Skip to content

السفينة

alsafina.net

Primary Menu
  • الرئيسية
  • الأخبار
  • افتتاحية
  • حوارات
  • أدب وفن
  • مقالات رأي
  • منوعات
  • دراسات وبحوث
  • المجتمع المدني
  • الملف الكوردي
  • الأرشيف
  • Home
  • “زهرة تحت القدم”: اشتباك عميق مع هشاشة الإنسان والأسى دارين حوماني……المصدر:ضفةثالثة
  • أدب وفن

“زهرة تحت القدم”: اشتباك عميق مع هشاشة الإنسان والأسى دارين حوماني……المصدر:ضفةثالثة

khalil المحرر يونيو 17, 2025

استعادات”زهرة تحت القدم”: اشتباك عميق مع هشاشة الإنسان والأسىمن اليمين: نابوكوف، زامياتن، غوميليوف، بلاطونوف، أندرييف، وشالاموف

يمكن القول إن العلاقة مع الأدب الروسي في مكان والعلاقة مع الآداب الأخرى في مكان آخر، منذ أن بدأنا نقرأ الترجمات التي كانت تقدّمها لنا كلّ من “دار التقدم” و”دار رادوغا”، مع سامي الدروبي ويوسف الحلاق من سورية وغائب طعمة فرمان وخيري الضامن من العراق وأبو بكر يوسف من مصر وغيرهم. ألم يقل رولان بارت “حين تقرأ الأدب الروسي، فإنك لا تكتفي بفهم الإنسان، بل تُجبر على أن تشعر بعذابه”، عبارة تجسّد العلاقة مع هؤلاء الأدباء الذين اخترقتنا أعمالهم وتمكنوا من كشف ذواتنا أمام ذواتنا.
اليوم، يختار لنا المترجم والشاعر السوري نوفل نيّوف في كتابه “زهرة تحت القدم” (محترف أوكسيجين للنشر، كندا، 2024) اثنتين وعشرين قصة لستة أدباء روس، هم: ليونيد أندرييف، يغفيني زامياتن، نيكولاي غوميليوف، فلاديمير نابوكوف، أندريه بلاطونوف، فارلام شالاموف، من تلك المرحلة الأدبية التي أُطلق عليها “العصر الفضي” (1890-1921) لتمييزها عن “العصر الذهبي” الذي يُشير عادةً إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر والذي هيمن عليه عمالقة الأدب مثل ألكسندر بوشكين، ونيكولاي غوغول، وميخائيل ليرمونتوف، وليو تولستوي، وفيودور دوستويفسكي. ولا يعني مصطلح “العصر الفضي” انخفاضًا في القيمة الأدبية عن “العصر الذهبي”، بل يعكس نوعًا مختلفًا من التألق الأدبي، أكثر تجريبية، واستبطانية، وبحثًا روحيًا، كما يشير النقاد. وقد ظهر مصطلح “العصر الفضي” Серебряный век بأثر رجعي، وخاصة بعد عشرينيات القرن العشرين، كوسيلة لتأطير الانفجار الثقافي والفني الذي حدث بين تسعينيات القرن التاسع عشر وأوائل عشرينياته، وكيفية تصوير مخاوف وتطلّعات عالم على شفا ثورة، ويعدّ أكثر حداثة، وحيث هيمن الشعر فيه وكان هناك هوسٌ بالنفس الإنسانية، ونهاية العالم، والتحوّل الروحي. وقد عمد نوفل نيّوف، في كتابه هذا، إلى تقديم موجز عن حياة كل أديب قبل عرض قصصه المختارة، وهو موجز لا يُفاجأ القارئ إن وجد فيه ملامح ذلك العصر المثقل بهواجس الأدباء ورؤيتهم للعالم من زاوية دفينة، إذ يكشف عن اشتباكهم العميق مع الأسى، وتوقهم إلى الموت، بعدما عرفوا جميعًا حياة قاسية ومأساوية.

ونوفل نيّوف (1948) حاز على جائزة الشيخ حمد للترجمة عام 2019 عن ترجمة “كل شيء عن الحب” لناديجدا طيفي. وصدرت له مجموعة شعرية ومجموعة قصصية ورواية، وترجم وراجع نيّوف عشرات الأعمال عن الروسية، منها “اعتراف أين الله؟” لـمكسيم غوركي، و”قلب كلب” لـميخائيل بولغاكوف، و”كل شيء عن الحب” قصص قصيرة لـناديجدا طيفي، و”يهوذا الإسخريوطي” و”كتاب الجنون” لـ ليونيد أندرييف، “الوعي والفن” لـ غيورغي غاتشِف، وغيرها.

