجلس الشورى تأمين وجود التنظيم في إدلب. فانتقل من البادية إلى محافظة إدلب من منطقة الرهجان بداية سنة 2019. وفي فجر الأحد 27 أكتوبر 2019، قُتل أبو بكر البغدادي في عملية إنزالٍ أمريكيةٍ استهدفت مكان إقامته بريف إدلب الشمالي.

بعد مقتل البغدادي، أعلن تنظيم الدولة الإسلامية تعيين أبي إبراهيم الهاشمي القرشي خلفاً له. عمل القائد الجديد على تثبيت التنظيم في البادية السورية وتعزيز عمل “الولايات الأمنية” في مناطق شرق الفرات، بعد هزيمته هناك وسقوط مخيم الباغوز في مارس 2019. وأسلوب الولايات الأمنية مردُّه عودة التنظيم إلى نموذج الجماعة المتمرّدة وحرب العصابات، لا إلى نموذج الدولة. فسعى إلى تعزيز وجود التنظيم في إدلب بهدف السيطرة عليها وإعلانها إمارةً جديدةً لمشروع “الخلافة”.

في يناير 2022، هاجمت مجموعات تنظيم الدولة الإسلامية سجن الصناعة في الجهة الجنوبية لمدينة الحسكة. استمر الهجوم تسعة أيامٍ، انتهى بمقتل عشراتٍ من مقاتلي التنظيم ومعتقليه داخل السجن، ومقتل مئةٍ وأربعين عنصراً من قوات قسد. كان هذا أعنف هجمات التنظيم بعد سقوط مناطق سيطرته في سوريا والعراق.

واجهت هيئة تحرير الشام بقوّةٍ مساعي تنظيم الدولة الإسلامية لإنشاء إمارةٍ له في إدلب. لاحقت خلاياه المنتشرةَ والفصائلَ التي كانت على صلةٍ تنظيميةٍ أو فكريةٍ به، فحلّتها واعتقلت عناصرها.

في 3 فبراير 2022، نفّذت قوّاتٌ خاصةٌ أمريكيةٌ عمليةً عسكريةً في بلدة أطمة الحدودية في إدلب، قتلت فيها أبا إبراهيم القرشي. فأعلن التنظيم في 10 مارس 2022 مبايعة أبي الحسن الهاشمي القرشي خليفةً ثالثاً. بدأ الزعيم الثالث عهده بهجماتٍ عسكريةٍ وانتحاريةٍ استهدفت قادة فصائل سابقين في الجيش الحرّ بدرعا. ونفّذت المجموعات المحلّية في درعا سلسلة هجماتٍ ضدّ خلايا التنظيم هناك، قتلت فيها أبرز قياداته. كان آخرهم الخليفة نفسه الذي قتلته منتصف أكتوبر 2022 في مدينة جاسم، شمال درعا.

أعلن التنظيم تعيين أبي الحسين الحسيني القرشي خليفةً رابعاً. ونهاية أبريل 2023 أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان “تحييد” الحسيني القرشي في عمليةٍ نفّذتها الاستخبارات التركية. تأخر التنظيم في تأكيد الخبر حتى 3 أغسطس، فأعلن مقتل خليفته في مواجهاتٍ مع هيئة تحرير الشام في إدلب، وتعيين أبي حفص الهاشمي القرشي خليفةً خامساً.

في عهدَيْ أبي الحسين وأبي حفص، بلغ نشاط تنظيم الدولة الإسلامية وتصعيده العسكري ذروتهما في سوريا. فقد بدأ في يونيو 2023 حملةً عسكريةً استهدفت مواقع النظام السوري في البادية. استمرت هذه الحملة تسعة أشهرٍ، بهجماتٍ شبه يوميةٍ، وانتهت في مارس 2024. وبحسب تقرير مركز عمران للدراسات، المنشور في مارس 2024، نفذ التنظيم 197 هجوماً بين أكتوبر 2022 وديسمبر 2023. قُسمت هذه العمليات إلى: مئةٍ وخمس عملياتٍ في دير الزور، وخمسٍ وعشرين عمليةً في الرقة والحسكة، وستّ عملياتٍ في حلب، وخمسٍ في كلٍّ من حماة ودرعا، وثلاث عملياتٍ في حمص، وعملياتٍ في كلٍّ من ريف دمشق والقنيطرة.

