ملخص
تكمن خلف الصورة النمطية البراقة لليابان حقائق صادمة عن سياق اجتماعي صارم وهوس بالمثالية وعبودية للعمل تنتهي بكثيرين ضحايا لعزلة اجتماعية وانسحاب وقلق واكتئاب وأحياناً انتحار. وثمة مشكلات أخرى تشتبك معها رواية “مظلة الإمبراطور” للكاتب الياباني الإيطالي توماسو سكوتي (دار العربي – ترجمة علي دياب).
تبدأ الأحداث كما الحال في الروايات البوليسية، بجثة وجريمة قتل غامضة، ويحاول المحقق “تاكيشي نيشيدا” الذي ينتمي لأب ياباني وأم أميركية، الكشف عن الجاني عبر معرفة مالك أداة الجريمة “مظلة”، لكنه يدرك أنها انتقلت بعفوية بين أشخاص كثر لا رابط بينهم. يتعقد مسار رحلة التتبع، ليس لكثرة الأشخاص الذين آلت إليهم المظلة وحسب، ولكن أيضاً لوجود بصمة غريبة فوقها، يتكشف أنها تعود إلى الإمبراطور. ومع تدفق الأحداث تتوالى المفاجآت، يتداخل التحليل البوليسي مع التحليل الاجتماعي، لتكون محاولة الكشف عن الجاني سبيلاً للكشف عن حياة معقدة، تناقضات هائلة، طبقات غامضة، ومظلمة تتوارى خلف صورة مثالية للمجتمع الياباني.
رمزية الوصف
شرع الكاتب رحلته عبر سرد مركزي منح سلطته لراو عليم، محاولاً عبر تقنيات الوصف التقاط صورة حية لليابان، بعد عقدين من بداية القرن الـ21. ولم يكتف بوصف شوارع وأحياء العاصمة طوكيو، التي كانت فضاء مكانياً للأحداث، وإنما عمد إلى رسم لوحة واسعة، تبرز تفاصيل كثيفة من الصخب، الموسيقى، البارات، المطاعم، الملاهي، اللوحات الإعلانية، اللافتات المضاءة، وحتى المارة والعابرين، ناقلاً صورة تشي بالتنوع الاجتماعي للمجتمع، وما يحويه من تناقضات هائلة، “لن تجد أي فئة اجتماعية سواء كانت طلاباً أم مديري أعمال أم كبار المجرمين، أم حتى عاهرات من كل الطبقات، إلا ولها من يمثلها في كابوكيتشو.
thumbnail_النسخة العربية (دار العربي).png
الرواية بالترجمة العربية (دار العربي)
كان الجميع ينصهر في مزيج مختلف الطبائع. أحب المفتش حي كابوكيتشو فقد كان كلوحة فنية تنبض بالحياة لما كان يطلق عليه عصر انحطاط ما بعد الحقبة النووية لليابان الحديثة” ص8. وبينما أحال وصف الفضاء المكاني إلى دلالات اجتماعية، حمل وصف بيئات عمل بعض الشخوص، دلالات رمزية حول الثقافة اليابانية، التي تعلي من قيمة الشرف، وإلى المغالاة في الانضباط، التي تسفر عن هوس وعبودية ناعمة للعمل. كذلك عمد الكاتب إلى وصف البنية الجسمانية القوية للمحقق “نيشيدا”، بما يتسق مع هويته المختلطة والمختلفة، وكذلك لإبراز أثر هذه البنية في التطور الدرامي للأحداث، وفي استجابة المجتمع الياباني لها، على نحو تباين بين سخرية أقرانه منه في طفولته، وما حظي به في شبابه من هيبة، ووقار واحترام.