***

 

ليونيد أندرييف (1871-1919)

ليونيد أندرييف كاتب مسرحي وروائي وكاتب قصص قصيرة ويعدّ مؤسّس تيار التعبيرية في الأدب الروسي. يجمع أسلوبه بين عناصر المدارس الواقعية والطبيعية والرمزية في الأدب. من بين مسرحياته الخمس والعشرين، تُعتبر مسرحيته “من يُصفع” التي كتبها عام 1915 أروع إنجازاته. بعد فشله في الحب في مطلع شبابه حاول الانتحار بطلقة مسدس، لم يمت، ولكن أسفر ذلك عن أزمة قلبية تسبّبت بعاهة قلبية له وكانت من أسباب وفاته. توفي والده حين كان لا يزال طالبًا في الحقوق في الجامعة، فعاش في فقر مدقع، إذ كان عليه الآن إعالة والدته وإخوته وأخواته الذين انتقلوا إلى موسكو. كان يكسب قوت يومه من خلال مهن مؤقتة، كالتدريس ورسم البورتريهات حسب الطلب. عمل في الصحافة، ونالت قصصه إعجاب مكسيم غوركي منذ بداياته، وذكر أندرييف أنه كتب قصصه الأولى متأثرًا بتشارلز ديكنز، وبفضل غوركي تمكّن من نشر أعماله الأدبية حيث دعاه للانضمام إلى دار نشر “زنانيه” التي كان ينشر بها غوركي أعماله. لم يشارك أندرييف في أي أنشطة سياسية، إلا أنه أخفى أعضاء من حزب العمال الاشتراكي في منزله، فاعتقل معهم ثم أطلق سراحه بعد أسبوعين، وكان معاديًا للثورة البلشفية عام 1917.

في كتابه هذا، اختار مترجم “اعتراف – أين الله؟” لغوركي، أربع قصص لأندرييف “الهوة”، “من قصة لن تنتهي أبدًا”، “زهرة تحت القدم”، “و”هِرْمَن ومارتا”.

تتناول “الهوة” قصة الشاب نيموفيتسكي الذي يسير في الحقول مع حبيبته زينتشكا. يحل الظلام تدريجيًا، ويتضح أن الشابين تائهان. يلتقيان بمتشردين قذرين عدة مرات على طول الطريق، ثم يجدان نفسيهما في الغابة، حيث يهاجمهما ثلاثة رجال سكارى. يحاول نيموفيتسكي الدفاع عن حبيبته، لكن المهاجمين يضربونه ويتركونه فاقدًا للوعي في الحفرة، ثم يلاحقون الفتاة. أمسكوا بها واغتصبوها. في تلك الليلة نفسها، استعاد البطل وعيه وبدأ يبحث عنها. سرعان ما وصل إلى المكان الذي يرقد فيه جسد حبيبته العاري. هي لا تزال على قيد الحياة، لكنها فاقدة للوعي. في حالة انهيار عصبي، بدأ يلمسها، ويقول لها كم يحبها، و”يطلق ألفاظًا لا رابط بينها، توسّل، هدّد، قال إنه سينتحر”، وصار يقبّلها ويبكي “وهو يشعر أن أمامه هوة مظلمة، رهيبة تجتذبه. لم يكن نيموفتسكي موجودًا، ظلّ نيموفتسكي متأخرًا في مكان ما…” ثم “ابتلعته هاوية سوداء”.

و”الهوة” ليست قصة حدث عابر بقدر ما تحمل أزمة ذلك العصر، فقدان المعنى، والعجز أمام الشر، وأمام الواقع القاسي. فالشابة هي رمز البراءة، لم يكن ذنبها سوى أنها ولدت في عالم قاس، والمتشردون والسكارى يمثّلون الفوضى، وتكرار وجودهم يشير إلى الشرّ الكامن في المجتمع، والاغتصاب تجسيد للانهيار الأخلاقي، والصدمة التي تعرّض لها الشاب تعكس أزمة هوية لدى الشباب والشعور باليأس، والهوة ليست مكانًا بقدر ما هي حالة وجودية تشير إلى انفصال الذات عن العالم.

نالت قصة “الهوة” ضجة أدبية واجتماعية حيث تم اعتبارها كفضيحة، وفيما أشاد مكسيم غوركي بالقصة، عبّر ليو تولستوي عن انزعاجه، وقد تأثر أندرييف بشدة بذلك. وتم تحويلها إلى أفلام قصيرة على أيدي عدد من المخرجين الروس.

