في منتصف الطريق بين مدينتي جبلة واللاذقية تقع قرية «قبو العوّاميّة» بالقرب من الساحل، يَقسمُ القريةَ طريقٌ دولي وسكّة قطار، ويُقدَّر عدد سكانها بخمسة آلاف نسمة بحسب مختار القرية. يُعرف الشاطئ القريب منها باسم «الشقيفات»، وهو مشهورٌ بتسبب دواماته البحرية بحوادث غرق للشبان، الذين يستمر بعضهم بالمغامرة والسباحة فيه. يوم الجمعة السابع من آذار (مارس) لم تكن دوامات الشقيفات هي التي تسببت بخسارةٍ لأهالي القرية الصغيرة، بل كانت المجزرة. عمليات قتل وتصفية على أساس طائفي استمرت على مدى ثلاثة أيام، وأدَّت إلى وقوع عشرات القتلى من المدنيين.
كانت القرية التي تحيط بها بساتين الليمون على موعد مع اقتحام مجموعات مسلحة، وقال الشهود الذين تحدثتُ إليهم إن معظم العناصر كانوا يرتدون أزياء مطابقة لتلك التي ترتديها الفصائل التابعة لوزارة الدفاع، وإنهم نفّذوا عمليات قتل جماعي شملت رجالاً ونساءً وأطفالاً.
وفقاً لشهادة الشاب (س.ص)، الذي وثَّقَ بنفسه أسماء 51 ضحية دفنهم بيديه مع مجموعة من سكان القرية، فإنّ عدد الضحايا الكلي قد يفوق هذا الرقم بكثير، كما تحدَّثَ عن جثث مجهولة الهوية لم يتم التعرف إلى أصحابها وتم دفنها أيضاً.
معظم الضحايا قضوا بطلقات نارية في أنحاء مختلفة من الجسم، وبعضهم أُحرِقَ أو شُوِّه بشكل متعمد، مما يعكس طبيعة الجريمة وهدفها في بثّ الرعب. تؤكد شهادات عديدة، بينها شهادة الناجي (ع.ج)، الدافعَ الطائفي وراء عمليات القتل، حيث قام المسلحون بمداهمة المنازل، وتصنيف الأهالي حسب طائفتهم، وقتل أفراد عائلات كاملة داخل البيوت. كثيرون من سكان القرية كانوا قد فروا من منازلهم ليلة المجزرة، بينما بقي آخرون في بيوتهم لاعتقادهم أنهم لم يرتكبوا شيئاً يستدعي الهروب. أولئك تحديداً كانوا أكثر من دفع الثمن من حياتهم في هذه المجزرة.
في اليوم السابق، الخميس السادس من آذار، دارت معارك على جسر القرداحة الملاصق لأحد مداخل القرية بين عناصر الأمن العام والفصائل التابعة للسلطة ومجموعات مسلحة من فلول النظام السابق. استيقظ أهالي قرية قبو العواميّة صباح يوم الجمعة، السابع من آذار (مارس) 2025، على أصوات إطلاق نار كثيف ومجموعات مسلّحة تنتشر على أطراف الطرقات وفي الأحياء. كان ذلك أول ملامح ما سيصبح لاحقاً واحدة من أعنف المجازر التي شهدها الساحل السوري. تحولت القرية خلال ساعات إلى ساحة اقتحام وترويع وقتل جماعي.
يقول (ع.ج)، أحد شهود العيان: «نحنا يوم الجمعة الصبحيات فقنا عالقواص، شفنا مجموعات مسلحين برشاشات وأجهزة، رحت لعندن عالطريق قلتلن: خير إن شاء الله، قالولي: روح من هون، كعروني من المنطقة». ويضيف أن هذه المجموعات استقرّت فيما وصفه بـ«المقر» على طريق جسر القرداحة، ومن هناك بدأت حركة انتشارهم نحو قلب القرية، حيث توالت الاشتباكات وأصوات الرصاص من عدة محاور.
