“في المغرب: ذكريات حميمة لسيدة إيطالية (1897- 1907)” (صادر عن مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود، الدار البيضاء، 2025)، هو كتابٌ آخر يظهر عن المغرب، وهذه المرة مترجَمًا عن اللغة الإيطالية بواسطة أستاذ اللغة الإيطالية بجامعة محمد الخامس محمد مخطاري، الذي سبق أن ترجم للروائي والناقد الإيطالي إيتالو كالفينو كتاب “في الكتابة الأدبية: ستة مقترحات للألفية الثالثة”، الذي صدر سنة 2008 عن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط.
أما مؤلفة الكتاب الذي بين أيدينا فهي الكاتبة الإيطالية لينا مَدَّلينا شيزوتِّي فِرَّارا، التي أقامت في المغرب من شهر ديسمبر/ كانون الأول من عام 1897 إلى بداية شهر مايو/ أيار من عام 1900. ثلاث سنوات كانت كافية لتأليف كتاب أنهته في روما بتاريخ 27 تشرين الأول/ أكتوبر 1911، ونشرته بعد سنة، أي 1912 دار النشر الإيطالية “فراتيلّي تريفيس”. وكان قد سبقها في التأليف عن المغرب الكاتب إدموندو دي أميتشيش وعنوانه “المغرب” الذي تُرجم إلى العديد من اللغات الأوروبية بعد صدوره سنة 1876 عن نفس الدار الإيطالية. هذا إضافة إلى العديد من الكتب الأخرى التي صدرت من طرف كُتّاب وسياسيين وديبلوماسيين غربيين باللغات الفرنسية والإنكليزية والإسبانية. وهي كتب في معظمها من توقيع كتّاب من الذكور، بعكس المؤلفات بصيغة المؤنث التي تسجّل نُدرة ملحوظة، باستثناء كتاب باللغة الإنكليزية لصاحبته إميلي كين (1849-1944) والشهيرة بـ “شريفة وزان” نسبة إلى زوجها السيد عبد السلام بن العربي. وقد صدر كتابها عن المغرب تحت عنوان “قصة حياتي”، وترجم إلى اللغة العربية ونشر سنة 2023 بالمغرب. وتحكي فيه عن فترة مهمة من تاريخ المغرب الحديث في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
النسختان العربية والإيطالية من الكتاب
يحكي كتاب “في المغرب” عن رحلة ثم إقامة الكاتبة الإيطالية واستقرارها في مدينة فاس التي عاشت فيها المدّة الزمنية الأعظم من زمن إقامتها تلك، إلى أن غادرتها نهائيًا سنة 1907. وكان قدومها إلى المغرب، في البداية، مجرد مرافقة لزوجها الكولونيل فِرّارا، الذي كان حينئذ على رأس البعثة العسكرية الإيطالية بالمغرب والمسؤول المباشر عن مصنع السلاح بمدينة فاس.
أظهرت الكاتبة أنها تمتلك حسّ التقاط التفاصيل اليومية الدقيقة وهي تعيش في هذا البلد المختلف تمامًا عن نمط الحياة في روما أو في أي مدينة إيطالية أخرى. فجاء الكتاب مليئًا بالصور والمشاهد والملاحظات عن المجتمع المغربي قبيل فترة الاستعمار الفعلي، خصوصًا فيما يتعلق بالمرأة المغربية. فبحكم أن الكاتبة امرأة فقد تمكنّت، بعكس الكتّاب والرحّالة الغربيين الآخرين، من اختراق الأسوار المنيعة للحريم المغربي. ويحضر من نمط العيش هذا أنماط كل المستويات والفئات الاجتماعية والاقتصادية؛ حيث تطرقت الكاتبة إلى مجموعة من أنماط التفكير والسلوكيات، والعادات، وأصناف الاحتفالات والأكل والموسيقى (فصل “أمسية موسيقية في أحد بيوت مدينة فاس”، ص.ص. 139-151)، والملبس، إضافة إلى تخصيص فصل كامل من الكتاب لليهود المغاربة وحياتهم اليومية داخل ما يُعرف بـ”الملّاح” (ص.ص. 151-161).
