لا يمكن في يومنا الحاضر تعريف أو توصيف الحدود بين الدول على أنها مجرد خطوط جغرافية وسياسية فاصلة. كثير من الدول المتحضرة تجاوزت هذه العقبة على ضوء تجاربها ومشكلاتها الحدودية، وقررت تحويل المسار إلى فرصة تلاقي وتفاعل بين الثقافات والشعوب، وحولت المسألة إلى وسيلة للتواصل والتعاون، تسهم في تعزيز العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية باسم الجوار والمصالح المشتركة.
حولت دول الاتحاد الأوروبي حدودها المشتركة إلى ساحة جغرافية واسعة، تسهم في تعزيز التنمية وتنظيم حركة العبور البشري والموارد والثروات. لكن رسائل الوحدة الأوروبية وصلت اليوم إلى تبني والدفاع عن منطق التبادل الثقافي، وتعزيز الفهم المتبادل والتعايش السلمي، من خلال فتح المعابر وتسهيل حركة التنقل والتواصل بكل أنواعه.
اليوم فقط بدأنا نتساءل كيف ولماذا نجحت أوروبا، التي شهدت حربين عالميتين مدمرتين، في تجاوز الماضي المؤلم، من خلال بناء نموذج للتعاون الحدودي يتيح التنقل الحر بين مواطني الدول الأعضاء، ويسهل التكامل الاقتصادي والاجتماعي. ولماذا نفشل نحن في الخروج من عقدة الذاكرة الجماعية ، التي فرضت علينا إدارة الحدود بوصفها مناطق احتراب مؤجل، وليس بوابات عبور نحو المستقبل؟ هل سنسرّع بدورنا عملية تحويل الحدود من نقاط صراع إلى جسور للتعاون؟
التحولات السياسية في سوريا تفتح بابًا لفرص جديدة في التعاون الحدودي بين تركيا وسوريا. هذه الفرص يمكن أن تشمل تعزيز التجارة، وتطوير البنية التحتية المشتركة، وتسهيل حركة الأفراد. مثل هذا التعاون لا يعزز الأمن والاستقرار فقط، بل يقوي الروابط الاجتماعية والاقتصادية بين الشعبين. النموذج الأوروبي قابل للتطبيق في منطقتنا إذا ما توفرت الثقة وشيدت المؤسسات المشتركة القادرة على تجاوز العقبات الأمنية والسياسية والتي إن كانت حقيقية، فالتغلب عليها ليس بالمستحيل.
بدأنا اليوم ندرك أن المسألة لم تعد فقط قضية الدفاع السياسي والأمني عن الحدود، بل بات من الضروري تحويلها إلى وسيلة تقريب، ومنطلق للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، يسهم في تعزيز التبادل التجاري والثقافي. فتح المعابر وتسهيل حركة الأفراد لا يهدد الهوية الوطنية والثقافية كما يزعم بعضهم، بل هو تلاقٍ وتفاعل بين الثقافات والحضارات والأديان، ووسيلة للتواصل تعزز العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتنتقل بها إلى مرتبة أعلى.
تعود مسألة رسم الحدود التركية السورية في التاريخ المعاصر إلى اتفاقيات ما بعد الحرب العالمية الأولى، وقد شهدت هذه الحدود تغييرات وتعديلات متكررة تحت تأثير عوامل سياسية وأمنية، واكبها تشدد وحذر في فتح الأبواب والمعابر، رغم أن القلوب كانت ولا تزال جاهزة لذلك.
