منذ هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، وما سبَّبته من موجةِ عداءٍ شديدةٍ للإسلام، وحروبٍ استباقيَّةٍ في أفغانستان والعراق؛ لم يقع حدثٌ جللٌ يُغيِّر علاقة الولايات المتحدة الأميركية، ومن خلفها الغرب كلُّه، بالإسلام طوال سنوات. وكان علينا الانتظار حتى لقاء الرياض الأخير في 14 أيار/مايو من هذا العام، كي نقول مرةً أخرى: إن شيئًا مهمًا قد تغير في علاقة الولايات المتحدة الأميركية مع الإسلام؛ فلقاء الرياض قد جمعَ دونالد ترمب، رئيسَ الولايات المتحدة الأميركية، مع أحمد الشَّرع، رئيسَ سوريا الجديد، الذي جاء من الخلفية نفسها التي كرست الولايات المتحدة سابقًا كلَّ طاقاتها لمحاربتها. وكأنَّ الذي يحصل نقيضٌ تامٌ للعداء الذي حدث في 2001؛ فما الذي تغيَّر؟
طرح نورمان ميلر، الصحفيُّ الفذُّ والشاعر والمسرحي الأميركي، ضمن نقاشاتٍ مُحتدمةٍ في الولايات المتحدة بعد أحداث أيلول/سبتمبر، السؤالَ الآتي: لماذا لا يحبُّوننا؟ وقال الكاتب الفرنسي “آلان تورين” أن هذا السؤال كان “محض ضميرٍ” سرعان ما تلاشى أمام ضرورة القبض على أسامة بن لادن، ثم إدانة صدام حسين؛ فلم يكن في نيويورك إلا ثلاثةَ أصواتٍ فحسب، وصوت ميلر وأشباهه ليست منها، ويحددها “تورين” بدقة: “صوت الرئيس بوش، وصوت وزير الدفاع، وصوت الله الذي غالبًا ما كان يصغي إليه الرئيس ويتوسَّل إليه مجلس الوزراء”. ثم في 2003 أجاب ميلر، عن سؤاله نفسه، وتوسَّع في الإجابة ضمن كتابٍ بعنوان “لماذا نحن في حالة حرب” (Why are we at war?). كانت معظم الإجابات في هذا الكتاب تحيل على نقد السياسة الأميركية، وتحديدًا على محاولة تصدير الديمقراطية بالقوة، والنتائج العكسية التي ترتَّبت على ذلك، وأهمها انتشار الكراهية لأميركا خارجيًّا، وتحوُّلها إلى فاشيةٍ داخليًّا. وللمفارقة، فقد اعتقد ميلر أنه يشمُّ رائحةَ الفاشيَّة في قلب أميركا، ولكن اللافت في جواب ميلر عن سؤاله هذا، كان في لفظةٍ أخرى استخدمها في كتابه، وهي “الإمبرياليَّة”، يقول: “نحن مَكرُوهُون لأننا صرنا إمبرياليَّةً لم تعد تُبصِر ذاتَها”.
واليوم، عادت لفظة الإمبرياليَّة إلى النقاش الأميركي بعد لقاء الرياض، لكن هذه المرة رسميًا، فاستخدمها توماس باراك، المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، عندما قال إن “سايكس بيكو” كانت لخدمة “مصالح إمبرياليَّة”. ولكنَّ الفرقَ كبيرٌ الآن؛ فيبدو أنَّ استخدامَ اللفظة من قبل باراك، ليس لأن الإمبرياليَّة صارت تُبصِر ذاتها، مثلما تَمنَّى ميلر، بقدر ما هي لفظةٌ نُبشت نبشًا (مثلما نُبشت لفظةُ الأمويين في دمشق) بغرض التكتيك، وليطمئنَّ الآخرون بأن شيئًا حقيقيًا قد تغير في علاقة أميركا بالعالم الإسلامي تحديدًا. الذي تغير هو انتصار قناعة راسخة عند ترمب: لنجرِّب من جديد، ونتحدَّى الدولة الأميركية التقليديَّة. ويبدو أن الآية قد انعكست في أميركا رأسًا على عقبٍ: فبدلًا من المزايدة على الآخرين بالديمقراطيَّة، والمبالغة فِيها، صارت الخلفيَّةُ الذهنيةُ التي تحكم المسار الأميركي في المنطقة، تميل إلى الاعتراف بحقِّ الآخرين في أن يكونوا كما يشاؤون، وكأنَّ لسان حال الأميركيين يقول: من حقِّهم الديمقراطي، كما تُمليه علينا ثقافتُنا، أن يكونوا غيرَ ديمقراطيين كما تُمليه عليهم ثقافتهم. وعندما نعطيهم هذا الحقَّ (الديمقراطيَّ)، ونكفُّ عن التدخُّل في شؤونهم، ينتهي عصرُ الكراهية، ويبدأ عصر الشراكة الاقتصاديَّة والدبلوماسيَّة، ومن ثم نصبح أصدقاء. وهكذا يستحقُّ ترمب جائزةَ نوبل للسَّلام، التي لم يَمَلَّ الرجلُ من القول إنَّه يستحقها، وواظب على التذكير بذلك منذ سنوات. والحق يُقال، إن هذا المقاربةَ صحيحةٌ؛ فمن حق البشر ديمقراطيًّا ألّا يكونوا ديمقراطيين، وخصوصًا إن كانوا يتمتَّعون بنتائجَ تنمويَّة مُتعيِّنةٍ في حياتِهم ورفاهِهم. وهذا، بالتأكيد، أفضل من سيناريوهاتٍ تشبه قصفَ الفلوجة في العراق عام 2004، ومجزرة “دَشتِ لَيلَي” في أفغانستان عام 2001.
