يستحضر علي مطر، الشاعر والسيناريست اللبناني، في مسرحيته “أنا علي مطر كاليغولا” (تُعرض على خشبة سينما رويال في برج حمود)، الطاغية كاليغولا إلى الخشبة، في عملية توليف مستمدّة من شخصية هذا الأخير وتاريخه، وأفكار ونصوص شعرية مضافة من مطر، منها القديم ومنها الجديد. يؤدي فيها دور البطولة، وترافقه عشتروت عون (عشيقة كاليغولا) في الغناء والضرب على الدف. العمل من إخراج جان عبد النور، تصميم الإضاءة ميلاد طوق، السينوغرافيا ليلى حاوي، الملابس إيريك ريتر.
تعكس المسرحية، في سياقاتها المتتالية، الأسئلة الوجودية التي تضع إنسان اليوم أمام أسئلة لا يملك إجابات عنها. عالم ضبابي تحتشد فيه التحديات والتناقضات، عالم الحداثة وما بعد الحداثة، يقف الإنسان فيه وحيدًا في مواجهة قسوة مفرطة لا تقل عن قسوة الطغاة. عالم يُجرِّد الإنسان من إنسانيته، ويجعله كما الآلة في لهاث مستمر وراء هدف لا تبدو ملامحه واضحة بالكامل، ولا يُعرَف إن كان سيدركه. لا أجوبة على أسئلته، ولا وجهة محددة لمساراته. تخترق السلطات عمق حياته، تقيّد حركته وجسده ووقته، تجثم على أنفاسه، حاضرة أينما كان، تحاسب وتؤطر كل من هو خارج هندساتها، قادرة على إقصاء وإعادة هيكلة البشر وفق قوانينها. السلطات تتحكم في كل ما يعيشه البشر اليوم: الدينية، والمجتمعية، والسياسية، والعسكرية، وسلطة الميديا، والصورة، والآلة، وسلطة المال، والسوق، والدولار، والشركات العابرة للقارات.
كاليغولا اليوم هو كل هذا: يعيش في أرق وخوف وإرباك، لا مسارات يحددها، بل هو نسخة مما يُخطَّط له. عالم يصنع أقدار البشر ويتحكم في رغباتهم وحركة أجسادهم، يحيل البشر إلى كائنات خائفة، مترددة، متسائلة عن كل ما حولها، ومشككة في كل ما حولها، وهو ما يعبّر عنه الشاعر في نص موازٍ للعرض.
بذرتكم التي وقعت ع الأرض وطلعت كاميرات
كاميرات كاميرات كاميرات
كاميرات فوق كاميرات وراء كاميرات تحت، وين ما كان كاميرات
(…)
كيف بدك تصدق الحكي؟
قبل الحكي بلحظات، مين أنت؟
بعد الحكي بلحظات مين أنت؟
مين هني اللي عم يحكوا معك؟
عن شو عم يحكوا بالضبط؟
هل عم تقرا بين السطور؟
هل عم بتفكك الرموز؟
هل عم تشعر بالحركات؟
هل بتعرف أشيا كتير؟ اكتر من اللي بتقدر تحكيه؟
بعرفكن بعرفكن بعرفكن، بعرف شو بدكن.
تتماهى في المسرحية المرأة والحب والمكان، ويصنع مطر منها ذاكرة للمدينة
تكتنز حركة مطر في المسرحية رمزية عالية، تعكس عمق المعنى الذي يبرع الشاعر في تجسيده على الخشبة. الأفكار والجسد في تناغم تام، كل فكرة توازيها حركة، مع أداء عالٍ في المرونة. مطر في حركة مستمرة من أول العرض إلى آخره: ركض وقفز وهرولة على الخشبة، لاهثًا ومتكلّمًا في الوقت نفسه، موجّهًا قبضته في الهواء نحو هدف ما، مدافعًا، غاضبًا، منتقمًا، تائهًا بين الجمهور، عائدًا إلى الخشبة، ثم تاركًا صدره في عُري، في مشهد ينقلنا إلى رجل من ذلك التاريخ. إنه الطاغية الذي أُصيب بالجنون بعد موت عشيقته، وها هو يقف على المسرح ويجسّد عبر حركة جسده المتواصلة التناقضات التي اجتمعت كلها في شخصيّته: الألم والحب والقسوة والضعف، القوة والبطش والمواجهة. إنه كاليغولا الذي حكم في بداية عهده بنبل ورفعة، ثم تحوّل إلى جزّار لشعبه، نشد السلطة وأراد أن يتفوّق على كلّ ما حوله من بشر وآلهة، أراد أن يملك الحاضر والمستقبل، إنه سليل عائلة أحرقت روما.
