على ماذا يراهن الرئيس دونالد ترامب لجر كل من اسرائيل وايران الى السلام، في وقت بدأ بنيامين نتنياهو حرباً لا يستطيع التراجع فيها، وتورط خامنئي في حرب لا يستطيع الانتصار فيها؟
هل يخطط الرئيس الأميركي للانتقال من أقوى رجل في العالم الى مجرد “شيخ صلح” مرة بين روسيا وأوكرانيا، ومرة بين الهند وباكستان، ومرة بين غزة وتل أبيب أو الى مجرد تاجر يبرم الصفقات مع هذا وذاك فيقسو على أحد ويتهاون مع آخر؟
وأكثر من ذلك، هل اطمأن ترامب الى أن ايران فقدت قدراتها النووية بفضل الضربات العسكرية الاسرائيلية، وأن الدولة العبرية باتت قادرة على المضي بحياتها من دون هواجس ومخاطر وجودية، وأن موفده الى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف بات قادراً الآن على انتزاع ما لم يستطع انتزاعه من طهران الدامية في كل من مفاوضات مسقط وروما، وعلى إرغام تل أبيب الجريحة على توقيع أي اتفاق يبرمه الأميركيون من دون أي اعتراض؟
لا يخفى على أحد أن اسرائيل لا يمكن أن تذهب الى حرب مع ايران من دون موافقة مسبقة مع ترامب، وأن الأخير لا يمكن أن يفعل ذلك ما لم يكن واثقاً من حاجته الى هزة في الجسم الايراني ترغم الأئمة على التفاوض من موقع ضعيف، وعلى جرعة معنوية في الجسم الاسرائيلي تقنع نتنياهو بابرام اتفاق يدين به الى الدعم الذي تلقاه من الأميركيين.
انطلاقاً من هذه التساؤلات لا بد من سؤال أكثر الحاحاً، هل يمكن أن يذهب ترامب الى التفاوض مع خصم لا يزال قادراً على وضع سلاحه النووي على الطاولة، وهو الذي يتماهى مع الاسرائيليين في أن المفاعلات النووية الايرانية لا تزال سالمة الى الحد الذي يسمح له بعد بضع سنوات بانتاج ما يحاولون ضربه الآن أي القنبلة النووية؟ وهل يمكن أن يسمح بانهاء الحرب من دون غالب ومغلوب، خصوصاً أن أي غلبة قد تأتي لمصلحة طهران مهما كان حجمها، ستعني احياء محور الممانعة مجدداً في كل من غزة ولبنان والعراق واليمن وستزيد الضغط على واقعين، الأول النظام الحاكم في دمشق، والثاني مسار التطبيع بين العرب واسرائيل، اضافة الى أنها ستحوّل تل أبيب من قوة لا تقهر الى قوة لا تخيف أحداً.
فهل يستطيع ترامب أن يتحمل كل ذلك، وهو الذي تكشف مصادر ديبلوماسية أنه أبلغ الى حلفائه في المنطقة والعالم عشية الهجوم الجوي الاسرائيلي، أن أمام ايران واحداً من خيارين: اما القبول بالشروط الأميركية الداعية الى تفكيك البرنامج النووي عن آخره، واما تحمل قصف متواصل من اسرائيل لن يتوقف قبل إسقاط النظام الحاكم في طهران.
الجواب قد يكون نعم اذا تلقى من ايران المعزولة عالمياً، ما يشبه راية بيضاء خفية تؤكد موافقة خامنئي على أن يتجرع كأس السم والتسليم بأي شيء يمكن أن يحفظ حكم الأئمة، وقد يكون لا اذا تلقى من اسرائيل ما تحتاج اليه من وقت لانجاز المهمة من دون مساعدة من أحد .
الواضح حتى الآن أن ايران تبدو خائفة على نظام الحكم أكثر من أي شيء آخر، وباتت متأكدة من أن الاستمرار في الحرب سيؤدي بها الى ما أصاب حسن نصر الله و”حزب الله” في لبنان، وأن التنازل الآن بينما لا تزال قادرة على دك تل أبيب بالصواريخ، يبقى أفضل من الاستسلام عندما تتقلص القدرة الصاروخية الى مستويات غير مؤثرة أو غير متكافئة، وهذا ما سمعه المسؤولون الايرانيون من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي حمل اليهم رسالة من ترامب تخيّرهم بين سقوط ايران وسقوط خامنئي.
وقد يسأل سائل لماذا كلف ترامب الرئيس الروسي دون سواه التوسط لدى طهران؟ والجواب في تسريبات من الدوائر الديبلوماسية الأميركية أفادت بأن بوتين تلقى عرضاً أميركيا يعطيه في أوروبا ضمانتين جوهريتين الأولى، عدم ضم أوكرانيا الى حلف الأطلسي، وعدم تزويد كييف بأسلحة نوعية يمكن أن تقلب موازين القوى في الحرب، في مقابل أن ينجح بوتين في تفكيك برنامج ايران النووي ونقل اليورانيوم المخصب الى أراضيه.
هذا في السياسة، اما في الميدان فالأمر مختلف تماماً اذ ان معظم الدوائر العسكرية المراقبة يجمع على أن ايران مأزومة فعلاً وأنها تبحث عن أي وسيط يمكن أن يسهم في وقف الحرب عند هذا الحد ما دام السيف لا يزال مرفوعاً في يدها، لكن التمني شيء والواقع شيء آخر، فهي تواجه ذئباً أميركياً يريد التهام كل شيء، و”أسداً” صاعداً يوحي من خلال هذا الشعار بأنه يريد اعادة الشاه الى طهران، وأذرعاً مشلولة لا تستطيع لها أكثر من الدعاء والتكبير كلما سقط صاروخ على حيفا أو تل أبيب.