واليوم، عادت لفظة الإمبرياليَّة إلى النقاش الأميركي بعد لقاء الرياض، لكن هذه المرة رسميًا، فاستخدمها توماس باراك، المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، عندما قال إن “سايكس بيكو” كانت لخدمة “مصالح إمبرياليَّة”
في هذا السياق نفسه، لنتأمَّل في الكلمة المقتضبة الَّتي قالها توماس باراك، في أثناء حفل توقيع شراكةِ الطاقة في دمشق بين الحكومة السورية وشركاتٍ من قطر، وتركيا، والولايات المتحدة الأميركية (29 أيار/مايو)، حيث افتتح كلامه بالقول إنَّه سيكون كلامًا وجدانيًا (Emotional) أكثر ممَّا هو سياسيٌّ، ثم قال إنَّه أتى من بعيدٍ، وأضاف: “كما تعلمون، البُعد ليس مجردَ مفهومٍ جغرافيِّ، بل البُعد في الحوار الذي ظلَّ مشوَّشًا بين الشرق والغرب طيلة قرنٍ من الزَّمن”. ثم استخلص ناصحًا، مادحًا، مُدشِّنًا للجديد الكبير، ومُذلِّلًا لبعدٍ قاسَهُ بالقرون وليس بالأميال: “إن واصلتم العملَ على إزالة الحدود، والحواجز، ونسج الرَّايات في نسيجٍ مُوحَّدٍ قوامه التجارة والتعاون؛ فإنَّنا، معًا، سنُعيد تشكيلَ طبيعة العالم وقوّته، انطلاقًا من هنا”.
إذًا، الإسلام الآن صار صديقًا، وصارت الكلمة “معًا” (Together) كلمةً ممكنةَ الاستخدام لوصف أميركا والإسلام الجهاديّ في صورته الأخيرة المنتَّصرة، حتَّى إن مصطلح الإمبراطوريَّة العثمانيَّة كان حاضرًا أيضًا في كلمة باراك القصيرة. ولكن من صار العدوُّ في أميركا الآن؟
في عام 1989 عندما كان الاتحاد السوفيتيُّ ينهار، قال ألكسندر أرباتوف، المستشار الدبلوماسي لميخائيل غورباتشوف، مخاطبًا الأميركيين: “نحن نقدِّم إليكم شيئًا فظيعًا بأن نحرمكم من العدو”. وقد كان أرباتوف ذكيًا بحق حين اهتدى إلى شيءٍ يشبه الكارثة المرعبة التي قد تنزل بدولة مثل الولايات المتحدة الأميركية، إذا أصبحت من دون عدوٍّ أيديولوجي. مرعبةٌ وصولًا إلى إمكانية تهديد وجود أميركا بوصفها قوةً عظمى أو لنقل بوصفها إمبرياليَّة؛ فكيف تحافظ الولايات المتحدة الأميركية على بنيتها المتماسكة والمتحفزة دائمًا وقد اندثر عدوها الأيديولوجيّ؟! هذا التساؤل هو خلاصة لفتة أرباتوف المُدهشة، وقد نقول إن أرباتوف كان مُحقًّا؛ إلا أن الولايات المتحدة بدت، بعد ذلك، وكأنِّها تجتهد في صناعة عدوٍّ أيديولوجيّ جديد، وكأنَّ هذه الصناعة صارت مهمَّةَ أمنٍ قومي بعد انهيار الاتحاد السوفيتيّ؛ فصار لدينا سردياتٌ عملت أميركا على حضورها والتسويق لخطورتها مثل سردية “الإرهاب”، و”الإرهاب الإسلامي”، وما إلى ذلك، وساعدتها الحركات الجهاديَّة، وأبرزها القاعدة في تلك المهمة بسلوكها المعروف.
