الحادثة تشير مجدّداً إلى فشل مركّب لسلطات دمشق في إدارة البلاد عموماً، مع انقضاء أكثر من ستّة أشهر على سقوط نظام الأسد، وفي التعامل مع الهجوم وما قد يتبعه خصوصاً.
من المستبعد جداً أن يكون للسلطات السورية أي دور في الهجوم المروّع الذي استهدف كنيسة مار الياس في حيّ الدويلعة في دمشق، ومن غير المرجّح بصورة كبيرة أن يكون لعناصر ضمن بنية النظام الأمنية الجديدة، دور في التخطيط لهذه العمليّة أو تنفيذها. وكذلك تبدو غير واقعية على الإطلاق وبلا أي دليل، تلك النظرية التآمرية الاتّهامية التي تقول إن النظام قد يقف وراء عمل كهذا، كي يقدّم نفسه للمجتمع الدولي كقوّة معتدلة، بالمقارنة مع تنظيمات إسلامية غاية في الراديكالية، أو لإرسال رسائل ابتزاز لأطراف داخلية وخارجية.
وفوق هذا وذاك، لا بدّ من الإشارة إلى أن حدوث هجوم من هذا النوع في سوريا لا يجعل من الأخيرة استثناء، فعشرات الدول المستقرّة وغير المستقرّة، الديمقراطية والسلطوية، الغنيّة والفقيرة، شهدت هجمات دامية نفّذها جهاديون أفراداً أو تنظيمات تتوخّى العنف وسيلة للتغيير.
ومع ذلك، فإن الحادثة تشير مجدّداً إلى فشل مركّب لسلطات دمشق في إدارة البلاد عموماً، مع انقضاء أكثر من ستّة أشهر على سقوط نظام الأسد، وفي التعامل مع الهجوم وما قد يتبعه خصوصاً.
فشل أمني متجدّد
أول ملامح هذا الإخفاق أمنية استخباراتية، فبدلاً من أن يستتبّ الأمن تدريجياً بعد الفوضى المفهومة، التي طبعت الأسابيع الأولى اللاحقة للتغيير، فإن الأوضاع الأمنية لا يبدو أنها تسير في هذا الاتّجاه، وما هجوم بهذا الحجم إلّا دليل إضافي على ذلك، ويلتحق بمجموعة من الأحداث الأمنية بالغة الخطورة التي شهدتها وتشهدها البلاد، كسلسلة التفجيرات التي عرفتها منطقة منبج في ريف حلب، وبلغت ذروتها مع السيارة المفخّخة التي أودت بحياة ٢٠ شخصاً على الأقلّ أوائل شباط/ فبراير الماضي، والهجوم المنظّم لعناصر من فلول النظام السابق في منطقة الساحل في السادس من آذار/ مارس الذي قُتل فيه عشرات من عناصر الأمن، ثم عمليّات القتل الجماعي التي تلت ذلك، وشاركت فيها قوّات تابعة للحكومة وراح ضحيّتها مئات المدنيين، عدا الفلتان الأمني المستمرّ في محافظة درعا جنوباً، حيث تتواتر عمليّات اغتيال بشكل شبه يومي طالت مدنيين ووجهاء وعناصر سابقين في فصائل المعارضة المسلّحة، والدبلوماسي المنشقّ نور الدين اللبّاد الذي كان يزور بلدته الصنمين للمرّة الأولى منذ سقوط النظام.
ولم تُطح أي من هذه الأحداث بوزير الداخلية مثلاً، ولم يتقدّم أي مسؤول أمني باستقالته بعدها، وهو ما تكرّر طبعاً مع الفشل في معالجة التوتّرات مع السوريين الدروز، بعيد تسريب تسجيل صوتي يتضمّن إساءات بحقّ النبي محمد ونُسب تلفيقاً إلى رجل دين درزي، فشهدت بعض المدن مظاهرات تحريضية تضمّنت دعوات صريحة إلى القتل، ثم حدثت أعمال عنف في جرمانا سرعان ما امتدّت إلى أشرفية صحنايا. وبدلاً من أن تتّجه الوزارة لمحاسبة المحرّضين، فإنها أصدرت بياناً أعربت فيه عن “شكرها وتقديرها للمواطنين الكرام على مشاعرهم الصادقة وغيرتهم الدينية”.
ومما جعل أداء وزارة الداخلية أكثر ضعفاً، استبعادها للعديد من الضبّاط والعناصر المنشقّين عن النظام السابق، أو ممّن كانوا على رأس عملهم لغاية الثامن من كانون الأول/ ديسمبر الفائت، وخاصّة في الأمن الجنائي.
إقرأوا أيضاً:
مسيحيّو سوريا يعيشون أسوأ مأساة منذ سنوات
عن قتيلهم و”شهيدنا” وما يستدرجه الجدل حولهما
إقصاء للآخرين
عدم وقوف الدولة على الحياد تجاه مواطنيها، أو تجاه بعض مكوّنات المجتمع الدينية والطائفية والعرقية، كما يظهر مثلاً بشكل فجّ في بيان الداخلية المشار إليه أعلاه، يعقّد من السياق العامّ الذي يحدث فيه أي هجوم، ويعزّز حالة عدم الثقة تجاه الدولة، التي تشعر بها أي فئة مجتمعية في حال استهدافها، ويفاقم من تبعات أي حادثة وتداعياتها، ومما زاد من الطين بلّة في حالة هجوم كنيسة مار الياس، شعور غالب لدى كتلة وازنة من السوريين المسيحيين بالإقصاء السياسي والثقافي والرمزي في سوريا الجديدة.