تناقضات ومقارنات
بدا التقابل والتناقض ثيمة رئيسة للنص المكتوب بالإيطالية، حرص الكاتب على إبرازها منذ الوهلة الأولى للسرد، فالمحقق “نيشيدا” ابن لعرقين وثقافتين متقابلتين، وعكست طبيعة شخصيته هذا التقابل بين الشرق والغرب، فهو متفان في عمله كياباني، صريح ومباشر كأميركي. وخلاف النصف الأميركي للبطل/ المحقق، برز الآخر داخل النص عبر شخصيات أخرى مثل الأميركي “مايك”، والإيطالي “ماتيو نوتي”. ووظف الكاتب هذا الحضور الأجنبي لعقد مقارنات بين الذات اليابانية، والآخر الغربي. فبينما يضع الغرب السعادة والحب في مقدمة معاييره، يأتي الشرف في مقدمة المعايير اليابانية. وبينما يعد الغربي الموت أسوأ ما يمكن أن يحدث، يطعن الياباني نفسه في طقوس “السيبوكو” ليموت بكرامته، في حين يعد أن أسوأ ما يمكن أن يحدث هو كل فعل مشين. وبينما يكفي الاعتراف في الغرب لإدانة الجاني، لا يهم في اليابان الاعتراف إلا إذا احتوى على ما يثبت صدقه، لا على انتزاعه تحت التعذيب.
thumbnail_الغلاف الأصلي للنسجة الإيطالية من رواية مظلة الامبراطور.jpg
الرواية بالأصل الإيطالي (أمازون)
وإضافة إلى التقابل بين الشرق والغرب، رصد الكاتب تقابلات أخرى في طبيعة اليابانيين، التي توحي بقربهم حد الالتصاق، بينما هم بعيدون، ووحيدون بصورة مفزعة. كذلك رصد التقابل بين البريق المعلن للمجتمع الياباني، والغابة المظلمة التي تتوارى خلف ذاك البريق، بين نقاء الريف وأوهام المدينة، بين الخير والشر، بين التمسك باللغة والهوية، والتخلي عنهما، بين ماض كان فيه وجود ابن هجين مثيراً للدهشة والسخرية، وحاضر بات فيه الابن الهجين طموحاً تسعى خلفه الفتيات. وعبر هذه التقابلات وثق توماسو التحولات التي طرأت على المجتمع الياباني، لا سيما ما يتصل بثقافته، فعدا البناء والتقدم، انتهت على سبيل المثال مظاهر الاستمتاع البسيطة بمباريات كرة القدم العفوية، وقلب الإنترنت طبيعة الحياة رأساً على عقب، وباتت المفردات الإنجليزية دخيلة على أحاديث يحاول أطرافها ادعاء المعرفة، “الكلمات الأجنبية في الخمسينيات كانت أقل من 10 في المئة. منذ ذلك الحين تضاعفت النسبة ثلاث مرات في أقل من نصف قرن. بهذه الوتيرة، سيصبح أي كتاب كتباً قبل 60 عاماً غير قابل للقراءة لدى الأجيال الجديدة” ص 146. وإضافة إلى ما رصده الكاتب من تحولات المجتمع، تطرق إلى تحولات الشخوص التي قادت “نيشيدا” وزوجته من الحب إلى الملل، ومن الزواج إلى الطلاق. وانتزعت من “مايك” سمات الشاب الانطوائي، وجعلت منه زير نساء.
قضايا ومعارف
في خضم ما رصده الكاتب من تناقضات المجتمع الياباني وتحولاته، فجر عديد من قضاياه، ومن بينها قضايا الهوية والغزو الثقافي، التسليع ورواج القيم المادية والاستهلاكية، المحسوبية، الهوس بالعمل وقسوة التنافس، وغياب المرونة، والانقياد خلف سراب إعجاب الآخرين بما يفعله اليابانيون، غياب وتواري العاطفة، والافتقار إلى الحب، لا سيما داخل الأسرة الواحدة “لو أن والدته تعلم كم مرة تمنى أن يعانقها، لكنه لم يتمكن من ذلك إطلاقاً، كان احتضان البالغين حركة غير مألوفة وهو لم يعد طفلاً” ص310. كما تطرق توماسو إلى قضايا أخرى، مثل أثر ألعاب الفيديو على زيادة ميول العنف، الضغوط الاجتماعية على المرأة للزواج، التحرش الوظيفي ضد النساء لا سيما الحوامل، وما ينجم في ظل هذا المناخ القاسي والضاغط، من مشكلات نفسية على رأسها الانسحاب المرضي من المجتمع “الهيكيكوموري”، الكراهية، والعنف الذي قد يقود إلى الجريمة.
