أخبرتني أمّي أنّها في الستينيات دخلتْ وخالتي المدرسة، وكانت ترتدي الزيّ المدرسي الذي تكوّن من قميصٍ وتنّورةٍ إلى الركبة. تحكي لي بخلوِّ البالِ وصفاءِ روحِها أنّهما كانتا قد رجعتا من المدرسة يوماً وقد وجدهما خالي الكبير الذي كان مسافراً، فلم يعجبه زيّهما وضربهما وأجبرهما على لبسِ الفرّاشية، وهي الحجاب المغاربي الأبيض. صارت أمي وخالتي ترتادان المدرسة بالفراشية وعندما تدخلان بابها تنزع كل منهما قطعتها وتضعها في حقيبتها، وهكذا دار الحال حتى كشفهما جدّي بالفرّاشية في الشارع فضربهما وأدّبهما وسألهما عن الداعي الذي جعلهما تفعلان فعلتِهما فأشارتا إلى خالي. ذهب الجد إلى الخال وسخطَ فيه وأخبره ألا يتدخل في شأنِ ابنتيْه، ثم أمر البنتيْن أن تذهبا إلى المدرسة بالزّيِ الذي فرضته حكومة المملكة الليبية حينها.
في نفسِ الزمانِ، وحتى بعده في السبعينيات، وفي العاصمةِ الليبية طرابلس كانت النساءُ الليبيات قد بدأنَ دخول سوقِ العملِ وصار عندنا أوّل صيدلانيّة وكانت بعضُ الليبيات يغنّين ويرتدنَ المسارح والسينما ويكتبن بجرأة في قضايا المرأة. أمّا أمي وغيرها من النساءِ في تاجوراء، الضاحية الشرقية لطرابلس، فقبعنَ زمناً -استمر حتى اليوم- يتركنَ الدراسة مع أوّلِ عريسٍ يتقدمُ لهنّ ولم تنجُ من هذا القدر إلا قليلات اشتغلنَ معلّماتٍ أو طبيباتٍ في الأغلب.
هذا التقابل والاختلاف في التجربة النسوية هو ما تنصبُّ عليه مقالات هذا الأسبوع، وهي وإن كانت في عددها خفيفة مثل حلويات العيد، إلا أنّها معمّقةٌ وتبحثُ في مواضيع متشابهة وجادة من إيران إلى مصر وليبيا.
عدنا بعد عطلةِ العيدِ بمقالتي عن تجربةِ الليبيات مع القيودِ والعاداتِ الاجتماعية حسبَ المدينة التي يعشنَ فيها، بل حتى حسبَ البعد عن مركزِ المدينةِ نفسها، إذ قد تُحرمُ المرأةُ من الخروجِ من البيتِ إلا لأماكن بعينِها في بعضِ القرى. آخذك في مقالةٍ عن الطريق الطويل الذي قطعته الدولة الليبية والحركة النسوية وكيف تَركّزَ جُلّ شغلِهما على المدنِ الكُبرى مثل طرابلس وبنغازي، ولم يَعدُ تأثيرها مجالاتٍ بعينِها في أغلب المدن والقرى الليبية كحقِّ التعليم. ومع ذلك بقيت علاقة المرأة الليبية معقدة ومرتبكة مع الخروجِ إلى الفضاءِ العام والاحتكاك بالرجل، ويظهرُ هذا ردّة فعلِ الليبيين اليوم على برنامج المسابقات الرمضاني “عيلتنا أقوى” الذي اشْتُهِرَ في ليبيا وخارجِها وتظهر فيه نساءٌ ليبيات من كل نواحي البلاد يتباريْنَ في حلقاتٍ دراميةٍ تظهر فيها صورةُ المرأةُ الليبية الحقيقية. وكيف أنّ هذه الصورة يراها كثيرون خطيرةً، لأنّها قد تغيّر المجتمع تغييراً لم تقدر عليه الحركة النسوية والدولة الليبية في عقود.
اختلافُ التجربة هذا يتضحُ في مقالةِ الأسبوع الأخيرة التي كتبتها لنا بيسان أبو حميد عن التقاطعات بين تجربتيْ المغنية الإيرانية هايده والستّ أم كلثوم. تتقاطعُ بدايات هايده وأم كلثوم الفنيّة حتى تكادُ تبدو متطابقة، فكلاهما واجهتْ في البدءِ مجتمعاً محافظاً لا يعترفُ بالمغنيين، وإن كان يحبُ الغناء. وتشابكَ اللون الفنيّ بقدرِ التشابك الثقافي بين بلادِ العربِ وبلاد فارسِ، حتى يكادُ غناء هايده يشبه غناء أم كلثوم، مع الاختلافات بينهما. إلا أنّه بالقدر الذي حظيت فيه أم كلثوم باحترامٍ وتبجيلٍ من المجتمعِ والدولةِ معاً، حتى أصبحت رمزاً ثقافياً لا لمصرِ فقط، بل لكلِّ العرب. فقد واجهت هايده ظروفاً مختلفةً عندَ اندلاعِ الثورةِ الإسلامية في إيران، فقد حُرِّمت موسيقاها ومُنِعت وهربت من بلدِها وطالتها حملات تشويهٍ وشيطنةٍ، لكنها ظلت تغنّي لبلدِها في صبغةٍ من حنينٍ حتى أصبحت صوتَ الإيرانيين في الشتات.
هذه هي مقالات الأسبوع، وهو أسبوع يختلفُ في عددِ مقالاتِه عمّا سبقه حتى يتناسبَ مع مقامِ العيد.
فكل عامٍ وأنت بخير.