في هذا التصاعد بنشاط التنظيم، ركّزت خلاياه على جنوب دير الزور وشرق حمص وحماة، ممّا ضغط على مواقع النظام السوري الرئيسة. وقد أجبرت هذه الحملةُ الروسَ على تكثيف غاراتهم الجوّية فوق البادية لدعم القوات البرّية الإيرانية والسورية. ونشر النظام السوري تعزيزاتٍ في شرق حمص ودير الزور، من بينها قوّات الغيث التابعة للفرقة الرابعة، و”الفرقة 25″ (قوات النمر سابقاً)، وقوات الدفاع الوطني.

أدّى تعزيز وجود النظام في البادية والدعم الجوّي الروسي والبرّي الإيراني، إلى جانب الخسائر التي تكبّدها خاصةً مطلع سنة 2024، إلى ما بدا انخفاضاً في عمليات التنظيم حتى وصل أدنى مستوىً في يونيو 2024. شهدت الفترة اللاحقة تحولاً في هجمات تنظيم الدولة الإسلامية نحو أساليب دفاعيةٍ سلبية. فقد تجنّب الهجوم المباشر، واعتمد الألغام والعبوات الناسفة لاستهداف طرق الإمداد والطرق المحتملة لعبور قوات النظام.

في يونيو 2024، أنشأت قوات النظام مواقع دفاعيةً جديدةً في مناطق حيويةٍ في حمص ودير الزور وحماة، ما أسهم في الحدّ من نشاط التنظيم على طول هذه الجبهات. وقد أثمر هذا التحرك، فتراجع نشاطه في حمص. وكان يوليو الشهر الأوّل في 2024 الذي لم ينفّذ فيه أيّ هجماتٍ في المراكز الحضرية في دير الزور أو الرقة.

لم يدم انخفاض هجمات التنظيم طويلاً، فقد عاد مستهدفاً العاصمة دمشق. كان الهجوم الأول بتفجير دراجةٍ مفخخةٍ في منطقة السيدة زينب جنوب العاصمة، ثم بهجومين آخرين في مارس ومايو 2024 في دمشق. لم يعلن التنظيم مسؤوليته عن الهجومين، ولكنهما يحملان نمط عملياته نفسها.

أظهر نشاط تنظيم الدولة الإسلامية في الفترة التي سبقت سقوط النظام السوري في 8 ديسمبر 2024 طاقةً وقوةً متجدّدتين. وهدف العودة للسيطرة على مناطق مدنيةٍ لتشكيل نقطة انطلاقٍ لانبعاثه الثاني، بعد سنواتٍ من العمليات المستمرة ضدّ النظام وقوات قسد وحلفائهم.

أسهمت عوامل داخليةٌ وخارجيةٌ في استمرار التنظيم بين سنتَيْ 2017 و2024. وكان من أهمّها قدرته على استيعاب الصدمة التي لحقت به بعد انهياره، وإعادة هيكلة أجهزته الإدارية والعسكرية، وإعادة تخصيص موارده لمهماتٍ ذات أولوية. فبين سنتَيْ 2017 و2018، أعاد التنظيم ترتيب صفوفه، مغيّراً هيكليته الإدارية لتتناسب مع واقعه الجديد. وتحوّل من مشروع “الخلافة” السياسي إلى منظمةٍ متمردةٍ، نتيجة خسارته المدن والأرياف التي كان يسيطر عليها. وأدّى ذلك إلى التحول من المركزية إلى اللامركزية الإدارية والعسكرية. فأصبح عمله قائماً على وحداتٍ عسكريةٍ محدّدة النطاق الجغرافي، قادرةٍ على العمل المستقل نسبياً من غير حاجةٍ للرجوع باستمرارٍ إلى القيادة المركزية، بل إلى قيادات الولايات. وكانت أهدافه في هذا التحول حماية قيادته المتوارية وتسهيل عمل خلاياه وتكثيف عملياته العسكرية للحفاظ على فكرة التنظيم وشعاره “باقية وتتمدد”، في إشارةٍ إلى الدولة الإسلامية. وقد قاد هذا التحول الخليفة الثاني أبو إبراهيم الهاشمي القرشي.