في تلك الأثناء، قرّرَ قسمٌ من السكان الفرار عبر الطرق الجبلية أو باتجاه مدينة اللاذقية شمالاً أو مطار حميميم جنوباً. بينما فضّلَ آخرون البقاء في منازلهم، مقتنعين بأنهم لا علاقة لهم بأي صراع وأنهم مدنيون لا يشكّلون تهديداً. هذه القناعة، كما ستُظهِر الوقائع لاحقاً، كانت قاتلة.
(س.ص)، أحد أبناء القرية الذين نجوا من المجزرة، عاد إليها يوم الأحد التاسع من آذار ليجد أن «الضيعة كانت مغطاة بالمسلحين، وين ما رحت بيطلعلك واحد». ويقول إنه رأى جثثاً مرمية على الطرقات، بعضها مشوّه ومصاب بطلقات في الرأس أو الصدر، والبعض الآخر داخل المنازل. إحدى العائلات وُجد أفرادها مختبئين تحت الدرج، فيما كانت جثث أخرى على الأرائك أو ملقاة أمام المنازل.
المسلحون، بحسب عدة شهادات، لم يكونوا تابعين لجهة واحدة، كانت ملابسهم وأشكالهم متباينة. تنقلت مجموعات متعددة بين المنازل، تُفتش السكان وتسألهم عن هويتهم الطائفية. وفي حالات كثيرة، كان مجرد الانتماء كفيلاً بإصدار حكم الإعدام. يتحدث (ع.ج) عن فصائل دخلت منزله وسألته إن كان علوياً، وعندما أنكر وقال لهم إنه مسيحي، جاءه الرد: «نحن ما منقتل المسيحيين»، لتنقذه تلك الحيلة من قتل مُحقَّق.
في أحد البيوت، يروي أحد الشهود كيف قُتلَ أبناء عمومته: «قوصوهن وهنن قاعدين عالكنبايات بالغرفة… يوم الجمعة، أول يوم، وفي صور إلهم»، مشيراً إلى أنّ الفصائل المسلحة دخلت المنزل بعد أن تأكدت من انتماء الضحايا الطائفي، وأطلقت الرصاص دون تَردُّد. تابع حديثه: «بالضيعة في عالم كانت نايمة بالتخت قتلوهن، مافيهن بيمشو، عاجزين… حسب الفصيل، في منون بيدبح وبيقتل، وفي منون بس بيسرق». تتحدث شهادات كثيرة عن التباين بين مجموعات تسرق فقط، وأخرى تقتل الرجال فقط، وأخرى تقتل الرجال والنساء.
كانت الساعات الأولى من المجزرة، كما تُظهر الشهادات، مزيجاً من الرعب والفوضى والاستهداف، فقد كانت القرية تحت رحمة مجموعات مسلحة بلا رادع، ما تسبب بموجة قتل جماعي لم يتوقف حتى مساء الأحد. وبعد توقف حركة المجموعات داخل القرية، عاد بعض الأهالي الفارين من الأحراش والبساتين المجاورة والمناطق القريبة لاستطلاع الأوضاع.
الشاب (س.ص)، الذي وثّق أسماء 51 ضحية وشارك في دفنهم، كان من أوائل العائدين، يقول: «صرت أتجول بالضيعة، رحت عكل واحد سمعت إنو ميّت ببيتو وصوّرتو… الأغلبية كانوا ببيوتن، عالم عقعدتن مقتولين، وعالم حاشرينا تحت الدرج». يقول أيضاً إن بعض الضحايا تم سحبهم من سياراتهم وقتلهم على الطريق، بينهم نساء وأطفال.