“”الهوة” ليست قصة حدث عابر بقدر ما تحمل أزمة ذلك العصر، فقدان المعنى، والعجز أمام الشر، وأمام الواقع القاسي”

أما قصة “زهرة تحت القدم” التي عنون نيّوف الكتاب بها، فهي قصة تُروى من منظور طفل في السادسة من عمره، يبدو كل شيء هائلًا في عينيه، الأسوار، الكلاب، الأشجار، والناس، حتى كفّ أبيه “الكبيرة القوية الدافئة”، أما أمه فهي “كئيبة جدًا”، وفي يوم العيد وخلال الأجواء الاحتفالية، يكشف عن تعاسة والديه، فيما يخفيان ذلك عن الجميع، وعن علاقة حب بين أمه وصديق للعائلة، وإذ هو يراقبهما “مرّ وقت طويل طبقًا لحسابه، حينذاك، عشر سنوات، أما هو فتابع التخفي، واستمر يزداد ابتعادًا عن الناس. ابتعد حتى بدأ يحس بخوف شديد. فبينه وبين ذلك الماضي الذي كان يتنزه فيه الجميع انكشفت هوة سحيقة، ربما لم يكن بالإمكان تجاوزها، تمنى الآن أن يذهب نحو الضوء، إلا أن ذلك رهيب، مستحيل، لقد كان خسارة أبدية”.

و”الزهرة” هي الشعور الطفولي بالحياة، بالحب غير المشروط، والعالم الصافي الذي لم تلوثه التجربة القاسية بعد، يكتب نيّوف ديباجة قصيرة للكتاب يقول فيها إنه اختار “زهرة تحت القدم” عنوانًا للكتاب لظنّه “أن في كل من شخصياتها وربما في كل منا، أو في أكثرنا، زهرة تحت قدم ما”.

يغفيني زامياتن (1884-1937)

هو كاتب وناقد وسيناريست ومهندس سفن. انضم إلى جناح لينين البلشفي بين عامي 1905 و1910 فاعتقل ونُفي خارج البلاد. ثم لعب دورًا بارزًا بعد الثورة البلشفية، إلا أنه انتقد في مقالاته السياسية البلاشفة والرقابة والجيش الأحمر، فتم اعتقاله. وفي عام 1931 انتقل إلى فرنسا بعد أن انسحب من اتحاد الكتّاب السوفيات. من أبرز أعماله رواية “نحن” (1920) التي لم تسمح الرقابة الشيوعية بنشرها، واعتبرتها سخرية من النظام الشيوعي، وكان على الكاتب أن ينتظر أكثر من خمسين عامًا بعد وفاته حين سُمح بنشرها عام 1988. ورواية “نحن” هي واحدة من أوائل روايات الخيال العلمي الديستوبي في القرن العشرين، وتدور في المستقبل حيث يعيش البشر في دولة واحدة شمولية تُعرف باسم “الدولة الواحدة”، بعد كارثة قضت على معظم البشرية. يحكم هذه الدولة كيان يعرف بـ “المستفيد”، وقد جُرد الناس من الأسماء واستُبدلت بأرقام، في دلالة على محو الفردانية. يعيش المواطنون في مساكن زجاجية شفافة، تحت رقابة دائمة، ويُنظَّم كل شيء بحساب دقيق- حتى العلاقات الجنسية، التي تُدار عبر تصاريح رسمية!

في هذا الكتاب، اختار نوفل نيّوف من قصص زامياتن: “عينان”، “عشر دقائق دراما”، و”الساعة”.

في قصة “الساعة” يصوغ زامياتن مفارقة إنسانية ساخرة تعرّي هشاشة الذات حين تصطدم بعبث القدر بأسلوب شفاف، عبر موظف خجول يُدعى زايتسر يكنّ مشاعر لزميلته، ويحاول لفت نظرها لساعة ذهبية في جيب سترته. وفي طريق خروجهما من العمل يقترب منه رجل ليطلب سيجارة، يظن الموظف أن هذا الرجل يريد سرقة ساعته، ويهدّد الرجل مدّعيًا أن معه سلاحًا، ويأخذ منه الساعة. تنبهر زميلته بشجاعته، وفي الصباح يقرر زايتسر أن يعترف لها بحبّه، ولما يصل للمكتب يكتشف أن ساعته موجودة في المكتب وأنه بذلك يكون هو من سرق الرجل. تنهار زميلته في نوبة ضحك وكذلك زملاؤه في المكتب “أدار زايتسر وجهه على عجل وخرج إلى الأبد، من مؤسسته، ومن قلب فيرتشكا، ومن هذه القصة”.

