ملخص
لقد أدى الأمير فيصل صلاة واجبة، لكنها كانت، كما وصفها بعضهم، صلاة جنازة على المشروع الطائفي في سوريا، لا لأن الكلمات قيلت بل لأن المكان ذاته لفض المشروع واستعاد قدسيته.
عادت بنا الذاكرة الأسبوع الماضي لصورة أحمدي نجاد يشير بعلامة النصر داخل مشيخة الأزهر في فبراير (شباط) عام 2013، وقد مكنته ولاءات منقادة لمشروع كان يرى في نفسه مركزاً، وفي الآخرين مجرد هوامش يمكن العبث بها.
مضت السنوات وسقطت أقنعة الشعارات وفشلت الرهانات المشبوهة وانتهى المشروع الذي يحمل معول تصدير الثورة، وبات يفاوض على نسب التخصيب بحثاً عن مخرج بعد أن فقد كل أوراقه، وأصبح اليوم يواجه مصيره بلا غطاء سوى رجاء المهل ووساطة الأصدقاء.
وفي الجهة الأخرى ظهر وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان في محراب الجامع الأموي يتقدم صفوف المصلين، لا ليؤدي الصلاة فقط بل ليؤكد عودة الروح العربية لقلب الشام، ولم تكن مجرد زيارة رسمية بل رسالة عميقة بأن العروبة لا تزال تمتلك مفاتيح دمشق، وشتان بين مشهد يعيد إنتاج الانقسام عبر شعارات مذهبية بائدة وأذرع طائفية تزرع الدمار، ومشهد ينبثق من مشروع حضاري متكامل يرتكز على احترام السيادة وبناء الدولة وإحياء الهوية الجامعة من دون وصاية.
ما جرى في الجامع الأموي لم يكن طقساً دينياً فقط بل إعادة تموضع للهوية واستعادة لطهر المكان من عبث من أراد تحويله إلى منبر سياسي تلقى فيه خطب التفرقة لا خطب الجمعة، فمنذ اندلاع الحرب في سوريا بدا واضحاً أن طهران أرادت للجامع الأموي بالتحديد أن يكون رمزاً لانتصارها الوهمي، فدفعت وفودها وطقوسها وأذرعها إلى قلب دمشق في محاولة لتثبيت سردية “الانتصار المقدس”، لكنها، وكما في العراق ولبنان واليمن، لم تقدم إلا الوهم ومزيداً من الخراب، بينما تراكمت الخيبات وتآكل النفوذ وانكفأ المشروع منسحباً، عدا بعض المزايدات الإعلامية التي لا تغير من وقائع الأرض شيئاً.
الفرق جوهري بين رمزية تستدعي وحدة الأمة وتُحيي الذاكرة الإسلامية الجامعة، وبين رمزية طائفية أرادت اختطاف المكان لخدمة سرديات عابرة للمذاهب والتاريخ، فبينما كانت زيارة الوزير السعودي ترسيخاً لطهر المكان، كانت زيارات سابقة تحاول سلب الجامع قدسيته وتحويله إلى لافتة سياسية طائفية، فالمشروع السعودي جاء عبر بوابة الإعمار لا الهدم والتنمية لا الفوضى، ولم يراهن يوماً على سقوط الدول بل على نهوضها، فهو لا يسعى إلى وصاية بل يعيد ضبط بوصلة المنطقة على قيم الاعتدال والتكامل متجاوزاً الانقسام، وليس أوضح من النصائح التي حملها أخيراً سمو وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان للقيادة الإيرانية.
إن مشهد الأمير فيصل في الجامع الأموي يعبر عن تحول نوعي في أدوات التأثير السياسي، فبينما اختارت بعض الدول ركوب الميليشيات والمرتزقة، تتجه السعودية نحو الرمزية الواعية التي تعيد بناء النفوذ على أساس من الهيبة الناعمة والدلالات الحضارية والارتباط الوثيق بالهوية الجامعة، إنها سياسة لا تعتمد على رفع الشعارات ولا على احتلال العواصم، بل على ترميم المعاني التي هدمها التطرف واستعادة ما تهشم تحت ركام التدخلات الطائفية.