السيدة العجوز (ل.ز)، التي كانت وحيدة في منزلها، لم تعرف إلّا بعد يومين أن شقيقها الذي خرج صباح الجمعة ليجلب السجائر قد قُتل، حين جاء ابن شقيقها وأخبرها بالحقيقة. تقول: «قالولي في حدا مشلوح هون ميت عالطريق، قلتلن ما بعرف مين هو… بعدين شافوه عالأرض مغطايينه». (س.ز)، ابن أخ السيدة، يؤكد أنّ عمته بقيت ثلاثة أيام وحيدة في المنزل، وكانت تتعرض للمداهمة المتكررة: «كانوا يخلعوا الباب ويقلولا: معقول ما حدا عندك؟ كانوا ناطرين يجي حدا من قرايبينا مشان يقتلوه… وكل شي انسرق، من سيارات لبطاريات، لحتى لوحة الطاقة الشمسية».
أم أيمن، التي فقدت ابنين وحفيداً، روت أن المسلحين أخذوا الضحايا من داخل المنزل بعد تفتيشهم، وأعدموهم على الطريق قرب منزلهم: «ركضت باتجاهن، لقيتن عالأرض مقتولين، والعناصر عم يصوروا ويتباهوا…». أضافت: «كانوا يفوتوا يسرقوا قدّامنا، ياخدوا صور مع الجثث، يهددونا، ويروحوا».
كانت الجثث على قارعة الطريق، وفي البيوت، وداخل الحقول. نساء وأطفال وشيوخ. وكلما تنقّلَ الأهالي العائدون في الأزقة، كانت تتكرر المشاهد ذاتها: أجساد ممددة، دماء مسفوكة، ومنازل محترقة تنضح بالموت. راح يتكرّس سؤال ثقيل في ذهن الناجين: «مين هني؟»؛ من هؤلاء الذين اقتحموا البيوت؟ قتلوا أطفالاً على الأرائك، ونسوة تحت الأدراج، ووقفوا يصوّرون جثث الضحايا كما لو أنهم في استعراض دموي؟
الناجون وصفوا المهاجمين بأنهم كانوا يرتدون زياً عسكرياً مطابقاً لزي الفصائل التابعة لوزارة الدفاع، بعضهم كان ملتحياً، وآخرون ملثّمون بالكامل. كان بينهم أشخاصٌ يرتدون ملابس مدنية أيضاً. الشاب (س.ص) قال: «هنن نفسن الفصايل والإدارة بس بيغيروا تيابن…لا في فصايل منفلتة ولا في شي كلو تابع للجيش السوري». أما (ع.ج) فأكد أن لهجات المهاجمين كانت متنوعة: «في منن لهجاتن من الداخل، وفي واحد لادقاني مثلاً عرفتو من لهجتو».
أحد المسلحين قدّمَ نفسه باسم «الحوت»، وقال لعائلة (ع.ج) التي ادّعت بأنها مسيحية: «قولوا إنكم بحمايتي إذا حدا قرب عليكن». بالرغم من ذلك كاد فصيلٌ آخر أن يقتل العائلة نفسها لولا تدخل «الحوت» في اللحظة الأخيرة. يعكس هذا حالة الفوضى والتباين في انتماءات المهاجمين ومرجعياتهم وأسلوبهم، لكن قدرة الحوت على منع القتل تشير إلى أنهم يتبعون في النهاية إلى سلطة واحدة.
يروي (س.ص) كيف اقتربت منه مجموعة بعد عودته إلى القرية، وقالت له إن سيارته «مُعمّمة» بمعنى أنه مطلوب وأنه من «فلول النظام»، وأرادوا مصادرتها. حين حاول الاتصال بشخص من الأمن يدعى «ساجد»، انسحب المسلحون فوراً. هذا يُشير إلى أن بعضهم على الأقل، يعمل تحت غطاء أمني.
بعد المجزرة
بعد انقضاء المجزرة وخروج المجموعات المسلحة من قرية قبو العوامية، لم تنتهِ المعاناة، بل بدأت مرحلة جديدة من الرعب والفوضى الأمنية. فبينما خيّمَ صمت ثقيل على البيوت والطرقات، استمرت مظاهر هذا الانهيار: سرقة، تهديدات، غياب تام للمحاسبة، وحالة من الفلتان المُسلَّح تحت سلطة قوى الأمر الواقع.