وفي قصة رمزية مؤثرة بعنوان “عينان” يتحدث يغفيني زامياتن عن كلب قذر مربّى من قبل رجل قاسٍ، بوصفه “كلبًا” لا يملك إلا النباح والطاعة، لكنه يمتلك عيونًا استثنائية عميقة، حكيمة، كأنها تذكّر الراوي بأن فيه بقية إنسانية أو ذكريات عن إنسانية سابقة. الكلب قيّده صاحبه في خمّ قذر، وأجبره على تناول الفضلات، وكان ينهال عليه بكرباجه، لكنه ظل يخدمه ويحرس البيت، لأنه صاحبه، وينتظر عودته، ويذرف دموعه بهدوء. لا حبكة في هذه القصة، ليس غير الحديث مع الكلب، وعن عوائه حين يضربه صاحبه، وحين يجبره أن يعضّ أحدًا ما، يقول له أخيرًا “ولكن، لماذا لك هاتين العينين البديعتين؟ وفي عينيك، في قاعهما هذه الحكمة البشرية الحزينة؟”. هي قصة تطرح سؤالًا جوهريًا، إذا كانت القسوة تستطيع سلب الإنسان جوهره. وما يظهر هو أن هذا السحق للكرامة الإنسانية يحوّلنا إلى كائنات مطيعة قادرة أكثر على العطاء.

 

يكتب نيّوف ديباجة قصيرة للكتاب يقول فيها إنه اختار “زهرة تحت القدم” عنوانًا للكتاب لظنّه “أن في كل من شخصياتها وربما في كل منا، أو في أكثرنا، زهرة تحت قدم ما”

نيكولاي غوميليوف (1886-1921)

هو شاعر كاتب مسرحي ومترجم وناقد، صدرت له 9 مجموعات شعرية. أسّس عام 1906 في باريس مجلة “سيربوس” الأدبية، كما شكّل مع الشاعر فيتشسلاف إيفانوف “أكاديمية البيت الشعري”. كان فاليري بريوسوف أول من أخذ بيده وشجعه على متابعة الكتابة. تزوج من آنا أخماتوفا وأسّسا مع آخرين “ورشة الشعراء” ثم تطلقا في عام 1918. سافر إلى مصر مرتين، وكان يحلم يالسفر إليها منذ شبابه. لم يخف تأييده للنظام القيصري وعداءه للثورة، وفي عام 1921 أُعدم رميًا بالرصاص بتهمة التآمر على السلطة السوفياتية. وقد بُرّئ وأعيد له الاعتبار عام 1992، ولا يزال مكان دفنه مجهولًا.

في هذا الكتاب ترجم نوفل نيّوف من قصصه “صعودًا عبر النيل”، “الأميرة زارا”، “الفارس الذهبي”، “الجنرال الأسود”.

كتب غوميليوف “صعودًا عبر النيل” على شكل مقتطفات من يوميات الكاتب، حيث يصف رحلته في مصر، وعلى وجه الخصوص رحلته نحو منابع نهر النيل. يبدأ الكاتب بالتعب من القاهرة وضوضائها، ويتوق إلى مغامرة جديدة. يلتقي هناك بفنان إنكليزي غامض يُدعى السيد تييري، الذي يخطط لاستكشاف منابع النيل بحثًا عن أسرار قديمة لا يعرفها الكثيرون، والهدف يقول تييري عن سبب ذلك “المعرفة الجديدة التي تدلّ على الوجه الآخر للأشياء جميعًا…”. ينطلق الاثنان في رحلة عبر الأدغال والصحاري، ويكتشفان هرمًا صغيرًا بعيدًا عن أعين السياح، وينزل الكاتب إلى كهف مظلم بداخله نقوش هيروغليفية قديمة “أقدم بكثير من النقوش الموجودة في متحف اللوفر” تحمل حكمة وروحًا عميقة تفوق مجرد وصف تاريخي أو أساطير معروفة. يتأثر الكاتب ويشعر بتغير داخلي عميق بسبب هذه الكلمات “شعرت بأن العالم قد تغيّر الآن، تكفي كلمة واحدة… فتنقلب الأخطاء كلها أزهارًا”. لكن تييري يقول له “لم تكمل القراءة أيها البائس، وما قرأته سمّ”، وهو ما يشير إلى “السم” الكامن في الفهم الناقص.

