…
الدولة الفلسطينية عبارة من كلمتين كافية لإثارة غضب إسرائيل وجنونها. تعتبر إسرائيل الاعتراف بحدّ ذاته تهديداً وجوديّاً وعقاباً شديداً لا يمكن التسامح به بذريعة أنّ قيامها يؤدّي إلى زرع “دولة إرهابية في قلب إسرائيل”.
لن يهدأ بال إسرائيل بعد إعلان 15 دولة غربية، بينها فرنسا وبريطانيا وإسبانيا وهولندا، نيّتها الاعتراف بالدولة الفلسطينية. أبلغ بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر أنّ اعترافاً كهذا هو “عقاب للضحيّة”. وادّعى أنّ “دولة جهاديّة عند حدود إسرائيل اليوم، ستهدّد بريطانيا غداً. والتسامح تجاه الجهاديّين فَشِلَ. وهذا سيفشل عندكم أيضاً. وهذا لن يحدث”.
ينطوي الإعلان الأوروبي على إحباط شديد لقادة الدول الأوروبية ومتأثّر بالرأي العامّ في دولهم، لاسيما مع اشتداد حرب الإبادة في غزّة. ويعكس تحوّلاً كبيراً في مواقف الأوروبيين من داعم بشدّة للردّ الإسرائيلي على “طوفان الأقصى” في غلاف غزّة، إلى معترف بالدولة الفلسطينية على هذا النحو، ذلك أنّ الاستباحة الإسرائيلية لكلّ القيم والجنون الإجرامي في غزّة والتهويد والاستيطان في الضفّة الغربية وحرب الإبادة الجماعية والتجويع لا بدّ أن يكون لها أثر في الشعوب الأوروبية التي لم يمُت الضمير الإنساني فيها بعد.
هذه التحرّكات وإن عكست تحوّلاً متنامياً في المزاج السياسي الغربي، لكنّها تظلّ، حتّى اللحظة، خطوات رمزيّة لن تخفّف من مآسي الفلسطينيّين ولا من معاناتهم ولن تغيّر مجرى حياتهم، إذا لم تترافق مع وقف كلّ أشكال الدعم غير المباشر للاحتلال، وتوظيف الأدوات الدبلوماسية والقانونية لمنع استمرار جرائم الحرب والإبادة الجماعية بحقّ المدنيين. لا تكتمل فعّاليّتها ما لم تُترجم إلى خطّة سياسية شاملة وملزِمة تُنهي الاحتلال وتعيد للشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية.
الدولة الفلسطينية عبارة من كلمتين كافية لإثارة غضب إسرائيل وجنونها. تعتبر إسرائيل الاعتراف بحدّ ذاته تهديداً وجوديّاً وعقاباً شديداً لا يمكن التسامح به
إعلان نيويورك يعيد تدويل القضيّة ويعرّبها
قد يرى البعض في هذا الاعتراف المجرّد شيكاً بلا رصيد سيسقط بـ”فيتو” أميركي في مجلس الأمن إذا ما وصل هذا الاعتراف إلى الأمم المتّحدة. بيد أنّ اعترافاً كهذا من شأنه منح شرعيّة لفرض عقوبات دوليّة على إسرائيل. والأهمّ مرافقته مع إعلان نيويورك لـ “تنفيذ حلّ الدولتين”، بمباردة سعودية فرنسية، والإجماع العربي والدولي على بيانه الختامي، يعطيانه بعداً آخر من شأنه إعادة تدويل القضيّة الفلسطينية ويعيدان فلسطين إلى العرب والعرب إلى فلسطين. وهنا مكمن الخطر الأكبر على إسرائيل، التي سعت جاهدة طوال عقود إلى عزل فلسطين ليس فقط عن العالم بل عن العالم العربي وتركها قضيّة داخلية إسرائيلية محض وصراع فلسطيني إسرائيلي محلّي وحسب.
