ملخص
يقول تاريخ بودلير إنه بدأ كتابة تلك القصائد التي كان أسلوبها جديداً على الحياة الفرنسية الأدبية في ذلك الحين، بعدما وقع بين يديه كتاب الوزيس برتران المعنون “غاسبار الليل”. وهو كتاب يعد عادة أول محاولة في كتابة الشعر المنثور في اللغة الفرنسية، يتحدث عن ليالي المدن واكتئابها في العصور الوسطى منطلقاً، كما يبدو، من بعض لوحات رمبراندت الليلية، التي كان برتران يرى أنها تصور كآبة الروح أفضل تصوير.
ترى هل يمكننا أن نأخذ على محمل الجدية ما قالته ناقدة أميركية كانت حينها تعيش في باريس ومقربة من إرنست همنغواي، من أن تأليف هذا الأخير لأنشودة السعادة والحيوية التي كرسها لمدينة النور هذه بعنوان “باريس عيد متنقل” لم تكن في حقيقتها سوى نوع من الرد المبطن على كتاب للشاعر الفرنسي بودلير كان قد صدر قبل ذلك بعقود طويلة عنوانه “اكتئاب باريس”؟ ليس في وسع أحد أن يؤكد هذه الفرضية أو ينفيها. ومع ذلك فلا شك في أن محبي باريس ومنهم إرنست همنغواي الذي عاش ردحاً من حياته فيها، ما كان من شأنهم أبداً أن يرضوا بتلك “المعاملة الجاحدة” التي عامل بها بودلير مدينتهم الحبيبة، لا سيما إن كانوا من طينة همنغواي الذي كان يرى أن باريس عاصمة الثقافة والحبور في عالم يتسم كله بالكآبة.
في غمرة الأدب التحديثي
وما يهمنا هنا من هذا الموضوع هو على أية حال، كتاب بودلير الذي سيفوقه نص همنغواي شهرة. فلسبب ما، كان شارل بودلير يريد لمجموعته “الشعرية” التي عنونها “اكتئاب باريس” أو “قصائد نثرية صغيرة” أن تصدر خلال حياته، لكن هذا لم يتحقق له، إذ إن المجموعة لم تنشر إلا بعد عامين من وفاته، وبجهد خاص من شقيقته التي حرصت على أن يكون نشر المجموعة مرتبطاً بحركة الأدب التحديثي التي كانت تهتم بها وترى أنه يمكن لشعر أخيها أن يكون رائداً فيها. أما بودلير نفسه فإنه كثيراً ما تحدث عن تلك المجموعة خلال الأعوام الأخيرة من حياته واصفاً إياها بأنها، بصورة أو بأخرى، استعادة لما كان حاول أن يقوله في “أزهار الشر”، ومن هنا “فإننا هنا أمام أزهار الشر من جديد، ولكن مع أشعار وأفكار أكثر حرية، وبتفصيل أكثر وسخرية أعمق”. ولعل هذه الحماسة لما صاغه بودلير في هذه القصائد القصيرة الحديثة، هي التي جعلته يبذل تلك الجهود، لينشرها مجموعة بعدما كان نشرها متفرقة طوال سنين عدة، لا سيما في صحيفتي “لا برس” و”الفيغارو”، علماً أن هذه الأخيرة بعدما أعلنت عن نشر “القصائد البودليرية الجديدة”، وشرعت فعلاً في ذلك، أوقفت النشر من دون أي توضيح أو اعتذار. والحقيقة أن أحداً في ذلك الحين لم يهتم بمعرفة السبب وإن كان مرجحاً أن ما يقف وراءه، موقف عام ليس من الشعر النثري الحر، وإنما من مواقف بودلير ككل، تلك المواقف التي جعلته خصماً للمحافظين وللكنيسة في وقت واحد. المهم في الأمر، أن بودلير سرعان ما رحل بعد ذلك حزيناً وآسفاً لعدم تمتعه بمشاهدة تلك القصائد (51 قصيدة) منشورة في كتاب واحد.