بعدها يمر الكاتب بحالة مرضية شديدة بسبب حمى النيل، يعالجه فيها السيد تييري، لكنه يبدأ في الشك بأن هناك أسرارًا وخفايا أكبر مما يتصور وخصوصًا حين يقول له في خاتمة القصة “اخش الضفادع الساهمة”.

القصة تعكس رحلة البحث عن المعرفة الحقيقية التي تتجاوز الظواهر الخارجية والقطع التاريخية الذهبية. وتتناول غموض التاريخ، وقوة الأسرار القديمة، وصراع الإنسان مع المجهول. ويعمل الكاتب على استخدام الضفادع المتأملة والسم كرموز لخطر فهم الأمور بشكل سطحي، وحاجة الإنسان للتفكير العميق.

فلاديمير نابوكوف (1899- 1977)

فلاديمير نابوكوف من عائلة عريقة من بطرسبرغ، جاءت الثورة وقوّضت حياة الأسرة وطموحاتها، فهاجروا إلى برلين، هناك قُتل والده فاضطر إلى تدريس الإنكليزية لتغطية نفقات الحياة، وأجبره والد خطيبته على الانفصال عنها عام 1923 لأن ليس لديه عمل ثابت. أنجز روايته الأولى “ماشنكا” عام 1926، لكنه لم يعرف الشهرة إلا مع روايته “لوليتا” التي حوّلت إلى أفلام سينمائية، واعتُبرت رواية إباحية في ذلك الوقت ومُنعت من فرنسا وبريطانيا ولن تُنشر في روسيا إلا في عام 1989. ورغم تدريسه الأدب الروسي والعالمي في جامعات أميركا لمدة 18 عامًا إلا أن هذه الرواية بالتحديد مكّنته من العودة لأوروبا والاستقرار بسويسرا والتفرّغ للكتابة.

يقول نيّوف إنه اختار القصص الخمس لنابوكوف لـ”تعويله الفائق على التفاصيل المركّزة، وكثافة اللغة وشفافيّتها البعيدة عمّا يمكن وصفه بالإنشاء الصاخب المتباهي بعلوّ النبرة، وخلق نسيج سردي، نابض، كاوٍ، مشوّق، ومفاجئ في تقلّباته وطرق سحره…”. والقصص هي “عودة تشورب”، “حكاية”، “الجرس”، “بيلغرام”، و”الأرض المجهولة”.

“الأدغال، المستنقعات، الهضاب التي أصبحت سرابًا، وحتى الحوارات في “الأرض المجهولة” تشي بأنها تمثيلات لدوامات داخلية في النفس، حيث تفقد الأشياء ملامحها ومعانيها، وتتجلى صعوبة الوصول إلى ما يسعى إليه المرء، حيث يتضح أن كل ما نسعى إليه ليس إلا سرابًا في النهاية”

تتناول قصة “الأرض المجهولة” رحلة استوائية في بلد خيالي، زونراكي، يهرب الراوي فاليير وصديقه غريغسن منها ويتبعهما كوك عابرين أدغالًا ومناطق برية حرجية، باتجاه هضاب غورانو. يُصاب الراوي بالحمى ويبدأ بالهذيان، ويشعر أن رفيقيه باتا شفافين، ثم يشعر أن كوك أصبح أكبر وانتفخ وظهر فيه شيء تهكمي خطير. رحلتهما تبوء بالفشل إذ يكتشفان أنهما كانا يسيران خلف سراب “يا للغرابة، أحقًا كانت الهضاب سرابًا، انظر، فهي الآن لن تعد ظاهرة”. يبدأ غريغسون وكوك بالتشاجر، وينتهي الأمر بهما بقتل بعضهما البعض. الراوي وحيد، وواقعه هو العالم الاستوائي مع الجثتين؛ يضعف ويتلاشى، يتذكر في هذيانه حياته في عاصمة أوروبية “لقد أدركت زيف غرفتي المملة، لأن كل شيء بعد الموت ليس سوى زيف، تقليد للحياة مصنوع بعجالة، إنه غرف العدم المؤثثة، أدركت أن الحقيقي هو هذه السماء الاستوائية البديعة والرهيبة”، وفيما هو يفتح مفكرته لكتابة أشياء يجب تدوينها تنزلق المفكرة من يده على اللحاف “لكنها لم تعد موجودة”.