اليوم، بعد أن صار المُجاهدُ السَلفِيُّ الأخيرُ صديقًا، يمكن أن نقول إن عدوًا جديدًا تمَّ تبنِّيه في أميركا قبل هذه الخطوة. وقد نفهم سرَّ هذه الصداقة الجديدة، إذا وضعناها في سياق ما قاله ترمب، عن “العدو”، في كتابه “أميركا المشلولة: كيف نجعل أميركا عظيمةً مجددًا” (“Crippled America”, How to make America great again) يقول: هناك من يتمنى ألّا أشير إلى الصين بوصفها عدوًا لنا، ولكن هذا بالضبط الوصف الذي ينطبق عليها”. وكأن الصين قد شالت كتفًا عن المسلمين؛ فليتنفسوا أخيرًا، ولينظروا ماذا هم فاعلون، وخصوصًا الذين يتوجهون إلى بناء دولةٍ جديدة، “لا تُشكِّل تهديدًا لأحد”، بتعبيرات حكومة دمشق الجديدة.
غير المرات التي استخدم ترمب كلمة “عدو” في وصف الصِّين، استخدم في الكتاب نفسه كلمةَ عدو أربعَ مراتٍ فحسب: مرتين لوصف تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، لكنَّه أضاف أن “قوات داعش، كلَّها، على الأرجح، لا يمكنها حتى أن تملأ مدرج “يانكي ستاديوم”. ومرةً ثالثة قالها في وصف إيران، وأضاف أنها “تهديدٌ لوجود إسرائيل”، ووافق أوباما – مع أنه قليلًا ما يفعل – في مقولته أن إيران “تهديدٌ حقيقيّ”. وفعلًا، الآن، إيران محشورةٌ في زاوية، وقد تحالف ترمب مع خصومها في المنطقة، ووجَّهت إسرائيل إليها ضرباتٍ إقليميَّةً قاصمةً، أهمها ضربُ حليفها الاستراتيجي “حزب الله”، ويضاف إلى ذلك – بطبيعة الحال – خسارتها المُدويَّة في سوريا بعد عملية “ردع العدوان”، وتحرير البلاد من نظام الأسد. ويبدو أن ترمب الآن يتفاوض في ملف السلاح النووي الإيراني براحةٍ ومزاجٍ لا يُعكِّر صفوَه شيء. ولنفهم معنى كلمة “العدو” عند ترمب، ننظر إلى المرة الرابعة التي استخدم فيها هذه الكلمة في الكتاب، حين قال: لا ينبغي لأي دولةٍ صديقةٍ، أو قائدٍ حليفٍ، أن يشكَّ بعد اليوم في دعمنا الصَّارم. ولا ينبغي لأيِّ عدوٍّ، ولا زعيمِ عدوٍّ، أن يُخطئَ فهمَ عزمنا على القتال حتى الموت، لكن موتهم هُم”.
لنلاحظ الآن، ألم يصبح “الديمقراطيون” في منطقتنا عُراةً؟ نعم، يا للأسف صاروا عراةً، ولكن لم يُعريِّهم ترمب، ولا الإسلام، بل فهمُهم الجمعيُّ القاصر، وإخفاقاتهم. هم عراةٌ اليوم لأنَّهم لم يسألوا ذواتهم يومًا، كما سأل ميلر، لماذا لا يحبُّوننا؟ ليس لماذا لا يحبُّونهم الأميركيين بطبيعة الحال، فقد سألوا هذا السؤال كثيرًا وتسابقوا إلى الإجابة عنه، لكنَّهم لم يسألوا: لماذا لا يحبُّهم أبناء بَلدهِم، المسلمين، والناس العاديين الذين يُكوِّنون الرأي العام؟ لماذا لا يرون فيهم إلا مُنظِّرين، لا يَكشِّون ولا يَنشُّون؟ الآن، صار الوقتُ ملائمًا، بعد أن صاروا عُراةً من كل شيءٍ، ليسألوا ذواتهم هذا السؤال، ويُسائِلوا أدواتَهم، وخطابهم، ويراجعوا إخفاقاتهم، وخيباتهم، ويفكِّروا في نزاقتهم، وخفة عقلهم، وبُعدُهم عن المجتمع، والأفضل أن يقيسوا هذا البُعد بالزَّمن كما فعل توماس باراك، ثم ينظروا، أمام هذه الحقيقة الجديدة، ماذا هم فاعلون. قد يهتدون إلى أن الإجابةَ تكمن في كلمةٍ واحدةٍ أيضًا، ليست الامبرياليَّة بكلِّ تأكيد، بل الأيديولوجيا: الأيديولوجيا التي لم تعد تُبصر ذاتَها منذ زمنٍ بعيد. أفضل ما يمكن أن يفعلوه، أن يُقدِّموا أيديولوجياتهم قرابينَ هذا التقارب الجديد، الذي قد لا يكون لهم فيه مكان؛ وأن يقرؤوا كثيرًا علهم يستطيعون نقدَ ذواتهم بحقّ.