اقرأ المزيد
أشخاص موراكامي يخلعون ظلالهم في “المدينة ذات الأسوار المريبة”
الروائية اليابانية يوكو تاوادا على طريق العالمية من الباب الألماني
وعزز الكاتب واقعية طرحه لما أثاره من قضايا، عبر ما دفع به من حمولات معرفية ذات صبغة تاريخية، قانونية، وطبية “أخبرته ساتشيكو بأن ولدها هيكيكوموري، شاب انعزل عن المجتمع وانغمس في غرفته الخاصة. تشير التقديرات إلى وجود أكثر من 500 ألف شخص يعانون هذه الحالة. مشكلة معقدة أصابت المجتمع في السنوات الأخيرة” ص305. وجاء الخطاب المعرفي جزءاً أصيلاً من السرد، وعنصراً فاعلاً في التطور الدرامي للأحداث. وكما أولى الكاتب اهتماماً باستدعاء المعارف، حرص على استدعاء الموروث الثقافي الياباني، لتعزيز واقعية النص من جهة، ومن جهة أخرى لإبراز مظاهر التناقض داخل المجتمع، بين انصياع للحداثة وتمسك في الوقت ذاته بالموروثات الثقافية الراسخة، لا سيما بعض القيم الثقافية، مثل ثقافة المجاملة والابتسام والاعتذار الذي يصل أحياناً إلى حد المذلة، عبر ممارسة السجود، “اضطر ياماغوتشي للاجتماع في جلسة سرية مع القادة، وبحسب الإشاعات كان مضطراً للقيام بالدوجيزا (السجود معتذراً) لكي لا يفصل من العمل” ص263. كذلك أبرز قيمة الشرف، وقيمة عدم إزعاج الآخرين. كما استدعى بعض الأكلات التقليدية مثل طبق الرامن “النودلز”، التمبورا “مأكولات بحرية في طبقة من العجين”، ومشروب الساكي الدافئ “نبيذ الأرز”.
الضبابية والصراع
رغم عمق التناول، وبروز البعد الثقافي والاجتماعي في النص، فإن الكاتب حرص على تغليف الأحداث بكثير من الضبابية والغموض، كما ينبغي لرواية تندرج في فئة أدب الجريمة، وعبر كل ما نسجه من خيوط وروابط جمعت الجريمة بجرائم سبقتها، ضمن تدفق المفاجآت، وزيادة عنصر التشويق، الذي عززه كذلك بما دفع به من صور الصراع الخارجي، الذي نشب بين المحقق، ووقت يسابقه للكشف عن الجاني، قبل تعقد الأمور، أو وقوع جريمة جديدة، وبين المحقق، والقائد الذي يبغضه ويرجو فشله في التحقيق، من أجل استبعاده والتخلص منه. وبين البطل أيضاً وطليقته التي تبتزه مادياً، بعدما تحايلت عليه بإرسالها ابنتهما لجديها قبل طلبها للطلاق، للاستحواذ على حضانتها، مستفيدة من قوانين تفرض استمرار الحضانة لمن كانت لديه أثناء الزواج.
وإلى جانب الصراع الخارجي، بدت صور أخرى من الصراع الداخلي، الذي اشتعل في عوالم “نيشيدا”، بين نصفه الياباني ونصفه الغربي، وصراع “نانامي” بين رغبات في الحب وأخرى في الترف والمال، وصراع “يوكو” عقب خيانتها لزوجها، بين شعور بالمتعة والإثارة وشعور بالذنب. وإضافة إلى أثر الصراع، دعم الحوار صبغة التشويق، وسمح للكاتب بتوظيف التكرار، كما في كلمة “الإمبراطور” التي جاءت في سياق من الدهشة، بعد ظهور بصمته على المظلة، وعبرت عن الصدمة والمفاجأة، وزادت في الوقت عينه من ضبابية الجريمة، وما تبعها من إثارة وتشويق. وإن كان ما لوح به الكاتب من سمات الجاني وتفاصيل ارتكاب الجريمة في بداية السرد، لا يتسق مع هوية الفاعل الذي كشف عنه في نهاية الأحداث. كذلك كان الحوار وسيلة لتمرير الرؤى المتباينة حول الثقافة اليابانية، والتي تنوعت بين رفض وانحياز، إدانة ودفاع، في محاولة لتقديم نظرة موضوعية وجادة لأمة تتمسك بالشرف، والصدق، والانضباط، لكنها تعاني غياب المرونة، عبودية للعمل، وتفتقر للحب، والدفء، والعاطفة.