الركيزة الأولى لتحقيقها خروج اتفاقات بين المعسكرين وواشنطن كي لا يكون هناك إخلال بالتوازن بين “الخمينيين” و”الإخوانيين” في المنطقة
الخبراء في تاريخ الشرق الأوسط الحديث الذين يتابعون الحركات والتيارات الإسلامية والإسلاموية، وتلك التي يسميها الغرب “جهادية”، يتابعون عن قرب مرحلة ما بعد السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 بصورة عامة ومرحلة ما بعد سيطرة “هيئة تحرير الشام” على دمشق. وإحدى النقاط الرئيسة التي استوقفت ولا تزال خبراء أميركا حول المنطقة، كانت عن العلاقة الإقليمية بين “الخمينيين” و”الإخوان”، ولا سيما بعد سقوط البعث الأسدي في سوريا.
تاريخياً الصراع قائم بين الجمهورية الإسلامية “الشيعية الإمامية” والسلفية “السنّية الخلافية” التي تتفرع إلى فروع متمايزة بما فيها “الإخوان المسلمون” والتكفيريون وغيرهم. وفي المعادلة التي نكتب حولها، وهي نظرية الآن، نركز على سيناريو واحد مطروح تحت الطاولة كاحتمال ولكن بدرجة موضوعية أعلى من الفوارق الأيديولوجية. فبعض التحليل الاحتمالي أنتج سيناريو بعيداً من واقع اليوم ولكنه بصفة الممكن إذا اصطفت العوامل. وتلخيص هذا السيناريو أن النظام الإيراني الحالي والمنظومة “الإخوانية” الواسعة من الممكن أن يصلا إلى نقطة تقاطع استراتيجي تسمح لهما بالتلاقي على أهداف إقليمية ومحلية مرحلية قد يرتكز على نقاط عدة.
النقطة الأولى أن المعسكرين متمسكان بأجنداتهما الخاصة على المدى البعيد وأن كلاً منهما قادر على اجتياز النفق الدولي الذي يمثله حالياً دونالد ترمب برئاسته للولايات المتحدة وقوة أميركا الخارقة عالمياً، فالقيادة الخمينية دخلت في آلية المفاوضات المتواصلة وغير المتناهية مع الإدارة الحالية عبر محاور تفاوضية عدة وهي أولاً محادثات غزة لإرجاع الرهائن والبحث عن حلول شاملة للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي وهي لا تزال تراوح مكانها.
والنقطة الثانية هي محادثات وقف إطلاق النار في اليمن مع الحوثيين وهي أيضاً تتمدد في الوقت، وقبلها التشاور الضاغط لاستمرار وقف النار بين إسرئيل و”حزب الله” لمنع الجماعة اللبنانية من العودة لهذه الجبهة. ولكن الآلية الأكبر والأهم هي المفاوضات التي يقودها المبعوث ستيف ويتكوف مع القيادة الإيرانية حول الاتفاق النووي الموقع مع إدارة باراك أوباما عام 2015. وسنعود للمناورات الإيرانية لإيصال كل الأطراف المعنية بهذه المحادثات إلى توقيع شامل كبير يعد فيه “الخمينيون” بفتح باب للاستثمارات بتريليون دولار أو تريليونين تمتد إلى دول عدة. فتنتقل إيران من دولة محاصرة إلى شريك اقتصادي ومالي لأميركا كما هي الدول العربية الشريكة لواشنطن. وعندما تصل طهران، نظرياً، إلى هذا المستوى سيكون صعباً على الغرب أن يضعفها بالضغط العسكري.
في هذا الوقت ستعزز الكتلة الإسلاموية وضعها ونفوذها في سوريا بعدما جرى الاعتراف بها من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ومعظم الدول العربية، وتحظى دمشق بتسهيلات كبرى من قطر وتركيا وشبكات المصالح الرأسمالية. وستتجه أولويات الكتلة عبر جماعات “الإخوان” السياسية والمالية إلى دعم أحزاب وكتل وكيانات شبيهة في المنطقة داخل معظم الدول العربية.
والسيناريو الافتراضي المطروح فيه احتمالان استراتيجيان مرتبطان بتطورات داخلية في الشرق الأوسط. السيناريو الأول هو تطور الكتلة “الخمينية” والكتلة “الإخوانية” باتجاه التراجع عن راديكاليتهما بفضل الاتفاقات المالية التي فاوضت عليها إدارة ترمب خلال عام 2024، أكانت في الخليج أو مع السلطة في سوريا.