كان تفعيل الفروع الإقليمية العامل الثاني الذي أسهم في استمرار التنظيم. فبعد سقوط “مشروع الخلافة”، سارعت القوى المناوئة للتنظيم إلى زيادة الضغط الأمني والعسكري على خلاياه في سوريا والعراق. دفع هذا التنظيم، في عهد الخليفة الثاني أبي إبراهيم القرشي، إلى تخفيف نشاطه في سوريا والعراق، والاعتماد على فروعه الإقليمية، لا سيّما في إفريقيا وآسيا الوسطى. وكان هدفه تجنب ردود الفعل المعادية وصرف الأنظار عن معاقله السابقة ومنح فروعه المنتشرة في العالم المبادرة، بعد أن كانت دائرة المركز تستحوذ على الاهتمام المحلي والدولي.

أما العامل الثالث فيبدو أنه متعلقٌ بتغيير النمط العسكري. اعتمد تنظيم الدولة الإسلامية دمج خطط المجموعات العسكرية غير الحكومية مع خطط الجيوش التقليدية. يرجع أسلوب داعش الأول إلى جذوره في تنظيم القاعدة في العراق، واقتباسه تكتيكات حزب الله، بينما يرجع أسلوبه الثاني إلى انضمام ضباطٍ بعثيين سابقين في الجيش العراقي إلى تنظيم القاعدة ثم داعش. تخلّى التنظيم بعد انهياره عن تكتيكات الجيوش النظامية واعتمد تكتيكات حرب العصابات، فصار ينفذ الهجمات الصغيرة ذات الأهداف المحددة في أوقاتٍ وأماكن مختلفة. تجنّب التنظيم السيطرة على مناطق مأهولةٍ، لتفادي مواجهاتٍ مباشرةٍ مع القوى المعادية، ممّا قلّل من خسائره البشرية والعسكرية. فاعتمد التنقل المستمر في البادية، مستفيداً من إمكانية تخفّي عناصره ضمن تضاريسها.

تحوّل التنظيم ضمن استجابته للانهيار إلى هيكلية “الولايات الأمنية”، خاصةً في مناطق سيطرة قسد، والذي يعتمد خلايا سريةً تستهدف الأطراف المعادية. تتكوّن هذه الخلايا من عناصر درّبهم التنظيم سابقاً، وآخرين استسلموا لقسد لكنهم ما زالوا يقدمون الدعم السرّي، مُشكّلين بذلك الجهاز الضارب الذي اعتمد عليه في حربه الأمنية طويلة الأمد.

تخلّى التنظيم عن الهجمات واسعة النطاق، بعد أن درج قبل سقوطه على التضحية بمئات المقاتلين في هجماتٍ كبيرة بهدف تحقيق السيطرة. كما حدث في معركة مطار الطبقة في أغسطس 2014 والتي خسر فيها داعش أكثر من ثلاثمئة مقاتلٍ في أيامٍ قليلةٍ نتيجة الغارات الجوية للنظام. إلّا أنّه واصل هجومه على المطار حتى سيطر عليه.

ولكن بعد انهياره وسقوط مناطق سيطرته، اعتمد على هجماتٍ محدودةٍ تُنفّذها مجموعاتٌ صغيرة. وصلت هذه المجموعات واستهدفت طرق إمداد النظام في البادية، مستفيدةً من قلّة العتاد والأعداد التي تحتاجها، ووقوع طرق الإمداد بعيداً عن مراكز النظام. ففي هجماتٍ قرب قرية كباجب في محافظة دير الزور وطريق أثريا قرب حلب، لا تصل تعزيزات النظام إلا بعد انتهاء الهجوم. وتسمح طبيعة الأهداف المتحركة على الطرق باستخدام العبوات الناسفة والألغام، مما يبعد عناصر التنظيم عن الاستهداف المباشر، لاسيما بعد أن تقلصت أعداده مع تراجع عمليات التجنيد عقب هزيمته في سوريا والعراق.

لربما أخطأت القوى التي تحارب تنظيم الدولة الإسلامية في استعجال إعلان هزيمته. فعودة التنظيم في شمال سوريا وشرقها لم تكن بسبب تكتيكاته فقط، وإنما أيضاً بسبب سياسات قسد التي أسهمت في استمراره. مقارنةً بالأطراف الأخرى، كان لقسد العدد الأكبر من عناصر التنظيم المعتقلين في سجونها، إضافةً إلى مخيم الهول، في محافظة الحسكة، الذي ضمّ أكبر عددٍ من عوائل المقاتلين المحليين والأجانب. وكان لها تجربةٌ في إخضاع عناصر التنظيم للمحاكمات والأحكام القضائية، ولكن لم تطبقها دائماً بسبب استخدامها هؤلاء المعتقلين وعائلاتهم ورقةً سياسيةً خارجياً. فمعظم الدول الغربية لم تشأ استقبال مواطنيها من عناصر التنظيم وعائلاتهم.