أنا الرب لأن الرب غاب، وسلّمني المكان
أنتم قطيع من الحروف وأنا القصيدة
فمن شاء أن يلمس المعنى فليشرب جنوني كالنبيذ
(…)
الحب هو شهوة غامضة للقتل
شهوة ظامئة للحياة
ومنذ تلك اللحظة لم أعد أقدر أن أفصل الذهاب عن الإياب، ولا البصر عن العمى، ولا الغرق عن النجاة
رأيت أجسادًا تتطاير كالمفرقعات
منذ تلك اللحظة لم أعد أفصل الله عن الشيطان
(…)
“تبتعد في مونودراما “أنا علي مطر كاليغولا” شخصية الطاغية كقصة من التاريخ، وتبدو حاضرة في نسخة معاصرة عن إنسان اليوم المتعدّد، بأهوائه، وأفكاره، وآلته، وأخلاقه، وأنماطه، ورؤيته لكل ما حوله، في تجسيد للأزمة الوجودية التي يعيشها إنسان اليوم”
للمسرحية قدرة عالية على اختزان الدلالات والرموز، فبين الشاعر والطاغية مسافات حدثية وزمنية شاسعة، إلا أن ما يجمع بينهما هو الحب، الذي يختاره مطر منطلقًا لتغيير شخصية الطاغية وتحريره من عبء العالم القديم الذي ينتمي إليه. يخلع عنه أسوار القسوة والبطش التي وسمت تاريخه، يبحث له عن مساحة حب، فيتحوّل كاليغولا من طاغية إلى حالم وعاشق، يترك قصوره وتيجانه وجيوشه، يشعر بقربه من الطبيعة والقمر، يحلم بالحب والحبيبة، يريد أن يتطهّر من آثام هذا العالم، يقترب من الحب، إنه غوص في عمق النفس الإنسانية.
تقيأت القصور، والخدم والحاشية
والخديعة تلو الخديعة، الطعنة تلو الطعنة
(…)
تقيأت التيجان، والأحزمة، والأحذية اللامعة، حتى غدوت خفيفًا كجناح فراشة كي أطير إليك.
جسدك البعيد النائم المضاء، لعله هو الذي يلبسني الآن.
(…)
جسدك البعيد بعد القمر (…)
هو الذي يوقظني بين آلاف القصائد
التي يستحيل كتابتها
آلاف الصور، والأحلام، والرغبات
التي تنبت تحت جلدي ولا تخرج
(…)
رأيت دمي محنّى على السلالم والأرصفة
وصرخت بالسيوف: أنا قتيلك، أنا قتيل الحلم
(…)
تتوحّد روما وبيروت في مشهديّة الدمار الذي لحق بكلٍّ منهما عبر التاريخ. وكما هي روما التي أصبحت أسطورة في التاريخ، بيروت هي أيضًا مستعادة في أعمال الفنانين والشعراء والروائيين والكُتّاب، الذين تركوا فيها ذاكرتهم. تتماهى في المسرحية المرأة والحب والمكان، ويصنع مطر منها ذاكرة للمدينة، مزيجًا من المعاني والأفكار التي تحكي هواجس ورغبات عن الألم، والحب، والجنس، والتسكّع، والتشرّد، والبساطة، والتعقيد. كلّ ذلك في المدينة التي يتماهى فيها الحلم بالواقع إلى حدٍّ كبير، كما هي حال كاليغولا الذي أراد أن يطاول القمر ويهديه إلى حبيبته، تأتي نصوص مطر شبيهة بذلك الحلم.
ابتسمتُ للسماء فابتسمت لي البروق
ضحكتُ ضحكة تشبه طعنات المدن التي ضاجعتها
تكلّمتُ مع المرأة كأنها كتاب مشرّع في الريح، وضحكتُ وضحكتُ
حتى خرج وجهي من وجهي
(…)
يعوزني ظهركِ كي أقرأ تاريخ الأنثى،
تاريخ الألم واللذة، رحلة المطر الاستوائي من الفجر إلى الفجر،
علاقة الكواكب بالكواكب
(…)
مارس مع فينوس، القمر مع العين،
يعوزني قوس ظهركِ كي أسترجع جغرافيا الشعر، منذ تصويتات الإنسان الأول حتى هذه القصيدة.
رأيت آية على ظهركِ وقلتُ: هذه حروف الوجود، وحين أعدتُ كتابتها بإصبعي قرأتُ تاريخي.
تبتعد في مونودراما “أنا علي مطر كاليغولا” شخصية الطاغية كقصة من التاريخ، وتبدو حاضرة في نسخة معاصرة عن إنسان اليوم المتعدّد، بأهوائه، وأفكاره، وآلته، وأخلاقه، وأنماطه، ورؤيته لكل ما حوله، في تجسيد للأزمة الوجودية التي يعيشها إنسان اليوم.