“الأرض المجهولة” ليست مكانًا على الخريطة، بل تجسيد للعالم الداخلي المضطرب الذي يعيشه الكاتب. الأدغال، المستنقعات، الهضاب التي أصبحت سرابًا، وحتى الحوارات بين الشخصيات، تشي بأنها تمثيلات لدوامات داخلية في النفس، حيث تفقد الأشياء ملامحها ومعانيها، وتتجلى صعوبة الوصول إلى ما يسعى إليه المرء، حيث يتضح أن كل ما نسعى إليه ليس إلا سرابًا في النهاية، وربما يجب انتظار الموت لإدراك ذلك.

أندريه بلاطونوف (1899-1951)

في المجموعة القصصية أيضًا قصتان لـ أندريه بلاطونوف “معلمة الرمال” و”العودة”، وهو الذي عانى كثيرًا من النظام الشيوعي. وبلاطونوف كاتب مسرحيات وسيناريست ومراسل حربي ومهندس مخترع. عام 1931 نشر قصته “قد ينفع” فاعتبره ستالين “العميل لأعداء الاشتراكية” فقرّر التوقف عن الكتابة. وفي عام 1938 اعتُقل ابنه وهو تلميذ في المدرسة وعمره 15 عامًا بعد تلفيق تهمة له بالانتساب لمنظمة شبابية “إرهابية معادية للسلطة السوفياتية”، أُخرج الابن من السجن وهو في العشرين من عمره مصابًا بداء السل ومات. ورغم مشاركة بلاطونوف في الحرب العالمية الثانية، إلا أنه بعد أن كتب قصته “العودة” عام 1946 مُنع من الكتابة بتهمة الإساءة للنظام الاشتراكي وأخلاق الأسرة في المجتمع السوفياتي، فكتب “لقد حرمتني السلطة السوفياتية من ابني، وسعت لسنوات أن تجرّدني من صفة الكاتب، ولكن لن يستطيع أحد أبدًا أن ينترع مني إبداعي… الجميع يظنون أني ضد الشيوعية، كلا، إنني ضد من يدمّر بلادنا، أن يدوس بقدميه ما هو روسي غالٍ على قلوبنا. إن قلبي يؤلمني، آه كم يؤلمني”.

ويتجلى في قصص بلاطونوف نقد مبطّن للنظام الاشتراكي، إذ نقرأ في مطلع قصة “معلمة الرمال” عن أن المعلمة كانت في منأى عن الحرب والثورة، وكان موطنها بعيدًا عن الطرق التي مرّت بها الجيوش الحمراء والبيضاء، وتفتّح وعيها أيام كانت الاشتراكية قد اشتدّ عودها، يضيف الراوي “لم يكن والدها المعلم يشرح لابنته الصغيرة ما يجري، وذلك إشفاقًا منه على طفولتها، خشية أن يتسبّب لقلبها الرقيق بجروح لا تندمل”.

فارلام شالاموف (1907-1982)

يتضمن الكتاب أيضًا أربع قصص لـ فارلام شالاموف وهي “بالدّين”، “شيري براندي”، “ثمار برية”، و”ربطة عنق”، وشالاموف دخل السجن في روسيا مرتين، ثلاث سنوات عام 1929 بتهمة انتمائه للمعارضة اليسارية، وبعد خروجه، عاش في موسكو وكتب قصصًا وأشعارًا، إلا أنه حُكم عليه عام 1937 لمدة خمس سنوات في معسكرات “كوليما”، امتدت لتبلغ 16 سنة، فلم يخرج من كوليما إلا عام 1954. واشتهر بسلسلة “قصص كوليما” عن حياة المعتقلين في معسكرات العمل التأديبية السوفياتية بين عامي 1930 و1950. نشر هذه القصص في الغرب باسم مستعار عام 1966، وبعد وفاته أواخر الثمانينيات بدأ صدور قصص كوليما في روسيا.

يقول شالاموف عن قصة “شيري براندي” إن عنوان القصة كان “موت شاعر”، ويذكر نيّوف أنها تصوّر الساعات الأخيرة من حياة الشاعر أوسيب ماندلشتام (1891-1938). وهي قصة قاتلة من المجموعة الأولى من “حكايات كوليما”، ندخل فيها فنخرج حزانى جدًا، تدور حول شاعر على أعتاب الموت في سجن مؤقت، إنها حول الحالة الفاصلة بين الحياة والموت، التي كان شالاموف نفسه يعرفها جيدًا في كوليما. المؤلف يحكي عن مندلشتام لكنه يتخيل نفسه “تأتي الحياة إليه وتمضي، فقد كان يموت، غير أن الحياة تعود إليه من جديد… وحدها الرغبات لا تأتي”.

