في عالمٍ يسوده، في الأعم الأغلب، انعدام الأمان والاضطراب، تغدو الأسوار والجدران والحوائط نُظمًا يُعتمد عليها، هنا أو هناك، فهي ضخمة وصلبة، تنتصب أمامنا مباشرةً أو خلفنا، حاضنة لنا أو طاردة. تؤمّن الحوائط الراحة النفسية والسكينة، ووعد غامض بالسعادة لمن تحوطه، أو الرفض والصدّ ومشاعر اليأس وانحسار الأمل لمن تنبذه، فوجودها يشي دومًا بالتناقض، وكثيرًا ما تعتري الإنسان نوايا متناقضة نحوها، تارة رغبة بالبناء أكثر وأكثر، وتارة أخرى رغبة بالهدم حتى القاع الصفصف. قد يكون السور خطًّا مستقيمًا أو ملتويًا يقطع الصحاري والغابات والأنهار والمدن الكبيرة والوديان والجبال. إنّ الخطّ المستقيم ليس فقط أقصر مسافة بين نقطتين، بل هو أيضًا أرخص طريقة لبناء جدار، أمّا الجدار الملتوي كأفعى، فهو أفضل طريقة للتحايل على تداخل الحدود.
الأسوار أو الجدران أو الحوائط مهما كانت التسمية، هي من أقدم الأفكار الهندسية التي سخّرت لحماية الإنسان أو أذيته، فهي على الرغم من ماديتها تنشئ تحالفات وتآلفات وانقسامات وتضادات، كما يفعل العقل والقلب. يقول الألمان الذين قسمهم جدار برلين بين شرق وغرب، والذي هو الابن الشرعي للستار الحديدي الذي بنته الشيوعية في مواجهة الرأسمالية، عبارة: “جدار في الرأس”؛ وما يقصدونه من وراء ذلك، ليس إلّا تأكيدًا على سقوط الجدار، لكنّه ما زال في اللاشعور، فكما انتقل الجدار من الأيديولوجيات الفكرية والسياسية والدينية والاجتماعية إلى الواقع، كذلك يعاود الانتقال بعد هدمه من الواقع إلى الرأس. إنّ الجدران تجعل الحدود بين الأنا والآخر واضحةً ومتمايزة ويقينية؛ إنّها دائمًا ديكارتية، إيجابًا أو سلبًا، وعند النظر إلى الأرض من الفضاء، يعدّ سور الصين العظيم أحد الدلائل القليلة على أنّ الأرض مأهولة بكائنات عاقلة، يا للمفارقة!
عندما سقط جدار برلين عام 1990 الذي بُدء بإنشائه عام 1961 من قبل ألمانيا الشرقية في مواجهة هجرة العمالة منها إلى ألمانيا الغربية، إلى جانب الموقف السياسي العالمي الذي قسم ألمانيا إلى شرق وغرب، وبالمثل العالم إلى شرق وغرب؛ شرق يرتدي الشيوعية كأيديولوجيا يرأسه الاتحاد السوفياتي سابقًا، وغرب يعتمر قبعة الرأسمالية وتتسنّمه الولايات المتحدة الأميركية؛ كانت فكرة العولمة قد نضجت وعبّر عنها بمصطلح (القرية العالمية) التي لا حواجز ولا أسوار بين أحيائها وسكّانها. لكن بقدر ما اكتسحت فكرة العولمة الفكر الإنساني داعية إلى هدم الأسوار المادية المجازية بين الدول والشعوب، في الوقت نفسه تضاعفت أهمية الأسوار، فمنذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، انتشرت الجدران والأسوار الحدودية وأصبحت ظاهرة عالمية، حيث يمتلك حوالي ثلث الدول جدارًا أو سياجًا واحدًا على الأقل على طول حدودها. خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وجعلت من بحر المانش حائطًا بينها وبين القارة العجوز، أمّا أميركا صاحبة فكرة العولمة، فشرعت ببناء السور الذي سيفصلها عن المكسيك. وإذا نظرنا إلى الحدود والعلاقات بين الدول على خارطة الكرة الأرضية سنجد أن الأسوار والحيطان والجدران تزدهر في كل مكان، لمنع الهجرة غير الشرعية، والمخدرات، والسلاح، وكإبرة تخدير بين الأخوة المتحاربين كالكوريتين، أو للتأكيد على الاحتلال كما تفعل إسرائيل بفلسطين. لا ريب في أنّ مقولة “الجدار في الرأس” موجودة في رؤوس كل البشر ليس الألمان فقط، فعلى ما يبدو أنّ الأسوار تشبه غرائز الإنسان الأساسية، مهما جهد في ترويضها ودفعها عميقًا تحت جناح إرادته وعقله، تعود وتظهر كزلّات اللسان من خلال كلامه وفعله.