إن الخزان الاجتماعي والثقافي والحضاري العابر للحدود لا يمكن أن يُحكم بحفنة من المتشددين المعرقلين لفتح الأبواب. الحاصل اليوم هو أن قوة الروابط الأسرية والإنسانية تمكنت من التفوق على قرارات التشدد السياسي والأمني، فهل نستثمر هذا الرصيد الشعبي والسياسي القائم؟
خلال سنوات الثورة السورية، ورغم التشدد الحدودي، نجح التفاعل الإنساني في الظهور، ولو جزئيًا، إذ سقطت كثير من الألغام النفسية، حتى وإن بقي العامل الأمني عقبة صعبة الالتفاف عليها. أما اليوم فقد أدخل سقوط نظام الأسد العلاقات التركية السورية في مرحلة جديدة من التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. تلاحقت الزيارات الرسمية، وتحسنت العلاقات السياسية، وأُعلن في أنقرة ودمشق عن بداية مرحلة مختلفة من التعاون والتنسيق لإعادة بناء العلاقات.
لم يكن هدفنا في مناطق تقاطع الحدود البحث عن الفرص والنماذج التي تسهّل وتقرّب، بل العكس. زرعنا آلاف الألغام والأسلاك الشائكة، ونصبنا المطبات التي تعرقل وتعقد، وتركنا المشاهد الموجعة تتكرر أمام أعيننا في الأعياد، حيث يتبادل الأقارب الهدايا “جواً” عبر سواعد شابة تسعى لتمرير علبة قهوة أو كيس من الشاي أو قطعة قماش، تتعثر أحيانًا وتسقط في المنطقة الفاصلة بحسرة وألم، مخيبةً الأمل.
صحيح أن السلطات والأجهزة الأمنية كانت ولا تزال تواجه توترًا أمنيًا، يجعل الأصابع دائمة الجهوزية فوق الزناد. فإدارة الحدود مسؤولية سيادية، واحترامها من مقتضيات السلم والأمن. لكن جرح الذاكرة أو “تروما” الأعياد في المناطق الحدودية التركية السورية مؤلمة وقديمة. حاولنا تجاوزها، إلا أنها بقيت غصة عميقة لدى كبار السن وفرصة تفاؤل للأجيال القادمة التي تنتظر بارقة أمل لا تكفيها إجراءات التأشيرات. فما يحمله الشعبان في تلك الرقعة الجغرافية من مطالب وأحلام أكبر بكثير.
إن الخزان الاجتماعي والثقافي والحضاري العابر للحدود لا يمكن أن يُحكم بحفنة من المتشددين المعرقلين لفتح الأبواب. الحاصل اليوم هو أن قوة الروابط الأسرية والإنسانية تمكنت من التفوق على قرارات التشدد السياسي والأمني، فهل نستثمر هذا الرصيد الشعبي والسياسي القائم؟
ألم يحن الوقت لنسأل لماذا ينجح “هو” في التنقل بحرية بين دول أوروبا الغربية والشرقية، بعد كل ما جرى من صراعات واصطفافات وعداوات؟ في حين نفشل “نحن” في الخروج من عقدة الذاكرة والحدود؟ ما الذي يسهل بناء الهوية الأوروبية، ويعطل بناء هوية شرق أوسطية؟ الأساس هو الثقة، والحوار، والإرادة السياسية، وتفعيل متطلبات المصالح المشتركة.
صحيح أن أوروبا تملك اليوم بنية سياسية متقدمة، لكن بدايتها لم تكن وردية. لم تُمحَ الحدود هناك بمعجزة، بل بفكرة.. ثم بإرادة.. ثم بطاولة مفاوضات شاقة وطويلة. القناعة أولًا، ثم البناء المؤسساتي ثانيا، لكن الثقة كانت حاضرة دائما.
أما نحن، فما زلنا ندير حدودنا كأنها خطوط نار ننتظر اشتعالها. نخاف من فتح بوابة قد تعيدنا إلى لحظة لم نحسمها بعد. انتقلت أوروبا من معسكرات الحرب إلى منطقة شنغن بلا تأشيرات. فما الذي يمنعنا من تحويل “باب الهوى”، و”تل أبيض”، و”القامشلي”، إلى ممرات سلام؟
لا معجزة في ذلك، بل قرار… وإرادة… وثقة. وربما قليل من الجرأة السياسية على مصالحة الذاكرة، وليس فقط إدارة الحدود.