بدايات شعر النثر
ويقول تاريخ بودلير، إنه بدأ كتابة تلك القصائد التي كان أسلوبها جديداً على الحياة الفرنسية الأدبية في ذلك الحين، بعدما وقع بين يديه كتاب الوزيس برتران المعنون “غاسبار الليل”. وهو كتاب يعد عادة أول محاولة في كتابة الشعر المنثور في اللغة الفرنسية، يتحدث عن ليالي المدن واكتئابها في العصور الوسطى منطلقاً، كما يبدو، من بعض لوحات رمبراندت الليلية، التي كان برتران يرى أنها تصور كآبة الروح أفضل تصوير. أما بودلير فسيقول لاحقاً إنه قبل أن يبدأ بخط أول سطر في قصائد المجموعة، قرأ برتران أكثر من 20 مرة، محتفلاً به راغباً في أن يكتب على غراره. غير أن ما كان وصفاً لمدن العصور الوسطى لدى صاحب “غاسبار الليل”، صار وصفاً لباريس المعاصرة لدى بودلير. أراد بودلير هنا، إذاً، أن يستخدم اللغة الشعرية النثرية الحرة لتصوير باريس المعاصرة، وحياتها اليومية. لكن هذا، لم يكن كل شيء… إذ إن قراءتنا لـ”اكتئاب باريس” ستقول لنا إن العاصمة الفرنسية التي أراد بودلير تصوير اكتئابها، كانت تلك التي باتت تلوح أمام عينيه بعد 20 عاماً من “ثورة 1848” التي، بعدما كانت أملاً كبيراً لكل المثقفين والمتنورين، صارت مجرد حرب بين الإخوة وانطفاء لآمال التقدم، وتراجعاً للتنوير الذي سبق الثورة الفرنسية وزينها ببعد فكري انتزعه الثوار منها لاحقاً. وفي هذا المعنى يمكن القول إن هزيمة ثورة 1848، بعدما كان ما كان من الثورة الفرنسية وما آلت إليه من مذابح وتراجعات وخيبات، جعلت بودلير وأمثاله من الكتاب والمفكرين ييأسون تماماً من أي إمكانية لأي ثورة مقبلة. وكان من الطبيعي لنفس ذات حماسة مرهفة مثل نفس بودلير، أن تعد أن المطلوب الآن لم يعد تغيير العالم الذي لن يحصل أبداً، بل التعبير عن الحزن لذلك، وتحديداً من خلال استخدام لغة حرة، تقول الكآبة والقنوط. وفي هذا الإطار لن يكون مخطئاً جان بول سارتر إذ كتب بعد ذلك بنحو قرن يقول إنه إذا كان “بودلير قد جعل المسألة الأساس في ‘اكتئاب باريس’ التقاط جمال الحياة في المدينة المعاصرة، فإن هذا كله لم يكن سوى التعبير عن نظرة الشاعر الوجودية إلى كل ما يحيط به”.
معركة بودلير للدفاع عن مواطنه الرسام ديلاكروا ورومانطيقيته
بودلير رمز الحداثة كان من منتقدي الثورة الفرنسية إلى حد رفضها بالمطلق
بودلير بلغ ذروة الشعر الموزون وافتتح حداثة قصيدة النثر عالمياً
وجودية واقعية
ويقيناً أن سارتر، كان يعني بـ”النظرة الوجودية”، النظرة الواقعية التي تصف ما هو قائم من دون أدنى محاولة لافتراض خروج الوصف بنتيجة أو بموعظة. فأي موعظة يمكن للشاعر أن يصل إليها، وهو يتأمل المدينة، لا سيما في الليل، إذ تظهر كآبتها الإنسانية وسط جمال هندستها، في الوقت نفسه الذي تظهر فيه “الأهوال التي تصاحب عملية تحديث المدينة”، بحسب تعبير بودلير وسارتر من بعده؟ صحيح أن بودلير لا يريد لنفسه هنا أن يكون عالم اجتماع، لكن بعض قصائده ومنها على سبيل المثال قصيدة “عيون البائس” التي كتبها، كما يخبرنا، بعدما رصد عائلة من الفقراء تنظر نظرات ضائعة في مقهى جديد، ما يشي بذلك التجاور الذي لم يرض بودلير عنه، بين الواقع الاجتماعي للعائلة التي ترمز إلى الشعب الذي يبتئس أكثر وأكثر، والواقع العمراني لمدينة يزداد تحديثها وحشية وقوة: “لم أشعر فقط بمنظر هذه العائلة وعيون أفرادها يهزني، بل شعرت كذلك، وخصوصاً بالخجل أمام زجاج الأبنية، الذي يفوقنا فساحة”. هذا القول يأتي هنا، على لسان بودلير، ليكشف معرفته بالمدينة وحياتها الليلية وبؤس سكانها، وكذلك ليكشف عن مشاعر اليأس والقنوط التي لا تنفصل عن هذه المعرفة.
