…
قطعت عمليّة “شبكة العنكبوت”، التي نفّذتها المسيّرات الأوكرانية في العمق الروسي، الطريق مبكراً على أجواء التفاؤل التركي – الأميركي، قبل ساعات من انطلاق الجولة الثانية من المفاوضات الروسيّة – الأوكرانيّة في قصر “شراغان” العثماني المُطلّ على مياه المضائق التركية في إسطنبول. وكانت أنقرة تأمل الانتقال بالحوار إلى مرحلة جديدة تسهّل تحقيق اختراق حقيقي في المحادثات التي تعدّ لها منذ أشهر.
يسعى الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وفريقه الرئاسي إلى إعلان “يوم أبيض” في مسار المحادثات الروسية – الأوكرانية، بينما يصف البعض في موسكو ما جرى بـ”اليوم الأسود” في تاريخ الطيران الروسي، عقب الهجوم المباغت للمسيّرات على المطارات الروسية التي تبعد آلاف الكيلومترات عن الحدود مع أوكرانيا، الذي ألحق أضراراً جسيمة بأهمّ قاذفات الأسطول الجوّي الروسي من طراز “تو-95″ و”تو-22”.
بينما كانت الدبلوماسية التركية منهمكة في وضع اللمسات الأخيرة على بعض السيناريوهات لتقريب وجهات النظر بين المذكّرتين الروسيّة والأوكرانيّة بشأن تصوّر خارطة الطريق المحتملة نحو الحلّ، وتسعى بما هي وسيط مقبول وموثوق به، كما ردّدت موسكو وكييف، إلى إطلاق عمليّة جديدة لتبادل الأسرى العسكريّين، تمهيداً لهدنة لوقف إطلاق النار تُرافقها انطلاقة للحوار السياسي في أسباب الأزمة وسبل معالجتها، كان البعض في كييف يضع اللمسات الأخيرة على خطّة لتحريك المسيّرات وشنّ عمليّة عسكرية واسعة قُدّرت خسائرها بنحو 10 مليارات دولار على الجانبين.
قطعت عمليّة “شبكة العنكبوت”، التي نفّذتها المسيّرات الأوكرانية في العمق الروسي، الطريق مبكراً على أجواء التفاؤل التركي – الأميركي
سعي للعرقلة
كان هدف أنقرة في قصر “شراغان” إبقاء الأطراف أمام طاولة التفاوض لأطول فترة ممكنة، والانتقال بالملفّات من الجوانب الشكليّة والتقنيّة إلى المسائل الخلافيّة الجوهرية. إلّا أنّ بعض الأطراف قرّر تمرير رسالة مفادها أنّ القرار لا يقع في يد كييف وحدها، ما دامت الحرب تُخاض بالوكالة مع روسيا، وما دامت تصفية حسابات ذات أبعاد استراتيجيّة عسكرية واقتصادية وسياسية.
ثمّة من يسعى إلى عرقلة جهود الوساطة والتهدئة على خطّ موسكو – كييف. ليس ترامب حتماً، ما دامت المتحدّثة باسم البيت الأبيض تؤكّد أنّ ردّ فعل الرئيس الأميركي على العمليّة العسكرية الأوكرانية الأخيرة هو تأكيده أنّ الصراع يجب أن يُحلّ عبر طاولة المفاوضات، وما دام وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو سارع إلى الاتّصال بنظيره الروسي سيرغي لافروف لإبلاغه بعدم علم واشنطن بالعمليّة، ودعوته إلى عدم التخلّي عن إرسال الوفد الروسي إلى إسطنبول.
ستُوجّه أصابع الاتّهام حتماً إلى عواصم أوروبية تشعر بأنّها خارج المسار السياسي – الدبلوماسي القائم، وتريد تذكير أميركا وروسيا وتركيا بدورها وقدرتها على التعطيل. كيفيّة الردّ العسكري الروسي مسألة تستحقّ المتابعة والرصد، غير أنّ شكل الردّ الأميركي – التركي لا يقلّ أهميّة في هذا السياق.