والزيارة في رمزيتها العالية ليست سوى حلقة في مسار أوسع لإعادة إنتاج المنطقة من جديد، تعيد فيه السعودية رسم أدوارها كدولة مركزية قادرة على الجمع بين الدبلوماسية والانتماء، وبين الجغرافيا والهوية، فلم تُرفع شعارات ولم تُلق خطب، بل كانت الصورة كافية لتقول كل شيء، عودة هادئة لعروبة دمشق، وصلاة عنوانها أن هوية الجامع الأموي لا تطمر مهما طال الصمت.
لكن ما يجعل هذه الزيارة مفصلية أنها لم تكتف بالرمزية الدينية والقومية بل لحقتها خطوات عملية تعكس إرادة الشراكة لا الهيمنة، فقد ضم الوفد السعودي وفداً اقتصادياً رفيعاً اجتمع مع نظرائه السوريين وطرح مبادرات لدعم الاقتصاد السوري وبناء المؤسسات وتقديم دعم مباشر للقطاع العام، في دلالة على أن السعودية لا تعود لدمشق كمانح بل كشريك يعول عليه في إعادة الإعمار وتحقيق تطلعات الشعب السوري نحو الاستقرار والكرامة.
المسجد الأموي… عندما يعانق التاريخ الحضارة في دمشق
عراقجي يلتقي الأمير فيصل بن فرحان في مكة عشية الجولة الرابعة من المحادثات النووية
فيصل بن فرحان يعلن من دمشق استمرار الدعم السعودي للاقتصاد السوري
لقد جاءت هذه الصلاة كجزء من مشهد أوسع لحضور عربي جديد، لا يطلب الإذن من أحد ولا يتكئ على ردود الفعل، بل يصنع موقعه بصمت واثق، وهذا الحضور لا يقتصر على دمشق بل يمتد تأثيره إلى بغداد وبيروت ويتغلغل في العواصم التي كانت رهينة المشاريع العابرة للحدود، والرسالة واضحة وهي أن السعودية لا تعود لسوريا منفردة بل تعيد سوريا لحضنها العربي ضمن مشروع الواقعية السياسية الذي لا يكتفي بإعادة العلاقات بل يعيد هندسة موازين القوى لمصلحة الاستقرار والتنمية.
وهكذا تتحول السياسة إلى فعل رمزي بليغ لا يحتاج إلى صخب ولا إلى آلاف القتلى والمشردين، فمن يصلي في محراب الجامع الأموي اليوم ليس مجرد وزير بل ممثلاً لمشروع متماسك يتكئ على التاريخ من دون أن يحبس فيه، ويستثمر في الحاضر من أجل مستقبل لا مكان فيه للطائفية ولا للميليشيات ولا لمن أدمنوا الدسائس وتصدير الخراب.
لقد أدى الأمير فيصل صلاة واجبة، لكنها كانت، كما وصفها بعضهم، صلاة جنازة على المشروع الطائفي في سوريا، لا لأن الكلمات قيلت بل لأن المكان ذاته لَفَض المشروع واستعاد قدسيته، وهنا يذكرنا التاريخ مرة أخرى ألا مستقبل لمن يسير منفرداً يجتر الماضي، ولا بقاء لاحتلال مهما تكالبت حوله ومعه الأذرع والعملاء.
لم يكن اختيار الجامع الأموي عشوائياً بل وعياً سياسياً وجغرافياً وروحياً، فكل من صلى هناك، بقصد أو من دون قصد، كان يدرك أن الركعة في هذا الموضع بالذات قد تكون أثقل من عشرات الخطب، وأن الصورة كانت أبلغ من ألف تصريح، ففي الجامع الأموي كتبت السعودية فصلاً جديداً من حضورها، فصلاً يليق بتاريخها ويليق بسوريا التي نفضت عنها عشريتها السوداء ودشنت مرحلة جديدة من الوعي والبناء.
المزيد عن: سورياالسعوديةالجامع الأمويالأمير فيصل بن فرحان آل سعود