الشاب (س.ص) يصف الأوضاع بُعيدَ المجزرة: «ما حدا قرب علينا، لا إغاثة ولا حدا… الهلال الأحمر وزع شوية حصص غذائية للبيوت المحروقة، والباقي ولا شي… أول يومين كانوا الحواجز تبع الفصائل يفتشوا ويدققوا. بعدين صاروا يلبسوا لباس الأمن العام، يبينوا أريح ويتصرفوا أحسن، بس هني نفسن». ويشير إلى أن الحواجز عند مفرق كلماخو وعلى الأوتوستراد لم تكن لضبط الأمن، بل باتت مصدراً لترويع ما تبقى من الأهالي.
في شهادته، يقول (ع.ج): «بعد يومين من المجزرة، صارت الناس تجي للتعفيش، ما عاد في بيت ما انسرق، كل واحد حامل بارودة كان يدخل ويسرق». تحولت القرية إلى منطقة يحكمها الخوف والسلاح، اختفى القانون، وحكمتها مجموعات متصارعة على الغنائم. الحياة اليومية صارت مرادفة للنجاة، والبيوت التي نجت من الحريق لم تنجُ من السرقة، فيما بقي الناجون ينتظرون مساءً جديداً، لا يحمل معه سوى احتمال الخطر.
يروي (س.ص) أنّهم بعد نحو أسبوعين من المجزرة شاهدوا محالهم وبيوتهم تتعرض للنهب دون أن يتمكنوا من التدخل: «دقّينا لأبو علي الهاشمي، هاد المسؤول الأمني هون، والله ما قصّر، بعت سيارة. أجت، قالولنا: وينهن؟ قلنالهن أنو راحوا». وعندما عادت المجموعات المعتدية لاحقاً، تواصل الشاهد مجدداً مع المسؤول الأمني الذي يعرفه، فجاءه الرد بأن عليه أن يحاول مقاومتهم بنفسه. يقول (س.ص): «بيحط بارودة براسي، بتقلي قاوموا؟!!! وإيدو عالزناد بتكون، يعني إذا بدفشو ممكن يقتلني بالغلط».
اليوم، بعد أسابيع من المجزرة، لا تزال قرية قبو العوامية تعيش تحت الصدمة، تحت ركام الموت والخراب. البيوت المحترقة لم تُرمم، والأهالي الذين نجوا بالكاد يرفعون رؤوسهم، وكثيرون ممّن نزحوا منها لم يعودوا. لا تحقيقات، لا عدالة، لا حتى ورقة رسمية توثّق أسماء القتلى أو سبب وفاتهم. كل ما تبقى هو صور متداولة على هواتف الناجين، وأحاديث هامسة في الليل عن الخوف من عودة القتلة، أو من استمرار السلب والنهب.
تقول أم أيمن، التي باتت تُعرَف بسنديانة الساحل بعد وقوفها بشجاعة في وجه المسلحين إلى جوار جثث أولادها في القرية، إنّ أحداً لم يسألهم ما الذي حدث فعلاً حتى الآن. وتضيف: «ولا جهة رسمية إجت عملت تحقيقات… بس وفد المحافظ إجا يعمل عزا». تلك العبارة تلخص الواقع: تعزية شكلية دون مساءلة، وقرية بأكملها تُترك لتموت مرتين، مرة بالرصاص، ومرة بالنسيان.
لم يزل الخوف يُخيّم على سكان القرية. يقول (س.ص): «اليوم إذا بتعيّط ما حدا بيرد، الضيعة فاضية». الخوف من الكلام، من التوثيق، من مجرد التذكير بما حصل، يطغى على كل شيء. الأبواب تُغلق باكراً، والعيون ترصد الطرقات، فيما يروي الشهود عن محاولات سلب شبه يومية من قبل جماعات تتنقل بحرية تحت أنظار الحواجز.
مقالات مشابهة