اعتقلت قسد آلافاً من عناصر تنظيم الدولة الإسلامية وعائلاتهم بين 2017 و2019، ووزّعتهم على مراكز اعتقالٍ. منها سجنا الحسكة وعين العرب (كوباني)، ومخيّما الهول وعين عيسى شمال سوريا. ثم أطلقت سراح كثيرٍ من المقاتلين، وخاصةً السوريين، بذرائع مختلفةٍ نتيجة التوسط العشائري أو العفو. وقبل سقوط النظام أفرجت قسد عن المزيد من عائلات مقاتلي التنظيم من مخيم الهول، من غير اتخاذ تدابير إعادة دمجهم في المجتمع. لم تُبذل أي جهودٌ لمعالجة الإرث الديني والعقائدي، مما أبقى بعض هؤلاء المقاتلين رهن أفكارهم الأولى التي نُسب إليها التطرف والعنف. وقد جنّد التنظيم عدداً منهم في وحداته شرق الفرات.

شهدت مناطق سيطرة قسد شمال شرق سوريا، كالمناطق السورية الأخرى، ظروفاً اقتصاديةً صعبةً نتيجة انخفاض سعر صرف الليرة وارتفاع أسعار السلع الغذائية ونقص فرص العمل. تفاقمت الأزمة بسبب جائحة كورونا سنة 2021 وانخفاض الاستثمار، ما دهور الوضع الأمني. أسهمت سياسات قسد كذلك في الأزمة بإهدارها النفط والقمح ببيعهما إلى النظام السوري السابق، مما أدّى إلى نقص الوقود والخبز في مناطقها. كذلك غضّت الطرف عن تهريب المواد الغذائية والمستلزمات الطبّية من مناطق سيطرتها إلى مناطق النظام بسبب فارق الأسعار. وخصصت حصةً كبيرةً من موارد المنطقة للجهد العسكري ضدّ داعش والجيش الوطني السوري المدعوم تركيّاً. تفاقم سوء الظروف الاقتصادية وفشل المجالس المدنية، وعدم تمثيلها للمجتمعات المحلية، أدّى إلى احتجاجاتٍ شعبيةٍ في دير الزور والرقة والحسكة طالبت بمزيد من الموارد لدعم التعافي الاقتصادي. استغلّ التنظيم الفوضى المصاحبة للاحتجاجات والسخط الشعبي على أداء الإدارة لتقوية خلاياه وزيادة نشاطه.

بعد ضعف قبضة تنظيم الدولة الإسلامية شمال شرق سوريا، حاولت قسد بناء الثقة مع العشائر التي تشكّل غالبية المجتمعات المحلية، لاسيما قبائل العكيدات والبكارة وشمر والجبور والعفادلة. كانت هذه العشائر تدير المناطق الجغرافية والموارد الطبيعية في مناطق نفوذها قبل سيطرة داعش على تلك المناطق. وحاولت قسد كسب ولاء المجتمعات العشائرية بالسماح لها بالمشاركة في إدارة مناطقها. وقد حدث ذلك بتشكيل المجالس المدنية في الرقة ودير الزور والحسكة، والمجالس العسكرية التابعة لها. أُسندت قيادة هذه المجالس إلى شخصياتٍ عشائريةٍ، كما في حالة مجلس دير الزور العسكري الذي عُيّن لقيادته أحمد الخبيل من قبيلة العكيدات، وأُبقيت “قوات الصناديد” التي تمثل قبيلة شمر في هيكلية قسد.

سرعان ما انهارت هذه المحاولات لأسبابٍ كثيرة. أوّلها أن الإدارة الذاتية لم تمنح العشائر إلّا سلطةً شكليةً فقط، مع الحفاظ على السلطة الحقيقية في أيدي شخصياتٍ كردية. والسبب الثاني كان اغتيال العديد من زعماء العشائر، مثل الشيخ فيصل الهويدي في الرقة والشيخ مطشر الهفل في دير الزور. وفي حين اتَّهَم بعض المراقبين قسد بالتآمر لتنفيذ تلك الاغتيالات، لامَها آخَرون لعدم تأمين المنطقة.