spleen_.jpg
من رسوم مجموعة “اكتئاب باريس” (أمازون)
تضافر الشكل والمضمون
ولعل ما يلفت النظر أيضاً هنا هو ذلك التضافر في هذا العمل المجزأ، بين الشكل والمضمون، حيث من الواضح أن بودلير يستخدم أسلوباً شعرياً شديد الحداثة هو المعادل المنطقي للهندسة التجديدية العمرانية شديدة الحداثة في باريس، لوصف مشاهد ومشاعر، باتت الآن راسخة، ما كان عليه في رأيه أن يخلق تلك الصدمة بين الجديد والقديم، بين المفبرك والواقع. وإذا كانت هذه النتيجة التي تطلع بودلير إلى الحصول عليها، قد عجزت عن التجسد كرؤية اجتماعية حقيقية، فإن ما تجسد هنا، في الأقل، كان هذه اللغة والشكل الشعريان الجديدان، اللذان كرسا بودلير منذ ذلك الحين، بصفته المؤسس والرائد الحقيقي للشعر الحر في اللغة الفرنسية. أما البعد الاجتماعي في “اكتئاب باريس”، فكان عليه أن ينتظر، من ناحية، أدب إميل زولا الطبيعي، لا سيما “في أحشاء باريس” حتى يتجلى كما يجدر به أن يتجلى، ومن ناحية أخرى رواية لوي فردينان سيلين “سفر إلى آخر الليل”، حيث وبأسلوب أدبي يتأرجح بين الكلاسيكية والحداثة، يصف لنا الكاتب عالم الليل والمدينة والبؤس، في بوتقة واحدة.
Charles_Baudelaire2.jpg
شارل بودلير (1821 – 1867) (غيتي)
مترجم آلان بو
بقي أن نذكر أن بودلير (1821 – 1867) كتب أول قطع المجموعة في منتصف أعوام الـ50 من القرن الذي عاش فيه، ثم صاغ في عام 1862، 40 قطعة جديدة، كانت تلك التي نشرها في الصحف. أما القصائد الـ51 التي شكلت المجموعة في صياغتها الأخيرة فقد نشرت سنة 1869 لتشغل منذ ذلك الحين جزءاً من المجلد الرابع في أعمال بودلير الكاملة. وبودلير كما نعرف، كان واحداً من كبار الشعراء والنقاد في القرن الـ19 الفرنسي، إضافة إلى أنه اشتغل في الترجمة ونقل إلى الفرنسية خصوصاً قصصاً وأشعاراً لإدغار آلن بو، الذي كان يعده معلمه الأكبر. ولقد عاش بودلير في باريس، حيث ولد وسيموت. وكانت حياته غريبة يغلب عليها الطابع البوهيمي والمرض… مما يفسر قصرها (46 سنة). أما أشهر أعماله الشعرية وغير الشعرية، إلى جانب “اكتئاب باريس” فمنها “أزهار الشر” و”الفراديس الاصطناعية” و”الفن الرومانطيقي” و”قلبي عارياً” و”تأملات حول بعض معاصري”.