ولدت قبل وصول حافظ الأسد إلى السلطة بأربع سنوات، ومنذ أن بدأت أعي العالم من حولي، لم أعرف حاكماً سواه، ثم ابنه من بعده.
أنا من الجيل الذي لم يتوقف عن الحفر بأظافره في نفق الاستبداد المظلم الذي أُغلق علينا لعقود، كل محاولاتنا لالتقاط كمشة ضوء أو شهقة هواء كانت تبوء بالفشل، لكن الحلم بالخروج للضوء وبالحصول على فرصة لإطلاق أصواتنا بالكلام، وقبلها لاستعادة السياسة والفضاء العام اللذين سلبهما منّا الاستبداد لعقود، عاد ليصبح ممكناً في صبيحة 8 كانون أول (ديسمبر) 2024 حين تنادينا: «فيقوا… فيقوا، سقط النظام!».
كأنما الأنفاس تعود إليك بعد اختناق طويل، كأنما ضوء كثيف يدخل عينيك اللتين اعتادتا على العتمة. حالي كحال تلك المرأة التي فتح الرجال مهجعها في أحد السجون، الرجل يُبشرها بالخبر المدهش: «اطلعي إختي.. سقط النظام!» تتوقف مترددة عند الباب، ثم تعود أدراجها، فيصيح بها مرة ثانية ويكرر لها الخبر: «عم قلك سقط النظام!».
تتلفظ بجملة غير مفهومة، فتبدو كأنها تبحث عن مبرر لبقائها متجمدة، مترددة، وغريبة تماماً عن المشهد المتسارع الذي يستعجلها، وقد أريد له أن يكون مشهداً احتفالياً بالنصر.
تقول له: «بدي هويتي!»، فيرد: «اطلعي… بعدين! عم قلّك سقط النظام!».
الرجل القادم من سياق آخر بعيد، لا يتفهّم صدمتها ولا مخاوفها، ولا ما تشكله بطاقة الهوية في المأساة السورية الطويلة، لا يفهم أن استعادتها لبطاقة الهوية هو فقط ما كان سيُشعرها في تلك اللحظة بالأمان، ينهي كلامه بحرد: «خلص.. ما بدك تطلعي؟ … ارجعي … تسطفلي!».
مثل كثير من السوريين، حكم النظام كل مفاصل حياتي وخياراتي وتنقلاتي، عملي، ومكان سكني، وكوابيسي، وأحلامي. القضايا التي حملتها، الغصّات، الخسارات التي تكبدتها والمعارك التي خضتها، كان هو المركز فيها دائماً.
طيلة حياتي كنت أدور في دائرة مغلقة من صنعه، لذلك أنا اليوم لن أكون أبداً كما كنت سابقاً، ولا أريد أن أكون.
سقط الأبد! سقطت العدمية، إذاً كل الاحتمالات والممكنات أصبحت مفتوحة، ونحن بإرادتنا من سيقرر إلى أين ستذهب.
في ثنائية «المتفائل – المتشائم» وُسُمت بـ «المتفائلة»! كثيرون استغربوا حماستي، ودعوتي للعمل والعودة للبلد لمن يستطيع إلى ذلك سبيلاً، فالتشاؤم بدلالة السلطة التي وصلت لدمشق مفهوم ومبرر. تفاؤلي أو إيجابيّتي ينطلقان من دلالة مختلفة تماماً، من سياقي الشخصي وقصتي التي سأرويها من خلال ثلاث مشاهد رمزية محورية حكمت حياتي خياراتي:
المشهد الأول 26 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1991:
أصل حارتي في شهبا بعد اعتقال دام أكثر من أربع سنوات، أهل الحارة وأقاربي يتجمعون لتهنئتي بالسلامة، تزدحم مضافة أبي بالضيوف، أودّ لو أنتهز فرصة صغيرة كي أتكلم، أحكي لهم عن هناك، أكشف لهم ماهية السلطة التي تحكمنا، أقصّ عليهم ذكرياتي عن العالم السفلي الذي يبتلع أبناءهم وبناتهم في حال تجاسروا على الاقتراب من العمل السياسي. يسحبني أبي للغرفة المجاورة ويوصيني قائلاً: «برضاي عليكِ لا تتكلمي».
قبل أن يغادر الضيوف، يقترب مني قريب لي، ويهمس في أذني: «عمي! هدي لنا بالنا… السياسة مش إلنا!».
لا يكاد يمضي أسبوع على إطلاق سراحي، حتى تقف سيارة لفرع التحقيق العسكري أمام بيتنا، تقع أمي أرضاً، المضافة تخلو من ضيوفها، ويبتلع أبي مرارة قهوته وحيداً ويائساً.
الاستدعاءات تتكرر، تحاصرني وتزيد عزلتي، وتضعني أمام خيار وحيد، الانتقال إلى دمشق، مدينة أرحب يضيع فيها الفرد بين الجموع، حيث تُنسى الحكايات الشخصية، وتؤجل الأحلام ويصمت الكلام لعقدين كاملين.
المشهد الثاني 18 آذار (مارس) عام 2011:
في بيتي في قدسيا مجموعة من رفيقات ورفاق المعتقل، نتجمع حول شاشة كمبيوتر لمشاهدة الحدث الذي سيتغير بعده كل شي، فيديو صغير لمظاهرة في درعا، نعود ونعيد مشاهدته مرات ومرات، البهجة تمتزج برعب المجرّب العارف، العقل هو الذي يخاف، إذاً ما يلزمنا الآن هو الكثير من الجنون!