ولا تخفي مصادر عسكرية في طهران أن الأخيرة تلقت ضربات مدروسة يصب معظمها في ازالة العوائق الأمنية والقمعية التي تمنع الايرانيين من النزول الى الشوارع في محاولة لاسقاط النظام، مشيرة الى أن “الحرس الثوري” يراقب الشارع أكثر مما يراقب تل أبيب، معتبراً أن أي انتفاضة يمكن أن تنطلق الآن لن تقمع بسهولة.
وسط هذا المشهد المعقد نعود الى الرئيس ترامب للسؤال عن الخيارات التي يملكها لجر اسرائيل وايران الى السلام الذي يبشر به؟ ليكتشف المراقبون والقريبون من البيت الأبيض وتل أبيب أن سلاح الجو الاسرائيلي، وعلى الرغم من سيطرته المطلقة على الأجواء الايرانية، اصطدم بتحصينات حول المفاعلات النووية لا يستطيع ضربها من دون الأميركيين الذين تخزن ترساناتهم في ما يبدو حلاً لكل عقدة، وتحديداً عقدة مفاعل “فوردو” الجبلي الذي يعتقد أنه حاضن القنبلة النووية المرتقبة.
ولعل هذه العقدة تحديداً هي التي يراهن عليها نتنياهو لجر ترامب الى الحرب، معتبراً أن واشنطن لن تكون قادرة على لي زند ايران في أي تسوية مقبلة ما دام “فوردو” صامداً وبعيداً من أي رادع.
وتقول أوساط أميركية قريبة من طباع ترامب أن الأخير بات مقتنعاً بأن الحسم ضد النووي الايراني غير ممكن من دون تدخله المباشر سواء كان تدخلاً خاطفاً أو طويلاً، وأن كل ما يلمح اليه عن سلام منشود بين طهران وتل أبيب ليس الا مجرد أوهام وتمنيات.
لكن أوساطاً أميركية أخرى تستبعد ذلك، مشيرة الى أن ترامب الذي تعهد عدم الرغبة في خوض الحروب في أي مكان، لا يستطيع تلبية النداءات التي يتلقاها من نتنياهو للنزول الى الميدان، من دون الحصول على سبب كبير وخطير يدفع الرأي العام الأميركي الى الوقوف خلفه من جهة، ويحفظ له تحالفاته مع العالمين العربي والاسلامي من جهة ثانية، ولا يعكر علاقاته المتوترة أصلاً مع الصين على حدود تايوان، والمعقدة مع روسيا من جهة ثالثة، ولا تؤدي الى “تشيرنوبل” جديدة في سماء الشرق الأوسط وتحديداً سماء الخليج من جهة رابعة.
وهنا لا بد من سؤال آخر، ماذا يمكن أن يدفع ترامب الى الحرب؟
أربعة أسباب قادرة على ذلك وهي أولاً قيام ايران باغلاق مضيق هرمز، وثانياً عودة الحوثيين الى تهديد حرية الملاحة في البحر الأحمر، وثالثاً دخول “حزب الله” على خط الحرب في الجبهة الشمالية لاسرائيل، ورابعاً اذا شعر بأن حليفه الاسرائيلي غير قادر على حسم الحرب.
فهل يمكن أن يحدث أي شيء من هذا؟
يجمع المراقبون على أن ايران تملك من الحكمة ما يكفي لتجنب أي تصرف يضعها في مواجهة مع أميركا والعالم في وقت تخوض حرب وجود تشبه ما تخوضه اسرائيل نفسها، فهي تعمل الآن على أمرين: حصر الحرب في اطارها الصاروخي البعيد، ومنع أذرعها من التدخل واثارة المارد الأميركي الذي يدفع بقواه البحرية الى الشرق الأوسط تحسباً، وارسال اشارات عبر وسطاء محايدين وبينهم الرئيس القبرصي توحي باستعدادها للعودة الى المفاوضات مرتدية قفازات بيضاء.
وعلى الرغم من ذلك لا يستبعد هؤلاء المراقبون أن يقع ترامب من حيث يأبى أو يشاء، على حسابات ومبررات أخرى لدخول الحرب، ووسائل ومكائد يملكها نتنياهو لجر أميركا والغرب اليها، اذ يكفي أن يطلق طلقة واحدة على قاعدة أو سفينة أميركية أو غربية كي يحول حربه مع ايران الى حرب اقليمية وربما عالمية، فهل يفعل ذلك؟ وهل يسقط ترامب في هذا الفخ طوعاً أو قسراً؟
الأرجح حتى الآن، أن ترامب مقتنع بأن الهزة التي أرادها في الجسم الايراني لا بد أن تؤتي ثمارها على طاولة المفاوضات وأنه سيعطي اسرائيل الوقت الذي تحتاجه والسلاح الذي ينقصها كي تنجز المهمة، مؤكداً أمام أعوانه أن شيئاً واحداً قد يدفعه الى الميدان وهو احتمال انكسار اسرائيل أو فتح الساحات، مشيراً تحديداً الى أي عمل متهور قد يرتكبه “حزب الله” انطلاقاً من لبنان.
فهل تدرك السلطة اللبنانية أن تقاعسها عن معالجة ملف السلاح لم يكن أمراً حكيماً كما تسوّق لنفسها بقدر ما كان أمراً مفخخاً يمكن أن يؤدي الى جر لبنان الى حربين، حرب في الداخل تريدها اسرائيل بأي ثمن، وحرب من الخارج تنتظرها على نار.