أصبح شائعًا في فانكوفر الكندية أن يستأجر الشاب نصف سرير يشغله خلال ساعات النهار أو الليل بحسب طبيعة عمله، ويقوم شاب آخر بإشغال السرير نفسه في الساعات التي يكون فيها خاليا. يهاجر الشباب من الولايات الفقيرة إلى لوس أنجلوس ويقيمون في سياراتهم التي يعملون عليها لنقل الركاب. في بعض الأحياء من المدن الكبرى يتجمع العشرات في بيوت صغيرة ويتناوبون على النوم في الأسرة المتاحة ليتمكنوا من العمل والنوم. مسألة العيش لم تعد مطروحة، عليك فقط أن تنجو.
نحن نتحدث الآن عن مدن مزدهرة. مدن مزدهرة تواجه معضلة تزايد المشردين الذين يقيمون في العراء، ويؤمنون قوت يومهم من النفايات ومن عطايا المارة.
مدن مزدهرة وتقود الاقتصاد في الدول التي تضمها. مع ذلك ليس ثمة فيها ما يمكن أن يعين الناس على العيش.
قبل أزمة كورونا دأبت شركة المقاهي الأشهر ستاربكس على افتتاح مقاه تشبه مقاهي أوروبا في السبعينيات من القرن الماضي. متسعة وفارهة ويمكن للمرء أن يقضي فيها سحابة نهاره من دون ملل. كانت المقاعد المتنوعة والوثيرة تغري الزبائن. إلى حد أنها بدت كما لو أنها تضفي على الجالسين عليها صفات إضافية من الرقة والجمال والتهذيب. المقعد الوثير والمشغول بعناية فنان، يطالبك بشدة أن تعامله برفق وعناية. بمعنى من المعاني إنه يستطيع تهذيبك.
لكن هذه المقاهي المبالغ في العناية بتفاصيلها المتنوعة، لم تكن أبدًا بيتنا، إنها أحلامنا التي لا تتحقق. المدن اليوم تقترح علينا أمكنة شخصية نستأجرها لبضع ساعات في النهار، إذا كنا نملك وقتًا ومالًا.
الانفراد بالنفس أصبح عزيز المنال في هذه المدن. حتى وأنت تقود سيارتك، وهي حصنك المنيع الذي يمنع الآخرين من التماس معك، لن تنجح في تجنب الاحتكاك بالآخرين، والانفراد بنفسك. ثمة الكثير مما يجدر بك الانتباه إليه. السير في المدن المزدحمة اليوم، لم يعد يدار بحواسنا الباطنية، بتنا مجبرين على الانتباه لكل شيء.
“هذه المقاهي المبالغ في العناية بتفاصيلها المتنوعة، لم تكن أبدًا بيتنا، إنها أحلامنا التي لا تتحقق”
لندخل في دوامة الانتباه. من المعلوم أن الصحافة هي من مواليد المدن. الحواضر السابقة لم تكن تحتاج إلى مثل هذه الوسيلة للتواصل بين الناس. كانت دور العبادة وعلاقات الجيرة والنسب تقوم مقامها في إبلاغ الناس بما يجدر بهم معرفته. مع ولادة الفرد المنقطع عن جذوره ونسبه وعلاقاته بات لزاما على الاجتماع أن يبتكر طريقة للتواصل وإبلاغ الناس بما يجدر بهم معرفته. لكن وسيلة التواصل هذه، التي مثلتها الصحافة، تحولت في الزمن الراهن إلى وسيلة تخويف من الآخرين. حين تنشر وسائل الإبلاغ هذه أخبار جرائم تحصل في محيطك، فإنها تهتم بإبراز تفاصيل الحدث، لكنها لا تشير إلى كونه عابرًا. الجرائم تحصل كل يوم في كل مكان من العالم. لكن فكرة أن الخبر الوحيد الذي يجدر بك معرفته اليوم هو خبر جريمة حصلت في مدينتك، يجعل من كل سكان المدينة حذرين إلى الحد الذي يمنعهم من أي تواصل مع أي كان. الصحافة الحديثة باتت عنصر تخويف وإقلاق. الإقلاع عن تعاطيها يخفف من القلق المتعاظم في نفوسنا يوما بعد يوم.
والحال فإن الانتباه في أي لحظة من لحظات المدن المعاصرة هو إنذار بقدوم الكارثة. والأنسب أن يبقى المرء غفلًا حتى يتاح له أن يقلع عن القلق أو يتجنبه للحظات أو لساعات.
لكن ما يربط بين هذه الأحوال المتفرقة والمفرقة في الوقت نفسه، ليس أقل من الفنون. الفنون التي باتت اليوم واجهة المدن التي تحرص على تلميعها وتنظيفها ومنع الناس من تلويثها. أنصاب في الساحات العامة، حدائق معتنى بتفاصيلها الصغيرة ويتم إنفاق مبالغ هائلة على رعايتها والعناية بها، لوحات إعلانية يصمم مادتها مشتغلون بالفنون البصرية، لو قيض لهم العيش في زمن آخر لأصبحوا من زمرة الفنانين المشهورين. كل هذا تزخر به المدن وتريد من الناس تجنب تلويثه. إنما كيف يلوث الناس أنصاب العمران؟ الجواب بسيط: إن مجرد الإقامة في المحيط هو تلويث للأنصاب الفنية. لهذا ترتفع أسعار العقارات إلى حد خيالي، ولهذا تنفق الشركات المالكة لهذه العقارات الملايين على تنظيف الزجاج الذي يغلف مبانيها. إنها تريد الإيحاء أن أحدا لم يلمس هذا الجدار الزجاجي من قبل، وأن فناءه مستعد لاستقبالك إذا كنت تملك المال الكافي بوصفك الزائر والمقيم الأول.
هكذا تجتمع وسائل الإعلام ووسائط الفنون لتصنع للمدن غلافًا هشًا يمكن تحطيمه بأقل جهد. ولأنه هش إلى هذا الحد، ثمة حراس مسلحون يحرسونه طوال اليوم، لئلا يفسده عيش البشر وسعيهم الدائب نحو البقاء. ألم يتذكر زيغمونت باومن، وهو يستعرض أحوال العالم المتقدم، تلك الحكاية المتداولة التي تفيد: “في المستقبل لن توظف المصانع غير كائنين اثنين: إنسان وكلب، ومهمة الإنسان هي إطعام الكلب، أما مهمة الكلب فهي منع الإنسان من لمس أي شيء”!.
شارك هذا المقال
مقالات اخرى للكاتب