ومن معالم هذا الإقصاء سيّارات دعوية إسلامية وأخرى تبثّ آيات قرآنية، عمدت خلال الأشهر المنصرمة إلى التجوّل في مناطق الكثافة السكانية المسيحية (ومنها الدويلعة) بطريقة تهدف إلى الاستفزاز أكثر من التبشير، من دون أن تجد رادعاً من السلطات. بينما لم تتمّ الاستعانة بأبناء هذه المناطق لتعزيز الأمن المحلّي، فيما يتمّ استبعادهم بشكل كلّي من الجيش السوري الجديد، الذي يتحوّل تدريجياً إلى جيش سنّي حصرياً بعقيدة قتالية إسلامية.
وعلى صعيد لا يقلّ أهمّية عن سابقه، نصّ الإعلان الدستوري الذي تشوبه أساساً مشكلات متعدّدة، على علاقة ببعض أعضاء لجنة صياغته وسرعة إعداده وطريقة الإعلان عنه وتكريسه السلطات بمنصب الرئاسة، على أن “دين رئيس الجمهورية الإسلام، والفقه الإسلامي هو المصدر الرئيس للتشريع”، فيما تصدر عن بعض شخصيّات السلطة ودوائرها الإعلامية، مواقف وتصريحات تتعامل مع مكوّنات المجتمع السوري بطريقة تُعيد إلى الأذهان نظام الملل العثماني.
وبين هذا وذاك، تبدو الاستعانة بشخصيّات من مختلف المكوّنات السورية لشغل بعض المناصب الوزارية وغيرها كعمليّة تزيينية، وهو ما ينطبق على المسيحيين طبعاً. بل إن هذه الاستعانة تبدو وكأنها صورة مقلوبة لما كان يفعله نظام الأسد، من توظيف مشابه لشخصيّات غير تمثيلية وليست ذات وزن من السنّة وغيرهم، للزعم بمشاركتهم في الحكم.
تخبّط واضح
وكان للبيانات الرسمية التي أعقبت الهجوم دلالة مزدوجة، فمن ناحية أولى أضافت إلى حالة عدم الثقة تجاه الدولة ومشاعر التمييز والإقصاء، عبر عدم تضمين كلمة “شهداء” فيها، خاصّة إذا عرفنا أن البيان الرئاسي الذي أعقب حادثة تفجير منبج كان قد استخدم الكلمة دون أي لبس. ومن ناحية ثانية أشار تعدّد البيانات إلى حالة التخبّط المؤسّسية السائدة، فما الذي دفع وزارة الخارجية مثلاً لإصدار بيان إدانة؟ وما معنى أن ينصّ البيان على أن “الجمهورية العربية السورية تتقدّم بخالص التعازي لأسر الضحايا وترجو الشفاء العاجل للمصابين”، وكأن هؤلاء مواطنو دولة أخرى؟
أما الساحة الأبرز للتخبّط، فكان الإعلام الرسمي الذي فشل في مواكبة الحادثة، وكان أداء قناة الإخبارية الرسمية كارثياً ومحط انتقادات كثيرة محقّة، قد لا يكون هنا مكان استعراضها التفصيلي، وقد يكون من الأجدى أن نشير إلى خلفية هذا الأداء وجذوره، فالسلطات الجديدة وكما في مجالات أخرى، فضّلت إبعاد العشرات من الإعلاميين المنشقّين، أو ممكن كانوا على رأس عملهم لحظة سقوط النظام، وكذلك تجنّبت الاستعانة بالخبرات الإعلامية السورية داخل البلاد وخارجها، ممن راكموا سنوات طويلة من الخبرة والتجارب في لبنان والخليج والغرب.
وبدلاً من ذلك، عيّنت في مناصب مفتاحية في المنظومة الإعلامية أشخاصاً من المحسوبين عليها، يفتقرون الخبرة المطلوبة لتلك المهمّات، هذا إن كانوا يملكون الخبرة المطلوبة لمناصب أدنى وأقلّ أهمّية بما لا يقاس. وفي مقدّمة هذه التعيينات مدير “هيئة الإذاعة والتلفزيون” علاء برسيلو، ومدير “قناة الإخبارية” جميل سرور، وكلاهما لا تشير سيرتهما الذاتية الفقيرة جداً إلى الخبرات المطلوبة من النواحي الفنّية والإدارية والتحريرية لمثل هذه المهام، ولم يسبق لكليهما أن أشرف على مؤسّسات كبيرة الحجم بهذا العدد من الموارد البشرية، ولا تضمّنت أعمالهما السابقة هذا الحجم من المعدّات والتقنيات، ولا تعاون مع شبكة من المراسلين، أو وضع سياسات تحريرية، أو أدار غرفة إخبارية، أو أشرف على تغطيات مفتوحة ومباشرة وغيرها.
مرّة أخرى، ليست السلطات هي من نفّذ هجوم مار الياس الدموي والحزين، وما من شكّ أيضاً في أن حكم أحمد الشرع يواجه معارضة من على يمينه إن جاز التعبير، معارضة ترغب في رؤية سوريا بصبغة إسلامية أشدّ، وقد تجعل حساباته أكثر تعقيداً في شأن مسائل متعلّقة بالخطاب العامّ والحرّيات وغيرها.
بيد أن ما لا شكّ فيه أيضاً أن السلطات لم تتحمّل مسؤولية الفشل في الوقاية مما حدث، ولم تحسن التعامل معه، ولم تستعن في الإطار العامّ بالعديد من الخبرات الفردية والقوى السياسية والمجتمعية التي قد تزيد من شرعيّة الحكم، وتجنّب البلاد والعباد هجمات أخرى أو على الأقلّ تخفّف من تداعياتها.