حدثت أوسع حالات التمرد في نهاية أغسطس 2023 عقب اعتقال قوات قسد أحمد الخبيل، قائد مجلس دير الزور العسكري، وهو ما كان محفّزاً لانتفاضة عشيرته العكيدات. وكان إبراهيم الهفل، القائم بمشيخة العكيدات في سوريا نيابةً عن أخيه مصعب المقيم آنذاك في قطر، قد تزعم تمرداً مسلحاً فشل في النهاية.

وإن استطاعت قسد هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية بدعمٍ أمريكي، إلّا أنها أخفقت في معالجة أسباب وجود التنظيم في المناطق تحت سيطرتها، بل وأسهمت في الإبقاء على عوامل بعثه. أمرٌ مشابهٌ حدث في مناطق سيطرة النظام السوري السابق. فقد أسهمت سياساته في استمرار وجود التنظيم وتعزيزه. كذلك اختار سياسة الحرب وإخلاء مناطق سيطرته من أيّ أثرٍ للتنظيم، حتى على مستوى الحاضنة الاجتماعية المحتملة، إلّا في بعض الحالات التي استقطب فيها وجهاء أو شيوخ عشائر كانوا متحالفين مع التنظيم بعد سنة 2017 تحت مسمّى المصالحات بهدف كسب ولاءٍ محلّيٍ يحيّد التنظيم.

تجنّب النظام وحلفاؤه ملاحقة خلايا تنظيم الدولة الإسلامية في البادية السورية في الفترة الأولى عقب انهياره، بسبب تركيزهم على معارك حلب وريف إدلب ضدّ فصائل الثورة السورية. منح هذا الوضع التنظيمَ فرصةَ بناء قدراته وتعزيز صفوفه. وبعد اتفاق سوتشي لوقف إطلاق النار بين النظام والمعارضة في إدلب ومحيطها في مارس 2020، حاول النظام إنهاء وجود خلايا التنظيم في البادية السورية. ولكنه فشل.

كانت العمليات العسكرية ضد التنظيم في البادية ردود فعلٍ غير منتظمةٍ تفتقر إلى الاستراتيجية. أتت دائماً عقب هجماته العنيفة، التي أوقعت خسائر فادحةً في النظام وحلفائه. أعلن النظام وحلفاؤه “عملية تطهير” منتصف 2020، ردّاً على هجمات التنظيم على السخنة وحقلَيْ آراك والهيل النفطيَّيْن في البادية السورية. ثم عملية “الصحراء البيضاء”، والتي كانت ردّاً على مقتل الجنرال الروسي فيتشسلاف غلادكيخ في ريف دير الزور الجنوبي. ثم عملية أخرى مطلع 2021 بعد هجومٍ استهدف عناصر الفرقة الرابعة لجيش النظام.
افتقر الحلف المعادي للتنظيم إلى مخطّطٍ عسكري زمني محدّد للقضاء على تلك الخلايا، واعتمد هجماتٍ متقطعةً غالباً برّيةً دون إسنادٍ جوّيٍ، أو عملياتٍ جوّيةٍ فقط. وكان التنافس الروسي الإيراني على النفوذ في شرق سوريا من أسباب الفشل. فالقوات الروسية والإيرانية لم تؤدِّ دوراً كافياً في دعم العمليات العسكرية ضد خلايا التنظيم في البادية، وإنما ركّزت فقط على تعزيز مناطق نفوذها في الحواضر المدنية في ريف حمص ودير الزور وريف الرقة الجنوبي.

كان الضعف الاستخباراتي سبباً آخَر لفشل القضاء على خلايا تنظيم الدولة الإسلامية في البادية. فشكل العمليات العسكرية ومناطق انطلاقها والنقاط المستهدفة تؤكد جهل القوى المهاجمة أماكن تمركز التنظيم. كما غابت عنها المعلومات اللازمة لرصد تحركات التنظيم وتوقع هجماته. كان وجود التنظيم في مناطق نائيةٍ بالبادية، بعيداً عن المجتمعات السكانية، عاملاً أسهم في حصانته الأمنية النسبية، ما عدا عمليات اختراقٍ محدودةٍ ومعلوماتٍ من متعاونين من خارجه.

في الأشهر الثلاثة التي سبقت سقوط النظام السوري لم تتراجع هجمات تنظيم الدولة الإسلامية. ففي نوفمبر 2024، نفذ التنظيم ستّ هجماتٍ في محافظات حمص وحماة ودير الزور، أسفرت عن مقتل ثمانيةٍ من جنود النظام واثنين من المدنيين.

