تسلّل المغول إلى أزقّتها ولم يخرجوا من الجانب الآخر. كانوا غرباء مثل أهلها. “بمَ التعلّل لا أهل ولا وطن”. لا أحد يلتفت إلى أحد. ولا ثغاء بعدما سكر الرعاة وناموا. بغداد نامت تحت وسادة ابن زريق في الأندلس مثل قصيدته “استودع الله في بغداد لي قمراً… في الكرخ من فلك الأزرار مطلعه”. كانت هناك مدينة تطعنه بالندم.
لديك مرآة لتنظر فيها يا عبدالوهّاب البيّاتي. قلت له ونحن جالسان في مقهى الفنيق بعمّان في تسعينيات القرن الماضي. قال: “تلك مرآة عائشة وليست مرآتي، وإلّا لما كتبت فقراء يا وطني نموت/ وقطارنا أبداً يفوت”. سمعت حينها صوت فوزي كريم الرخيم وهو يغنّي تلك الأبيات منتصف الليل في قاعة اتّحاد الأدباء. كان البكاء يومها عادة حميدة. كان هناك مَن يردّد: “ونحن من منفى إلى منفى ومن باب لباب/ نذوي كما تذوي الزنابق في التراب”. القطار الذي أقلّ ابن زريق إلى منفاه في الأندلس هو نفسه الذي كان يقلّنا إلى منافٍ متخيّلة، فيما كنّا نتأمّل بلبل رعد عبدالقادر وهو يتعجّب. عاش رعد عبدالقادر خمسين سنة فقط. كان صديقي الذي أورثني الكثير من ندمه. وإذا كانت لديه عاطفة فإنّه حرم شِعره منها لأنّه كان يخاف. يخاف البغداديون من عاطفتهم لأنّها تسلم مدينتهم للنار.
نحن مواطنون يمكن الثقة بهم والاطمئنان إليهم. نضحك لأنّنا كنّا تحت السيطرة ولسنا كذلك في الوقت نفسه. لن يكون هناك هذيان أكثر
ذهبت الأبخرة بعطر الجوريّ
كان علينا أن نعبر الشارع من الرصيف إلى الرصيف بأقدام البطّات المرحات التي لا تترك أثراً سوى الموسيقى. نحن مواطنون يمكن الثقة بهم والاطمئنان إليهم. نضحك لأنّنا كنّا تحت السيطرة ولسنا كذلك في الوقت نفسه. لن يكون هناك هذيان أكثر. حين جمعنا حميد المطبعيّ وكان داعية قصيدة نثر، إضافة إلى كونه ناشراً وصاحب مجلّة “الكلمة”، قال كما لو أنّه يسخر: “ينتظركم الشِعر العراقي بلهفة”. أمّا حين توزّع شعراء جيلي بين بعثيّين وشيوعيّين فقد وجدت نفسي خارج الملعب. يومها أدركت ما ينتظرني من مصير، منفى من طراز خاصّ. أن تكون مستقلّاً في العراق فذلك معناه أن يضعك الجميع في موقع العدوّ.
حين نشر بدر شاكر السيّاب كتابه “كنت شيوعيّاً” اعتبره الكثيرون خائناً. كانت هناك وسائد مسمومة ينبغي على الشعراء أن يضعوا عليها رؤوسهم. لا حقّ لشاعر حتّى لو كان بمستوى السيّاب أن يخترع وسادة يريح عليها رأسه. “غريباً مرّ يا عيني وما سلم”، ذلك بيت مقتطع من قصيدة لشاذل طاقة. والغريب كان يقيم بيننا. قال لي: “خذني إلى مقهى العميان لأرى”. قال: “هذه مدينة يخيف ليلها نهارها، وفي كلّ فجر تشهق كما لو أنّها أُعيدت إلى الحياة”. قال: “ذهبت الأبخرة بعطر الجوريّ وصار البستان يرتجل نباتات ليست لها رائحة لكنّها تتسلّق الهواء مثل الأفاعي لترانا من فوق مثل عسس السلطان”. قلت: “سبقنا حسب الشيخ جعفر إلى قارّته السابعة”. قال: “ضحك علينا بحوريّاته الروسيّات اللواتي وجد المنفى الذي يسيل من عيونهنّ بارداً”.