منشآت إيران النووية الرئيسة… عددها ومواقعها الاستراتيجية
وهذه نظرية الحلقة الضيقة حول الرئيس في واشنطن وهي تتلخص في أن الصفقات المالية مع الراديكاليين ستشجع إيران و”الإخوان” على تطوير اقتصادهما، بعيداً من “الجهاد” العسكري والحربي باتجاه النمو والتطور السلمي. وتنبثق هذه الأطروحة من حلقات الأكاديميين المحافظين الماديين المؤمنين بالعامل الاقتصادي النفعي الذي بإمكانه، بحسب نظرتهم، أن يلغي الأيديولوجيا عبر تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، مما يفسر نظرية سياسة إنهاء الحروب عبر صفقات مع الراديكاليين ومن بينهم “الخمينيون” والإسلامويون السلفيون.
المدرسة الأخرى التي عزلها ترمب هي مدرسة “الأمن القومي” التي تشترط تغييراً داخل لمجتمعات كشرط للتعامل معها ونظرت إلى “الضغط الأقصى” على النظام في إيران وفكفكة الشبكات “الإسلامية والجهادية” في المنطقة. ولكن خيار ترمب الصفقاتي مع إيران وسلطة دمشق المنبثقة من “هيئة تحرير الشام” أقصى جماعة الأمن القومي عن السياسة الخارجية خلال الرحلة الحالية.
وفي هذا الإطار، إن استمر، من الممكن أن تخرج معادلة جديدة مستقبلية تقوم على أساس تفاهم الإسلاميين من المعسكرين المتقاتلين من طهران ودمشق، بوقف القتال أو المواجهة بينهما لأسباب استراتيجية أسمى وهي مصلحة “جهادية أعلى وأوسع”. وتموقع كهذا للكواكب وإن كان حظه صغيراً يعتبر من الاحتمالات المطروحة لدى المحللين وله أمثلة في التاريخ، إذ إن المحاور المتواجهة وافقت على التفاهم ولكن من دون تعريض مصالحها للخطر. وفي هذه الحال واقعان قد يؤديان إلى توافق بين طهران ودمشق وعواصم أخرى من ورائهما، والتفاهم قد يشبه “اتفاق يالطا مشرقياً” كما حصل بين السوفيات والأميركيين في فبراير (شباط) عام 1945، إذ قسم الجباران نفوذهما وسيطرتهما في العالم، بخاصة في أوروبا واستمرا به حتى في خضم الحرب الباردة. واتفاق يالطا بين الجمهورية الإسلامية والجمهورية العربية السورية سيعكس اتفاقاً إقليمياً أكبر. والركيزة الأولى لمثل هذه الصفقة هي خروج اتفاقات بين المعسكرين وواشنطن كي لا يكون هناك إخلال بالتوازن بين “الخمينيين” و”الإخوانيين” في المنطقة، مما يحول المعادلة إلى ميزان إقليمي بين “الراديكاليين” من جهة وباتت لهم مصالح مع الإدارة الأميركية، وإسرائيل من جهة أخرى ولها مصالح تاريخية مع الولايات المتحدة، وتبقى الكتلة العربية المعتدلة في الوسط.
وثبة محتملة ولكن بحظوظ صغيرة تتوسع مع الوقت ربما، هو احتمال تعاون طرفي “يالطا الجديدة” مع بعضهما بعضاً لمواجهة إسرائيل. ومع العلم أن شروط إدارة ترمب قاسية لناحية الاعتراف بإسرائيل وربما الدخول إلى “معاهدة أبراهام”، وهو أمر سيجري الكلام حوله وليس بالضرورة تنفيذه، فجبهة يالطا في الشرق الأوسط من المحتمل أن تتطور لما كان يسمى “المحور” ويركز فقط على إسرائيل. وإن أنجب هذا تفاهماً “يالطوياً” على شيء، فقد يكون على إعادة فتح الجسور البرية والجوية بين إيران والمتوسط، ولكن بثمن. فتصوروا أن يعود الطريق السريع بين طهران والشام ولكن لخدمة مصلحة مشتركة عليا فوق “الخمينية” و”الإخوانية”. فما هي يا ترى؟… سنكتب عنها.ش