ومع إعلان معركة “ردع العدوان” في 27 نوفمبر 2024 وإثر الانهيار السريع لقوات النظام السوري في حلب وحماة وحمص، والذي تبعه في 6 ديسمبر انسحابٌ سريعٌ لقوات النظام من دير الزور ومناطق السخنة وتدمر وسط حمص، تحرك التنظيم من البادية واستهدف أرتال قوات النظام المنسحبة. كما توسّع مؤقتاً في بلدات الكوم والطيبة والحميمة في ريف تدمر. وثمّة شكوكٌ بتنفيذه عمليةً في القريتين بريف حمص قُتل فيها عنصرٌ من الدفاع المدني السوري في 9 ديسمبر، لم يعلنها التنظيم رسمياً.

لم يتوسع تنظيم الدولة الإسلامية في محافظة دير الزور بسبب دخول قسد مركز المدينة وملء الفراغ الأمني الذي تركه النظام. وفي وقتٍ لاحق انسحبت قسد وتسلّمت قوات العشائر المحلية وقوات الدولة السورية الجديدة المدينة.

تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية لمنع التنظيم من الاستثمار في حالة الفوضى وإعادة تشكيل نفسه وسط سوريا. ففي 8 ديسمبر 2024، أعلنت القيادة المركزية الأمريكية تنفيذ خمسٍ وسبعين غارةً على الأقل ضدّ معسكرات تنظيم الدولة الإسلامية وعناصره. كانت هذه المعسكرات مركز ثقل التنظيم منذ سنة 2019 ولعبت دوراً في عملية تجنيد وتدريب مقاتليه. وقد أكّد لي سكانٌ محليون في زيارتي أن “بعض الغارات الجوية استهدفت قوات التنظيم التي تجمعت لمهاجمة مدينتي تدمر والسخنة”.

وفي 16 ديسمبر 2024 أعلنت القيادة المركزية الأمريكية تنفيذ غاراتٍ قتلت فيها اثنَيْ عشر عنصراً وقيادياً من التنظيم في سوريا. ثم في 19 ديسمبر نفذت غارةً قتلت قياديّاً في التنظيم في محافظة دير الزور. وفي 23 ديسمبر أعلنت استهداف شاحنةٍ محمّلةٍ بالأسلحة تابعةٍ للتنظيم، وأعلنت دعم عمليةٍ هجوميةٍ في الثاني والثالث من يناير 2025 نفذتها قسد وقبضت فيها على زعيم خليةٍ هجوميةٍ للتنظيم.

دفعت الهجماتُ الجوية الأمريكية التنظيمَ إلى الانكفاء نحو مناطق وجوده السابقة لتجنّب مزيدٍ من الخسائر، والانتقال من محاولة السيطرة على الأرض إلى إرسال خلايا للتسلل إلى المحافظات ومراكز المدن. وهو ما فعله سابقاً قبل بناء شبكاتٍ جديدةٍ وتنفيذ هجماتٍ ضدّ أهدافٍ مدنيةٍ أو حكومية.

وكشفت معركة إسقاط النظام السوري حقائق كانت مجهولةً حول تنظيم داعش. وقد أتاح لي التنقل داخل الأراضي السورية فرصة اللقاء بقادةٍ سابقين في التنظيم، وآخرين ما زالوا على علاقةٍ به. ففي 9 يناير 2025، التقيتُ عبر وسيطٍ من أهالي تدمر أحدَ قادة التنظيم في البادية، الملقّب “أبو مقداد العراقي”.

جرى اللقاء في خيمة عائلةٍ بدويةٍ على بُعد خمسةٍ وثلاثين كيلومتراً غرب مدينة تدمر. ألحّ أبو مقداد أولاً أن عمليات قتل المدنيين في البادية بالسنوات السابقة، وخاصّةً جامعي الكمأة –وهي من الفطريات الصحراوية التي تؤكل– لم تكن من فعل مقاتلي التنظيم، متهماً الميليشيات المدعومة إيرانياً بتنفيذها. وقال إنّ تفاهماتٍ غير مباشرةٍ سابقةً منعت الصدام المباشر في البادية بين التنظيم وهيئة تحرير الشام بمعركة إسقاط النظام وما تلاها. وقال أيضاً إنّ التنظيم انقسم بعد سقوط النظام بين تيارٍ يفضل الوصول إلى تفاهمٍ مع الحكومة الجديدة ووقف نشاط التنظيم، وتيارٍ آخَر يصرّ على استمرار النشاط في سوريا.