نتابع أفكار الشاعر المتقطعة في حالة من الهذيان والجوع والضعف “الشيخوخة عتبة الرعب، وليست الرعب نفسه”. يدور معظم السرد داخل وعيه، حيث تختلط الذكريات، والهواجس، والتأملات الفلسفية حول الحياة والموت والشعر والخلود. كان الشاعر يؤمن بإمكانية الخلود، جسديًا أو إبداعيًا، ويعتبر الشعر نفسه تجلّيًا للحياة، ويكتب “إن الأفضل هو ما لم يُكتب، ما أُلّف واختفى…”.

وفي هذياناته نقرأ “ماذا يعني القول: مات كشاعر؟… مات كممثل، هذا شيء مفهوم، أما مات كشاعر؟ لقد خمّن شيئًا مما كان ينتظره في المستقبل، فقد قيّض له في أثناء نقله من سجن إلى آخر أن يفهم ويتبيّن سرّ كثير من الأشياء. وقد فرح، وكان فرحه هادئًا جراء عجزه. وراوده الأمل أنه سيموت. كما تذكّر جدالًا قديمًا دار في السجن حول ما الأسوأ وما الأشد رعبًا، أهو معسكر الأعمال الشاقة، أم السجن؟…”.

في لحظاته الأخيرة، لا تعود لديه رغبة في أي شيء سوى الخبز، وفي مشهد مؤثر يمسك بحصته من الخبز ويبدأ بالتهامها بنهم، غير قادر على التوقف، رغم تحذيرات الآخرين الذين قالوا لها ألا يأكلها دفعة واحدة، ويأكلها فيما بعد، فينطق جملته الأخيرة: “متى فيما بعد؟”، ثم يغلق عينيه ويموت. لكن جثته تُستخدم ليومين لاحقًا كي يتسلم رفاقه حصته من الخبز.

القصة تجسيد حيّ لفكرة التلاشي البطيء للإنسان داخل نظام قمعي. فالموت تحت هذا النظام لا يحدث دفعة واحدة، بل على مراحل، حيث يفقد الإنسان جسده، رغباته، ثم ذاته. ومع ذلك، الشاعر لا يفقد وعيه بذاته الإبداعية، بل يرى في لحظاته الأخيرة أن الشعر هو الحياة، وأن الإلهام هو القوة الوحيدة التي تمنحه معنى ووجودًا. “شيري براندي” أو “موت شاعر” ليست فقط شهادة عن معاناة فرد في معسكر اعتقال، بل هي تأمل عميق في معنى الوجود الإنساني حين يُجرّد من كل شيء، ويُترك في مواجهة الجوع والموت والذاكرة. وهي أيضًا دفاع عن الشعر باعتباره تجسيدًا لمعنى الحياة والإنسان.

***

“زهرة تحت القدم” مجموعة قصصية غنية بعوالمها الدفينة، تتقاطع فيها الهواجس الوجودية مع قسوة الواقع السوفياتي، تتوغل في دواخل النفس الإنسانية، وتكشف عن هشاشتها وتناقضاتها؛ ألم يذكر فرويد أن “أدب دوستويفسكي يكشف عن فهم عميق للنفس البشرية، لا يقل عن فهم علم النفس للنفس؟”، كما قال الروائي فالنتين راسبوتين إنه “بفضل دوستويفسكي، عرف الإنسان في هذا العالم الكثير عن نفسه، مما لم يكن مستعدًا له بعد لإدراكه”، وهو ما ينطبق على هؤلاء الأدباء الروس في هذه المجموعة، كما ينطبق على معظم الأدب الروسي، سواء ما تُرجم منه، أو ما لم يُترجم بعد، مما يستحق النبش فيه والعودة إليه لنقله إلى العربية.