هذه مدينة يخيف ليلها نهارها، وفي كلّ فجر تشهق كما لو أنّها أُعيدت إلى الحياة
أقلّيّة تتسلّى بعجين فاسد
كنت تنزلق من منفى إلى آخر أيّها الولد الطليق. ما كنتَ تملك سوى أن تفعل ذلك. تفتح قمصيك فيمتلئ بالهواء وتكون خفيفاً. غزال من هناك وطائر من هناك وريشتك تحلّق. لم تسمح لسوء الحظ أن يأخذ بيديك على الرغم من أنّ حقائبك كانت قد امتلأت بالخيبة. لم يكن لدموعك في ذلك الوطن معنى. كانت جُمل الأخضر بن يوسف تضرب شفاهنا بمناقيرها. وكنّا نتذوّق الدم ممزوجاً بالحبر. لم تكن لتحطّ رحالك حتّى فاجأتك العاصفة من جديد كما لو أنّك خُلقت للمنفى. وإلى آخر الأرض مشيت وأنت تكتب الوصفة التي يتمكّن المرء من خلالها أن يؤثّث منفاه بمواطنته الزائفة.
حين فتحنا عيوننا على مفردات تلك الوصفة كان سركون بولص في كاليفورنيا، وفاضل العزّاوي ومؤيّد الراوي وزهدي الداووديّ في برلين، وصلاح نيازي وعلي الشوك في لندن، وصلاح فائق في الفليبين، وعالية ممدوح وحسين علي عجه وكاظم جهاد وإنعام كجه جي في باريس. أمّا حين صدرت قائمة رسمية بالمرتدّين فقد اكتشفنا حجم الكارثة. لقد كنّا أقلّية. أقلّية تتسلّى بعجين فاسد. ربّما أكلنا الكثير من تماثيل الآلهة من غير أن ندري. كنّا نجلس تحت جدارية فائق حسن في انتظارك أيّها الولد الطليق ونراقب البروليتاريا التي خُيّل إليك ذات مرّة أنّها ستصل إلى قلب الشجرة. كان ذلك رهاناً خاسراً. خيالك يا سعدي تكسّر مثل آنية صينيّة. قبل أن تموت كانت وصفتك قد اكتملت، لكنّ لغزها ظلّ صامتاً.
إقرأ أيضاً: أكراد إيران: النوروز “عيد” الهويّة..
حتّى المنفى كان عصيّاً
سُيّجت بغداد بالنار من أجل ألّا يفرّ أحد منها. ذهبت ذات مرّة إلى الباب الوسطاني فالتقيت رجلاً أعمى. سألني: “هل أنت غريب؟”، قلت: “لا”، قال: “ما الذي تبحث عنه في مكان لا يؤمّه إلّا الغرباء؟”، سألته: “وما الذي يبحث عنه الغرباء هنا؟”، قال: “سيّدة ألمانية أخبرتني أنّها تفكر في الخروج من بغداد من غير أن يراها المغول”. قلت لنفسي حينها: “إمّا أن يكون ذلك الرجل متخيّلاً أو عاد الزمن بي قروناً إلى الوراء”. لم تكن لديّ فكرة عن العودة إلى المدينة بعدما سكنت السيّدة الألمانيّة خيالي. بعد ذلك رأيت جاسم الزبيدي المشهور بصوره التي التقطها لثوّار إريتريا في دائرة الجوازات. قال “انتهى الحظّ السيّئ. سأغادر إلى الكويت بعد أيّام”. بعد ذلك لم أرَه. غير أنّني كنت أفكّر في حظّه السيّئ حين سبقه الجيش العراقي إلى الكويت. حتّى المنفى كان عصيّاً. ليس من اليسير عليك أن تكون منفيّاً إذا كنت عراقيّاً. قالت لي المحقّقة في دائرة الهجرة السويدية: “سأضع أمامك جهاز تسجيل وعليك أن تتحدّث عشر دقائق متواصلة لكي نتأكّد من هويّتك”. حدث ذلك قبل أكثر من ربع قرن. أتذكّر أنّني رويت الكثير من النكات التي لا يعرفها سوى العراقيين، غير أنّني وجدتها فرصة للحديث عن لقائي بآدمون صبري. ذلك هو رائد القصّة القصيرة في العراق الذي كان منفيّاً من جهة أن لا أحد يتذكّره على الرغم من أنّني رأيته في السنة الأخيرة من عمره ولم يكن قد تجاوز الخامسة والخمسين.
*كاتب عراقي