خرج الإنسان من رحم جدران الكهف، وأول ما فعله هو استنساخ جدران الكهف الذي كان يؤمّن له الحماية والدفء وشبهة هوية ذاتية/ جماعية بدأت بالتشكل رويدًا رويدًا، وبقدر ما تتأكّد تلك الهوية يولد الآخر المجانس أو المختلف. سكن آدم وزوجته الجنّة، وأصبحا من الملأ الأعلى، لكنّهما ارتكبا الخطيئة، فطردا منها: “فَطَرَدَ الإِنْسَانَ، وَأَقَامَ شَرْقِيَّ جَنَّةِ عَدْنٍ الْكَرُوبِيمَ، وَلَهِيبَ سَيْفٍ مُتَقَلِّبٍ لِحِرَاسَةِ طَرِيقِ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ”. هذا السيف هو سور يمنع آدم من العودة إلى جنّته الأبدية، بعدما أكل من شجرة المعرفة، ولكي لا تمتد يده إلى شجرة الحياة/ الخلود، كان السيف/ السور. لقد حدّد هذا السيف ذاتية جديدة للإنسان، مختلفة عمّن هم ضمن الجنّة/ الحديقة والحديقة تعني البستان المسوّر الذي لا يتم الدخول إليه إلّا ببسبور الإيمان. تقدّم لنا التوراة رؤية لمدينة أورشليم في سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي، بأنّها مسوّرة، لأنّها ستفصل بين المؤمنين الذي سيكونون في داخلها، والكفّار الذين سيكونون خارجها. لا تختلف أورشليم عن مدينة أسغارد في الأساطير الإسكندنافية، فهي الأخرى محاطة بجدران عظيمة تحميها من هجوم المردة. وفي التراث الديني يقوم ذو القرنين بفصل المتوحّشين (يأجوج ومأجوج) عن الآدميين بسدٍّ عظيم، لن ينقب إلّا في آخر الزمان. إذًا السور يمنحنا دلالات عديدة: الفصل والاتصال، الداخل والخارج، الـ نّحن والـ هُم، الشرعي وغير الشرعي، ابن البلد والغريب عنها؛ وقد وجدت هذه الثنائيات في جميع تطبيقات الأسوار المادية والمعنوية عبر التاريخ الإنساني.
بنت ألمانيا الشرقية الجدار لأسباب عديدة، لكنّه انقلب عليها أيديولوجيًا (Getty)
إسبرطة… أثينا
جادل الفيلسوف وعالم الاجتماع لويس ممفورد، بأنّ المدن تطوّرت في المقام الأول ككيانات عسكرية، وأنّ جدرانها كانت أوضح دليلًا على طابعها الحربي العميق، فلقد بُنيت أسوار المدن كدرع عسكري واجتماعي. هذه المقولة ذات الصبغة المنطقية تخالفها مدينة إسبرطة غريمة أثينا الأبدية، فلم تبن أسوارًا أبدًا، حيث كان الإسبرطيون يهزأون من الأثينيين الذين بنوا أسوارًا حول مدينتهم، بأن وصفوهم بالنساء خلف الجدران. لكن لنتأمّل حياة الإسبرطيين، فلقد كانوا عبارة عن جيش في حالة استنفار دائمة، لذلك لم يكونوا بحاجة للأسوار كالأثينيين الذين خلف أسوارهم أبدعوا الفلسفة والعلوم والمسرح، عندما وضعوا السيف جانبًا، وأوكلوا للأسوار إرهاب المهاجمين. ومع ذلك هزمت إسبرطة أثينا، لكن أثينا انتصرت على إسبرطة في النهاية حضاريًا! إذًا هل بناء الأسوار أفضل للحضارة؟ تذكر لنا أساطير بلاد الرافدين بأنّ أحد الملوك قد قال بعد الانتهاء من بناء السور بأنّه أتيح لشعبه النوم هانئين وبأمان! لقد بنت ألمانيا الشرقية الجدار لأسباب عديدة، لكنّه انقلب عليها أيديولوجيًا، فعلى الرغم من الألغام وكلاب الحراسة ودوريات الأمن خاطر الكثير بحياتهم، كي يعبروا إلى ألمانيا الغربية بحثًا عن حرّية مشتهاة، حتى أنّ أحد الجنرالات الغربيين قال عن جدار برلين بأنّه: “جدارنا لا جدارهم”.