بعد حرب أكتوبر/تشرين الأوّل عام 1973، راقت لبعض قادة الثورة الفلسطينية فكرة استقلالية القرار الفلسطيني و”فلسطنة الصراع”، لقطع الطريق على تدخّل بعض أقطاب النظام العربي، ولا سيما في دمشق وبغداد وطرابلس الغرب، في الحياة السياسية الداخلية للفلسطينيّين بل وجعل القضيّة ورقة مساومة في التنافس على الأدوار الإقليمية. أدّى ذلك لاحقاً إلى تراجعٍ للدور العربي تمثّل ليس فقط بتخلّي هذه الأنظمة العربية عن التزاماتها التاريخيّة القومية تجاه القضيّة الفلسطينيّة، بل إلى تراجع مكانة الجامعة والمنظومة العربية في كلّ ما يتعلّق بمصيرها المشترك المرتبط بوحدتها الحضاريّة والجغرافيّة، الأمر الذي رفع تلقائيّاً الغطاء الجماعيّ عن أكثر الملفّات حساسيّة في التاريخ العربيّ الحديث وساهم في تفاقم الأوضاع بدءاً بالحرب الأهلية في لبنان وصولاً إلى تداعيات الربيع العربي، لاسيما في اليمن وليبيا وسوريا، مروراً بالغزو العراقي للكويت ثمّ الغزو الأميركي للعراق وحروب السودان والصومال والصحراء الغربية، علاوة على مساعي البعض جعل هذه “الفلسطنة” جداراً عازلاً يحول بين الشعوب العربية وواجباتها حيال قضيّتها ويضعف مكانتها في الوعي العربي الجماعي. والأخطر أن ابتعاد العرب عن فلسطين شرّع أبواب التدخّلات الخارجية للاستثمار السياسي في قضيّتها وشكّل جسراً لتمدّد النفوذ الإيراني الواسع والباهظ الكلفة، ونفوذ تركي أقلّ اتّساعاً في الجسم العربي.
إسرائيل وخلفها الولايات المتّحدة ستعملان بكلّ قوّة لإجهاض مفاعيل حلّ الدولتين قبل أن تنضج، ولذا لا بدّ من دور سياسي عربي أكبر لا يقتصر على السعودية وحدها
القرار الفلسطينيّ المستقلّ أصاب وأخطأ
إذا كان استقلال القرار الفلسطينيّ مهمّاً لجهة تماسك الجبهة الفلسطينيّة الداخليّة، فإنّ فلسطين لم ولن تكون أبداً قضيّة محليّة صرفة، ذلك أنّ زرع “دولة إسرائيل” في قلب المنطقة العربية لم يكن بهدف حلّ المسألة اليهودية أو إيجاد ملاذ لليهود المضطهَدين في أوروبا في “أرض الميعاد” كما ادّعت الدعاية الغربية، بل لغاية استعمارية وظيفيّة مهمّتها الأساسية تفكيك العالم العربي والحيلولة دون تطوّره وتطوّر شعوبه، ذلك أنّ العقل الاستعماري الغربي أدرك منذ ما قبل سقوط الدولة العثمانية أنّ هذا المدى الجغرافي العربي الكبير بما تسنّى له من موقع استراتيجي وطاقات وإمكانات وإرث تاريخي وحضاري ودولتيّ إذا ما فُعّلت ونُشّطت وأُحسن إدارتها يؤهّله أن يكون المنافس الأوّل والفعليّ الأبرز للغرب. لذلك كان ولا يزال شكل الهدف الأبرز للاستهداف من الغرب والشرق معاً وفي القلب منه فلسطين.
من هنا أهميّة مبادرة نيويورك كفرصة لإعادة القضيّة الفلسطينية إلى مكانتها المركزية ضمن منظومة دوليّة عربية جديدة، تأخذ في الاعتبار التحوّلات الكبرى التي أثّرتْ ولا تزال على القُطبيّة الأميركيّة، وتالياً وضعيّة إسرائيل في المنطقة، وتعيد تعريف الصراع وفق قواعد القانون الدوليّ، ومواجهة مشروع بنيامين نتنياهو المدعوم أميركياً لفرض إسرائيل بالقوّة العسكرية القطب الإقليمي المهيمن على الشرق الأوسط عبر احتكار القدرة النووية وأحدث الابتكارات الحربية التكنولوجية والتطبيع الأمنيّ والاقتصادي مع تغييب كامل لفلسطين والفلسطينيين.
إقرأ أيضاً: مؤتمر حلّ الدّولتين: السعودية تُقلق إسرائيل
إسرائيل وخلفها الولايات المتّحدة ستعملان بكلّ قوّة لإجهاض مفاعيل حلّ الدولتين قبل أن تنضج، ولذا لا بدّ من دور سياسي عربي أكبر لا يقتصر على السعودية وحدها رغم أنها صاحبة المبادرة، بل تفعيل الدور المصري القياديّ بشكل ملحّ، على أن يتوازى ذلك مع إجراء مراجعة فكريّة، في الداخل الفلسطيني أوّلاً وعلى مستوى النخب العربية كافّة ثانياً، لإعادة الاعتبار لمفهوم العلاقة العضوية التي تربط الوطني بالقومي، والسيادة بالتحرّر، والتطوّر بالاستقرار والحرّية، وعودة فلسطين إلى مكانتها الطبيعية في الوعي العربي. هكذا نُغضب إسرائيل فعليّاً.