ولكن ملامح المواجهة بين الحكومة الجديدة وتنظيم الدولة الإسلامية استؤنفت بعد سقوط النظام. فقد أعلنت الحكومة السورية الجديدة في 11 ديسمبر 2024 القبض على خليةٍ تابعةٍ للتنظيم كانت تنوي تفجير مقام السيدة زينب في دمشق، وقالت إنها أفشلت عدّة هجماتٍ أخرى. وفي 16 فبراير 2025 أعلنت القبض على أبو الحارث العراقي، وقالت إنه كان مسؤول ملفّ الوافدين ونائب مسؤول التجهيز في “ولاية العراق”، ومخطِّط عملية السيدة زينب التي أُفشلت وعملية اغتيال القيادي العراقي في هيئة تحرير الشام ميسّر بن علي الجبوري المعروف بلقب “أبو مارية القحطاني” في 5 أبريل 2024.

تمتدّ خطوط التماسّ بين مناطق نشاط تنظيم الدولة الإسلامية والحكومة السورية الجديدة في ريف دير الزور الغربي والجنوبي، ومدينتي السخنة وتدمر في بادية حمص وريف حماة الشرقي وريف الرقة الجنوبي. ولكن لم يسفر هذا التماسّ عن عملياتٍ عسكريةٍ بين الطرفين. فحكومة دمشق لديها أولوياتٌ أخرى مثّلت بالنسبة لها تهديداً أكبر على استقرار الحكم. أما التنظيم فيبدو أضعف من المواجهة المباشرة بعد تفرّغ عشرات ألوف مقاتلي الفصائل الثورية من المعركة ضد نظام الأسد.

وحالياً، تتحرك خلايا داعش بين مناطق نشاطه ومناطق سيطرة قسد أيضاً، عبر نهر الفرات ومنطقة الطبقة وريف الرقة الجنوبي الشرقي. هذا وسط تكثيف الولايات المتحدة نشاطها لفرض رقابةٍ جوّيةٍ على حركة التنظيم وعمليات تهريب السلاح.

هذا الهدوء الحذر بين التنظيم والحكومة السورية الجديدة، قد لا يمثل تغييراً في نظرة تنظيم الدولة الإسلامية لهيئة تحرير الشام وفصائل الثورة السورية بالعموم. فما يزال يراها جماعاتٍ وفصائل “مرتدة” و”عميلة” لصالح دولٍ إقليميةٍ وغربية. وقد نشر التنظيم موقفه الأول بعد سقوط نظام الأسد في 25 يناير 2025، إذ صدّر افتتاحيةَ صحيفته الرسمية “النبأ” بعنوان “سوريا الحرّة وسوريا الأسد”. وأكّد أن الفصائل التي أسقطت نظام الأسد إنما هي “صحوات” تحركت بأوامر غربيةٍ ضمن مشروع محاربة إيران وحلفائها في المنطقة عقب حرب السابع من أكتوبر 2023 في غزة. وزعم المقال أن هيئة تحرير الشام تسعى لإقامة دولةٍ مدنيةٍ ديمقراطيةٍ لإرضاء الغرب، مقابل السماح لها بالحكم.

ومن هنا، يبدو موقف التنظيم متناقضاً، بين موقفٍ عمليٍ أقرب إلى الهدوء وتجنّب الصدام مع الدولة الجديدة، وموقفٍ عقديٍ يرفض ويكفّر هذه الإدارة لعدم تطبيقها الشريعة وانفتاحها على فكرة الدولة والالتزام بالشرائع الدولية.

يبقى الثابت أن المرحلة الحالية في سوريا قد تمثّل فرصةً أمام تنظيم الدولة الإسلامية للتسلل إلى المناطق الحضرية الكبرى وتعزيز قدراته العسكرية بفضل انتشار السلاح. وبعد أن باتت حدوده في سوريا بلا حرسٍ بعد انهيار جيش النظام السوري وحلّه، تولّد فراغٌ عسكريٌ قد يسمح بتنقّل مقاتلي التنظيم. يُضاف إلى ذلك حداثة الجهاز الأمني السوري الجديد وهشاشته، والذي توسّع فجأةً من إدلب إلى سوريا كلّها، وهو ما قد يمثّل أيضاً ثغرةً يستطيع التنظيم استغلالها.