هل يُخيّب بوتين آمال ترامب ورهانه عليه، أم يمنحه بعض الوقت للتدخّل والتعامل مع الجهات التي تقف وراء العملية العسكرية وتحديد ساعة الصفر، التي سبقت انطلاق المحادثات في إسطنبول؟ وكيف ستتصرّف واشنطن إذا أرادت من أنقرة مواصلة جهودها في الوساطة؟
كان هدف أنقرة في قصر “شراغان” إبقاء الأطراف أمام طاولة التفاوض لأطول فترة ممكنة، والانتقال بالملفّات من الجوانب الشكليّة والتقنيّة إلى المسائل الخلافيّة الجوهرية
مسرحيّة وحسب
من المؤكّد أنّ هذه العملية لم تكن وليدة اللحظة الأخيرة، إذ يردّد المسؤولون الأوكرانيون أنّ التحضير لها بدأ منذ عام ونصف، بصبر وسرّيّة، لكنّ تفعيلها تمّ بالتزامن مع صعود الوفد الأوكراني إلى الطائرة المتّجهة إلى إسطنبول، وبينما كان وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، يبحث مع نظيره ماركو روبيو إمكان حضور وفد سياسي أميركي رفيع إلى إسطنبول للمشاركة في تسهيل التوصّل إلى اختراق حقيقي في المفاوضات.
نجحت أنقرة في تنظيم الجولة الثانية من المحادثات، وحقّقت بعض النتائج الإيجابية، لا سيما في ما يتعلّق بتبادل الأسرى وتبادل المذكّرات بين طرفَي النزاع. لكن لا توجد ضمانات حقيقية حتّى الآن بأنّ روسيا ستفي بوعودها وتعهّداتها، أو ستواصل التزام اللعبة التي تحاول بعض العواصم الأوروبية إفسادها. وإنّ مسألة احتمال إصغاء كييف، بعد هذه العملية العسكرية الناجحة، لما تقوله وتريده موسكو بشأن حياديّتها وتخلّيها عن حلم الانضمام إلى حلف الناتو وسياسات التسلّح، وأيضاً بشأن ضرورة تخلّي الغرب عن قرارات العقوبات ضدّها، قد تزداد صعوبة بعد ما حدث.
يُعلن السيناتور ليندسي غراهام، أحد صقور الدبلوماسية الأميركية المناهضين لروسيا، أنّ “الجولة الجديدة من المفاوضات في إسطنبول مسرحيّة روسيّة وحسب”. فهل يبقى على رأيه بعد استهداف العمق الروسي بهذا الشكل؟ وهل يستغلّ الموقف لإقناع ترامب بأنّ سياسة الانفتاح على بوتين خاطئة، وقد تُعرّض علاقة واشنطن بحلفائها الغربيين للاهتزاز والخطر؟
هذه العملية لم تكن وليدة اللحظة الأخيرة، إذ يردّد المسؤولون الأوكرانيون أنّ التحضير لها بدأ منذ عام ونصف، بصبر وسرّيّة
حماسة متجدّدة
بلغ التفاؤل في الداخل التركي ذروته قبل أيّام، ووصل حدَّ التساؤل: هل يمكن أن تُعقد قمّة رباعية مفاجئة تجمع الولايات المتّحدة وروسيا وتركيا وأوكرانيا لتسريع الحوار؟ أو على الأقلّ قمّة ثلاثية تضمّ إردوغان وبوتين وزيلينسكي؟
كان الدافع إلى هذا التفاؤل الوعود التي حصلت عليها تركيا من طرفَي النزاع بمنحها فرصة لتفعيل وساطتها، إضافة إلى حماسة ترامب واتّصاله بنظيره الروسي دعماً للجهود التركيّة، والأجواء الإيجابية التي عاد بها وزير الخارجية التركي فيدان من جولاته ولقاءاته على خطّ كييف – موسكو في الأيّام الأخيرة، إلى جانب الإشادات الروسية والأوكرانية بجهود أنقرة وتمسّكها بالوساطة حتّى النهاية.
إقرأ أيضاً: تركيا: “طبخة” بهشلي لبناء تحالف حزبيّ جديد؟
قال فيدان قبل ساعات من انطلاق المفاوضات إنّ أنقرة تريد مواصلة جهودها، مستندة إلى الحماسة التي بدأت تتجدّد قبل أسابيع. لكن من قال إنّ أنقرة ستبقى متفائلة، إذا ما قرّر بوتين أنّ آماله المعقودة على ترامب قد خابت؟ أو إذا ما رأى أنّ أوروبا لا تُصغي للأخير، أو أنّها قد تكون هي أيضاً مستهدفة في جهودها بسبب قرار أوروبي مبيّت لإفشال المساعي وإحداث شرخ بين أنقرة وموسكو من جهة، وبين أنقرة وكييف من جهة أخرى؟ الردّ على كلّ ذلك في جعبة الرئيس ترامب قبل غيره.