“أقرت الكاتبة أن التطور النسوي أصبح ظاهرًا في البلدان الإسلامية التي لديها تواصل مستمرّ مع الشعوب الأكثر تقدّمًا. أما في مغرب نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فقد ظل التقليد سائدًا وموصدًا كل الأبواب”
ظلت المؤلفة وهي تحرّر مذكراتها، حريصة على عدم الحديث على، أو تحليل، النشاط السياسي للحكومة الإيطالية في المغرب. لكنها باعتبارها زوجة رئيس البعثة العسكرية الإيطالية، لم تستطع غضّ النظر عن وجود “مصنع السلاح الشريف” الذي كان هو مبرّر إقامتهم بفاس. لم تقف عند هذا الحدّ، بل عبّرت عن فخرها بما أسمته “النصر الثلاثي” الذي حققته إيطاليا بهذا المصنع. كما أنها اعتبرته نصرًا ديبلوماسيًا أحبط التحركات الخفية لممثلي القِوى الأوروبية الأخرى الذين لم يكونوا ينظرون بعين الرضى لحصول إيطاليا على مثل هذا الامتياز الكبير. إن الكاتبة ترى في مصنع السلاح في فاس “نصرًا لعبقرية بلدها”…
وعن صفات الإنسان العربي ذكرت قلّة النشاط الذي أرجعته لأسباب إثنوغرافية ومناخية، و”بفضل مكره الغريزي الفظ الذي يدفعه لإيجاد مبررات معقولة لرغباته النابعة من طبيعته، فإنه يستغلّ أي فرصة تُتاح أمامه للتملص من العمل لأنه لا يستوعب ذلك الشغف الذي يجعل أحيانًا الصانع الأوروبي يسهر إلى ساعة متأخرة من الليل، وهو ينتظر بشوق كبير رؤية ثمرة العمل الذي بدأ في إنجازه” (ص. 109).
لينا مَدَّلينا شيزوتِّي فِرَّارا في منزلها بفاس
وفي مجال المقارنة بين النساء الأوروبيات والعربيات (المغربيات)، توقفت عند المرأة الأوروبية التي بدأت تنافس الرجل في جميع مجالات العمل. وأقرت أن التطور النسوي أصبح ظاهرًا في البلدان الإسلامية التي لديها تواصل مستمرّ مع الشعوب الأكثر تقدّمًا. أما في مغرب نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فقد ظل التقليد سائدًا وموصدًا كل الأبواب بغية الحفاظ على التقاليد، “واليوم يمكننا القول بأن النساء المغربيات هنّ الوحيدات اللائي يستحققن لقب المسلمات الخالصات لأنه لم يعد بمقدورنا أن نطلق مثل هذا اللّقب على النساء التركيات والمصريات…” (ص. 117). إن سرّ هذا المواقف القطعية هو تمكّن الكاتبة من الولوج إلى الحياة الحميمية الغامضة للأسر المسلمة، والتي لم يسبق لأحد أن قام بوصفها. وهو حظ لم يُتح لأقلام الذكور الذين اضطروا للوقوف على عتبة الحريم المغربي الذي ظلّ موصَدًا بإحكام. ورغم ذلك، فالمؤلفة تعترف بضآلة ما اكتشفته، لأن تلك النساء كُنّ مجرّد أشكال متلحّفة نادرًا ما تتجوّل في الطرقات. إن الحريم، رغم كل شيء، ظل عصيًا على الاختراق. ورغم ذلك فهي تعترف بأن “النساء المغربيات هنّ الوحيدات اللائي يمثّلن نساء الإسلام الحقيقيات”. وأول حريم زارته بمدينة فاس كان حريم الحاج “محمد المقري”. وبفضل احتكاكها بمثل تلك الأسر، توصلت إلى أن في “المغرب (كانت) توجد عبودية، ولكن هذه الكلمة، في تلك البلدان التي تتميّز بالمتعة الحسية، لا تحمل معنى الوحشية الذي اشتهرت به أوساط الشعوب القديمة، والذي لا تزال تحتفظ به أوساط الأعراق الأكثر همجية. إن العبد هناك لا يُعامل معاملة إنسانية فحسب، بل إنه يُعتبر جزءًا من أسرة سيّده، ولذلك فإن أي فكرة عن الحرية لم يسبق لها أن انبثقت من عقله المتبلّد” (ص. 128).
إن هذا الكتاب المختلف اختلافًا ظاهرًا، بهذه الترجمة السلسة والحيّة، والغني بالمعطيات الإثنوغرافية والاجتماعية والتاريخية والفلسفية، هو بحق وثيقة جديدة، تحوّلت من مجرد كومة من الرسائل العائلية كانت المؤلفة تبعثها إلى والدها، إلى كتاب عميق مليء بالملاحظات الذكية. وقد اعتبره الإيطاليون نافذة على حياة بلد عريق هو المغرب، مدهش بعاداته وتقاليده الغنية.
شارك هذا المقال