ولكن، وفق ما تشهده الأرض آنياً، يبدو أن رؤية التنظيم الحالية تتلخص بتأجيل مواجهةٍ قد تكون خاسرةً مع الدولة الجديدة، وتعزيز القوّة لتجنّب استنزاف قدراته المتبقية.

ينتظر التنظيم أيضاً تطورات ملفّ “مناطق قسد” ومصير مخيم الهول وعناصره المعتقلين في سجون الحسكة والقامشلي والرقة، والتي قد تُسهم في تعزيز صفوفه لو أُفرج عنهم. كذلك قد يعود التنظيم إلى عمله الدعائيّ لجذب مقاتلين جددٍ، وخاصّةً من الجهاديين الأجانب أو عناصره في ولاياتٍ أخرى، بسبب الفراغ الأمني الاستخباري في سوريا حالياً. وقد يعمل على استقطاب التيار الجهادي المتشدّد الذي كان ضمن هيئة تحرير الشام أو حلفائها، والذي قد لا يرضى توجّهات الحكومة الجديدة التي تسعى للتوافق مع المعايير الدولية.

ولكن تنظيم الدولة الإسلامية يواجه تحدّياتٍ أكبر تهدّد هذه الفرص. أوّلها خبرة هيئة تحرير الشام في محاربة داعش والقضاء على خلاياه في إدلب سابقاً، ممّا يرجّح قدرتها على تفكيك غالبية شبكات التنظيم في المناطق المأهولة. وقد يحدُّ سقوط نظام الأسد وإمكانيةُ تحقيق استقرارٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ في البلاد من قدرة التنظيم على تجنيد متطوعين جددٍ، خصوصاً في شرق سوريا وشمالها، حيث جرت معظم عمليات التجنيد.

وقد يمثل الاتفاق بين حكومة دمشق وقسد في 10 مارس 2025 حلّاً ولو جزئياً للغضب في مناطق الجزيرة السورية ضد قسد، وهو ما دفع من قبلُ مقاتلين سابقين في التنظيم إلى العودة نحوه أو منحه متطوعين جدداً. ناهيك من التحديات والعوامل الخارجية التي قد تُعيق مساعي التنظيم، وأهمّها الوجود الأمريكي، خصوصاً القواعد العسكرية في التنف وحقل العمر والحسكة.

مع ذلك ربما لن تثني هذه التحدياتُ التنظيمَ عن السعي إلى استئناف نشاطه في سوريا، لمركزيتها إلى جانب العراق في مخيال التنظيم وأدبياته. يعزّز هذه المركزيةَ جاذبيةُ البلدين في رواية التنظيم عن الخلافة، وكونهما المركز الأول للتنظيم عندما أعلن الخلافة، وكونهما مقرّ الخلافة الإسلامية التاريخية. ولا تمتلك فروع التنظيم الإقليمية عمقاً رمزياً يؤهلها لتكون مركزاً آخَر للخلافة. وفي سوريا تقع قرية دابق التي ورد فيها حديثٌ نبويٌ عن معركةٍ بين المسلمين والروم قبل قيام الساعة، ويستعيده التنظيم في أدبياته بوصفه مَن يمثل المسلمين في معركة نهاية الزمان. ومن هنا جاءت تسمية مجلة التنظيم السابقة “دابق” وقد سيطر التنظيم على دابق في أغسطس 2014 وقاتل هناك حتى خسرها في أكتوبر 2016 أمام فصائل الجيش السوري الحرّ المدعومة تركيّاً.

تواجه الدولة السورية الجديدة خطر عودة نشاط تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا، الذي أثبت قدرته العالية على التكيّف مع تغيّر الأوضاع العسكرية ومقتل قياداته المتكرر. فقد غيّر باستمرارٍ هيكليّته وأدوات تواصله وآليات الحشد والتعبئة وتكتيكات عملياته العسكرية، مستفيداً من ثغرات خصومه ومشاكلهم الداخلية. وأثبتت خطط الأطراف المحاربة للتنظيم فشلَها في إنهاء هذا الملفّ.

ومع تأخر وقوع المواجهات بين داعش والدولة السورية الجديدة، فإن التنظيم لم ينته بعد، وهذه المعركة قد تكون مؤجلةً لا منتهية.