هو الوقت لاستعادة كراماتنا المهدورة، للكلام وللصراخ.
الجنون يمضي أبعد من مداه، ننهزم أمام العنف الذي سرعان ما يسرق منا الساحات والفضاء العام، يعلو صوت السلاح فيخرس الكلام وتتراجع السياسة.
ينتصر الاستبداد في تدمير البلد وتقسيمه وانتهاكه من قبل قوى خارجية، وينتصر في اختراع بديله الذي أراد، لا يكتفي بسرقة الماضي، بل يريد سرقة المستقبل أيضاً.
كلّ يمضي في خياراته الفردية للنجاة!
أهرب بابنتيّ بحثاً عن وطنٍ بديل لهما، فيما أُخبّئ خيطاً رفيعاً من الأمل بالعودة، أُغذيه كل يوم بالعمل الجماعي للخلاص من الاستبداد ولاستعادة الفضاءات. النساء المنتميات لسورية المتنوعة والملونة يشكلّن لي فضاءً، افتراضياً في الغالب، فيما بعد يصبح وطناً بديلاً.
نذكّر أنفسنا حين يُنهكنا التعب كل حين بأن طريقنا طويل وشاق وأن «في اليأس خيانة!»
المشهد الثالث: 10 كانون الثاني (يناير) عام 2025:
أمام البيت الذي ولدت فيه، يتراكض إخوتي لاحتضاني بأشواق عقد كامل من الغياب، أمي وأبي غابا للأبد دون وداع، أهالي الحارة الطيبون يصرخون من شرفاتهم: «الحمدُلله على السلامة!» فأرد بصوت عالٍ: «الحمدُلله على سلامتنا كلنا!».
يتوافد الأصدقاء والأقارب إلى المضافة، قهوة أبي وإن غاب حاضرة، كما كانت قبل 34 عاماً.
يباركون لي سقوطَ النظام وكأنه حدثٌ شخصي، سرعان ما تبدأ النقاشات السياسية، الصوت المكتوم ارتفع للكلام وكأنه يثأر من سنوات الصمت.
قريبي الذي همس في أذني يوماً: «السياسة مش إلنا»، يفاجئني بالقول: «بدأتِ هذا الطريق،
إذاً عليكِ أن تكمليه!».
تتحول المضافة إلى ملتقى، يحضر شبان يعتزمون إنشاء تجمع، نساء يقدن مبادرات أهلية ومدنية، مبادرات تتشكل، تجمعات تظهر للعلن. حلم آخر تحقق، لقد استعدنا الفضاء العام، والسياسة عادت لنا.
أتلقى دعوات للحديث في الملتقيات، وفي «الشِعب» الحزبية التي تحولت بسرعة مدهشة إلى مضافات للمجتمع الأهلي، يتحدثون بحرية، يختلفون ثم يتفقون ثم يختلفون…
المركز الثقافي في مدينتي يصبح ساحة فسيحة للنقاشات والحوارات المفتوحة لكافة الآراء، يأخذ السياسيون والمثقفون مكانهم، أرى عمري وتعبي وخساراتي في وجوههم. لا وقت للحزن، لنحيب طويلٍ أرغبه بشدة، هو وقت للاحتفال، أجاهد كي أداري غصّة السؤال: «هل الوصول إلى هنا كان يستحق كل تلك الخسارات؟»
هذا السؤال سمعته من أم علي، صديقتي التي فقدت ابنيها في العام 2013 ولا تعرف إلى اليوم قبراً لأيٍّ منهما. قالت لي عندما بادرت بتهنئتها بسقوط النظام: «هل يُعيد لي سقوط النظام ولديَّ؟!»
هل انتصرنا؟
ثنائية «المنتصر- المهزوم» كما ثنائية «المتفائل – المتشائم»، تشكلت صباحية سقوط النظام وما بعده، سمعت بعدها بثنايات أخرى تضاف للثنائيات التي وُجدت خلال سنوات الثورة وسنوات النزاع. ثنائيات تزيد المقسوم انقساماً، وتتجاهل فرادتنا، سياقاتنا وسردياتنا ومواقعنا المختلفة.
من منا الذي انتصر؟ بدلالة القوة والنفوذ، انتصرت عملية ردع العدوان بقيادة هيئة تحرير الشام التي حلت نفسها وأصبحت بعد أشهر مركزية في تشكيل السلطة الانتقالية، إذاً كل من تبقى من الشعب خارج هذا التشكيل لا يمكن وصفه بالمنتصر.
نحن لسنا منتصرين ولا مهزومين، وإنما في نقطة ثالثة، نقطة البداية الطبيعية التي حرمنا منها، لدينا الساحات والفضاءات العامة التي قد نخسرها أمام استبداد بثوب جديد وقد لا نخسرها، وقد يتوجب علينا أن نخوض معارك كثيرة للدفاع عنها. نبدأ من رفض كل ما يستعجلنا للخروج وللنسيان، فالتعلم من الدرس السوري الكبير يجعلنا حريصين على عدم تكراره.
ننتصر جميعاً حينما تتشكل قطيعة أبدية مع كل ما أنتج الاستبداد الأسدي، مع أدواته وعقليته وطريقة تفكيره وممارساته، ومعتقلاته وأدوات تعذيبه، خنق الحريات وإهانة الكرامات وإبادة المختلف، حين يتحقق ما هو نقيض الاستبداد والأبد: الديمقراطية والتعددية والتشاركية.
أنا لست متفائلة ولا متشائمة، لكن… سقط النظام!
مقالات مشابهة