شارك هذا المقال

Continue Reading

Previous: الرمال المتحرّكة في الشرق الأوسط… ما بعد تفكيك “الممانعة” محمد أبو رمان….المصدر:العربي الجديد
Next: في المصير المأساوي للثورات وعواقبها الوخيمة عمر كوش……المصدر:ضفة. ثالثة

قصص ذات الصلة

  • أدب وفن

النقد المفتوح جودت فخر الدين………المصدر:… المجلة

khalil المحرر يونيو 17, 2025
  • أدب وفن

والاس ستيفنز: الخيال الشعري يحرر العالم……شريف الشافعي……….المصدر: اندبندنت عربية

khalil المحرر يونيو 16, 2025
  • أدب وفن

“اكتئاب باريس” لبودلير… عزاء للبائسين….إبراهيم العريس……..….المصدر: اندبندنت عربية

khalil المحرر يونيو 16, 2025

Recent Posts

  • ترمب يرفض تقييم استخباراته ويرى إيران «قريبة للغاية» من القنبلة لا يزال يأمل في تسوية دبلوماسية ويحضّر الرأي العام للتدخل….واشنطنالمصدر: الشرق الاوسط… علي بردى
  • الكونغرس في تقارب حزبي نادر أمام استحقاق الحرب….واشنطن المصدر : الشرق الاوسط… رنا أبتر
  • نتنياهو يؤيدها… “أكسيوس”: ترامب غير مقتنع بفكرة تغيير النظام في إيران….المصدر: النهار
  • كاتس يُحذّر خامنئي: تذكّر مصير الديكتاتور صدام حسين……المصدر: “النهار”
  • حملة أمنية سورية في مناطق الحدود مع العراق خشية تحرك إيراني تستهدف «فلول النظام البائد» و«الحرس الثوري» في خطوة وقائية دمشق المصدر : سعاد جرَوس الشرق الأوسط

Recent Comments

لا توجد تعليقات للعرض.

Archives

  • يونيو 2025
  • مايو 2025
  • أبريل 2025
  • مارس 2025
  • فبراير 2025
  • يناير 2025
  • ديسمبر 2024
  • نوفمبر 2024
  • أكتوبر 2024
  • سبتمبر 2024
  • أغسطس 2024
  • يوليو 2024
  • يونيو 2024
  • مايو 2024
  • أبريل 2024
  • مارس 2024
  • فبراير 2024
  • يناير 2024
  • ديسمبر 2023
  • نوفمبر 2023
  • أكتوبر 2023

Categories

  • أدب وفن
  • افتتاحية
  • الأخبار
  • المجتمع المدني
  • الملف الكوردي
  • حوارات
  • دراسات وبحوث
  • مقالات رأي
  • منوعات

أحدث المقالات

  • ترمب يرفض تقييم استخباراته ويرى إيران «قريبة للغاية» من القنبلة لا يزال يأمل في تسوية دبلوماسية ويحضّر الرأي العام للتدخل….واشنطنالمصدر: الشرق الاوسط… علي بردى
  • الكونغرس في تقارب حزبي نادر أمام استحقاق الحرب….واشنطن المصدر : الشرق الاوسط… رنا أبتر
  • نتنياهو يؤيدها… “أكسيوس”: ترامب غير مقتنع بفكرة تغيير النظام في إيران….المصدر: النهار
  • كاتس يُحذّر خامنئي: تذكّر مصير الديكتاتور صدام حسين……المصدر: “النهار”
  • حملة أمنية سورية في مناطق الحدود مع العراق خشية تحرك إيراني تستهدف «فلول النظام البائد» و«الحرس الثوري» في خطوة وقائية دمشق المصدر : سعاد جرَوس الشرق الأوسط

تصنيفات

أدب وفن افتتاحية الأخبار المجتمع المدني الملف الكوردي حوارات دراسات وبحوث مقالات رأي منوعات

منشورات سابقة

  • الأخبار

ترمب يرفض تقييم استخباراته ويرى إيران «قريبة للغاية» من القنبلة لا يزال يأمل في تسوية دبلوماسية ويحضّر الرأي العام للتدخل….واشنطنالمصدر: الشرق الاوسط… علي بردى

khalil المحرر يونيو 17, 2025
  • الأخبار

الكونغرس في تقارب حزبي نادر أمام استحقاق الحرب….واشنطن المصدر : الشرق الاوسط… رنا أبتر

khalil المحرر يونيو 17, 2025
  • الأخبار

نتنياهو يؤيدها… “أكسيوس”: ترامب غير مقتنع بفكرة تغيير النظام في إيران….المصدر: النهار

khalil المحرر يونيو 17, 2025
  • الأخبار

كاتس يُحذّر خامنئي: تذكّر مصير الديكتاتور صدام حسين……المصدر: “النهار”

khalil المحرر يونيو 17, 2025

اتصل بنا

  • Facebook
  • Instagram
  • Twitter
  • Youtube
  • Pinterest
  • Linkedin
  • الأرشيف
Copyright © All rights reserved. | MoreNews by AF themes.