“تُبنى الجدران لأسباب مختلفة، ولأغراض متنوّعة، لكن على ما يبدو فإنّ وظيفتها الأساسية هي خلق الانقسامات، ومنع الناس والأفكار من التنقّل بحرية، وإضفاء الشرعية على الاختلافات”
تتمرّد الجدران على أصحابها، فالإمبراطور الروماني هادريان الذي بنى أطول سور في أوروبا، وخاصة في بريطانيا، كي يمنع قبائل الشمال من الهجمات المرتدّة على الجيش الروماني، قائلًا بأنّ غاية السور ليس الدفاع فقط، بل فصل الحضارة عن البرابرة، لم ينتبه بأنّ القبائل أصبحت ترغب باجتيازه أكثر، وكان لها ذلك، فلقد سقطت روما في النهاية تحت ضربات القبائل الجرمانية، عندما اشتهى البرابرة أن يكونوا حضاريين كبناة الأسوار. ليست إسبرطة بدعًا عندما رفضت بناء سور، فهناك شعوب استطاعت أن تمسك العصا من المنتصف ما بين البناء أو عدمه؛ لقد أهمل الأباطرة الصينيون الأقوياء، على عكس الضعفاء، الاعتناء بالسور الأشهر عالميًا، وعلى ما يبدو كان للسور في زمنهم غايات أبعد من الحماية؛ وهي منح الجنسية الصينية لمن يولدون داخل السور وتحجب عمّن ولِد خارجه. بعد العديد من الأمثلة التي أوردناها أعلاه لا نجد بأنّ التضادية بين إسبرطة وأثينا قد تحسم لصالح أحدهما، فلِلأسوار فوائدها ومساوئها، ففي إحدى قصائد الشاعر الأميركي روبرت فورست والتي كانت بعنوان (ترميم الجدار) يطرح الشاعر في قصيدته أفكارًا عن جدوى بناء السور أو هدمه ويترك للقارئ أن يختار.
هجوم الأسوار
ليس غريبًا أن يكون أشهر سلاسل الأنمي عالميًا في القرن الحادي والعشرين هو “هجوم العمالقة” وهو من تأليف ورسم الفنان الياباني هاجيمي إيساياما. حيث تدور فكرة المسلسل عن أنّ البشرية لكي تحمي نفسها من هجوم عمالقة يأكلون البشر أحاطت مدنها بأسوار عالية جدًا. يحمل المسلسل دلالات كثيرة من الممكن اختصارها، بأنّ العملاق والجدار هما كينونة واحدة وأنّهما ليسا إلّا الإنسان ذاته. على نفس الشاكلة عندما كتب جورج ر. ر. مارتن سلسلة “أغنية الجليد والنار” كان يلعب على نفس التناقض الذي طرحه هاجيمي إيساياما في أنميه عبر سؤال من الـ نّحن ومن الـ هُم؟ تسرد رواية مارتن والتي حوّلت إلى مسلسل تلفزيوني ناجح جدًا عن تاريخ سبع عائلات تتقاتل على العرش، ولكن مع الوقت من كثرة القتل يظهر الموتى السائرون، ولأجل منعهم يُحجزون خلف جدار هائل من الجليد. ينهار الجدار وتبدأ معركة يتصارع فيها الأحياء والموتى/ النار والجليد، ولا ينتهي الصراع إلّا بتحوّل الجليد إلى بخار والنار إلى دخان، وكأنّ الكاتب أراد أن يقول بأنّ عدو الإنسان هو الإنسان لا الجدار. من الطبيعي أن تتنامى السرود التي تتكلّم عن الأسوار في زمننا الحالي، فلقد جاء طرح السلسلتين مع شيوع ظاهرة الأسوار في العالم المادية والرمزية منها، وخاصة بعد تهرّؤ إعلان الأمم المتحدة عن أن مبدأ حرّية التنقل والسفر للبشر مكفولة، فلقد أصبحت كلّ الدول تضع شروطًا للدخول إلى أراضيها، ومن لم لا يحوز صلاحية الدخول يُمنع. ومع تنامي الهجرة من الجنوب الفقير نحو الشمال الغني ارتفعت وتيرة بناء الأسوار من حجر وصولًا إلى الأسلاك الشائكة المكهربة والمرصودة بالكاميرات والحراس.
ينقسم البشر إلى الـ نّحن و الـ هُم. هذان الضميران، المعبّران عن البشرية بأجمعها، أصبح بينهما سور وحائط وجدار يمنعهما من الاقتراب من بعضهما البعض، واكتشاف أنّهما في الأصل من الضمير (أنا). تُبنى الجدران لأسباب مختلفة، ولأغراض متنوّعة، لكن على ما يبدو فإنّ وظيفتها الأساسية هي خلق الانقسامات، ومنع الناس والأفكار من التنقّل بحرية، وإضفاء الشرعية على الاختلافات. في النهاية، لا يهمّ السبب الذي شيّد من أجله السور، لأنّنا سنجد أسبابًا تبرّر بناءه وأسبابًا تشجّع على هدمه، لكنّه بمجرد أن يُبنى، سيكتسب حياة خاصة به، وسينظّم حياة الناس وفقًا لقواعده الخاصة، لكن الأهم من ذلك كلّه، أنّه سيمنحهم معنىً وإحساسًا جديدًا بالاتجاه؛ لقد أصبح لدى جميع المحاصرين بالجدران الآن هدف، أن يجدوا أنفسهم، بأيّة وسيلة كانت، على الجانب الآخر من الجدار.
[للحديث صلة]
* كاتب من سورية.