إذا كان يهود أوروبا قد تعرّضوا للهولوكوست على يد النازية في الحرب العالمية الثانية، فإن الفلسطينيين يتعرّضون، خلال أكثر من ثلاثة أرباع القرن، إلى هولوكوست ممنهج ومتواصل لإفنائهم، أو دفعهم إلى الإجلاء القسري، والأمر يحدث على مراحل وبالتدرّج أحيانا، فعند قيام إسرائيل تمّ طرد أكثر من 700 ألف فلسطيني، والاستيلاء على أراضي فلسطينية جديدة، لم يتضمّنها قرار الأمم المتحدة رقم 181 المعروف باسم قرار التقسيم لعام 1947.
وبعد عدوان الخامس من حزيران / يونيو 1967، استولت إسرائيل على كامل أراضي فلسطين، بضمّ الضفّة الغربية وقطاع غزّة والقدس الشرقية إليها، وقامت ببناء المستوطنات وتوسيعها، خصوصا بعد اتفاق أوسلو عام 1993، على الرغم من العديد من القرارات الدولية التي ندّدت بضمّ القدس والجولان، بالإضافة إلى اعتبار بناء المستوطنات يتعارض مع قواعد القانون الدولي، لكن إسرائيل لم تمتثل لها، وتصرّفت بمعزل عنها وعن ميثاق الأمم المتحدة، وذلك بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص، والدول الغربية بشكل عام.
ولعل ما نشهده من حرب إبادة جماعية ضدّ سكّان غزّة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 وإلى اليوم خير دليل على ذلك، فإسرائيل تضع نفسها فوق القانون الدولي، وهو ما يؤكّد أنها مشروع حرب مستمرّة، وبؤرة عدوان وإرهاب دائمين، وأن أي حديث عن السلام تعتبره محض هراء، ومضيعة للوقت، ولذلك ظلّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يرفض جميع الدعوات التي تطالبه بوقف حرب الإبادة ضدّ سكّان غزّة، لأن هدفه جعل الحياة مستحيلة، تمهيدا لإجلاء أهلها وإعادة احتلالها والضفّة الغربية من جديد. وهذا ما دعا فرانشسكا ألبانيز المقرّرة الأممية الخاصة بفلسطين، إلى القول، إن الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضدّ الفلسطينيين تذكّرنا بالهولوكوست. وتساءلت الموظفة الأممية: كيف يمكننا تجاهل ما يحدث في غزّة الآن؟ إنها مأساة، مشدّدةً: إن هدف إسرائيل هو الانتقام من جميع الفلسطينيين، ليس في غزّة فحسب، بل في القدس الشرقية المحتلة والضفة الغربية. وتُعتبر حرب الإبادة الجماعية جريمة حرب مكتملة الأركان، حسب القانون الدولي، وهي تختلف عن مفهوم الحرب، وهو ما دعا المبعوثة الأممية إلى القول، إن حرب الإبادة تذكّر العالم بالهولوكوست، على الرغم من أن الغرب لا يحبّذ استخدام هذه التسمية، والسبب هو أنها تذكّره بالماضي المشين لحكوماته، والارتكابات التي قامت بها ضدّ اليهود، ولاسيّما في ألمانيا، وبالتالي تضعه أمام مسؤولياته في قيام دولة إسرائيل في قلب العالم العربي. وإذا كان الغرب يريد التكفير عن ذنوبه في محاولة لإنصاف الضحايا اليهود وذويهم، فكان ينبغي عليه إقامة هذه الدولة في أوروبا وليس في الوطن العربي.
إسرائيل تضع نفسها فوق القانون الدولي، وهو ما يؤكّد أنها مشروع حرب مستمرّة، وبؤرة عدوان وإرهاب دائمين، وأن أي حديث عن السلام تعتبره محض هراء، ومضيعة للوقت
الجدير بالذكر أن إسرائيل، منذ عملية طوفان الأقصى، تشنّ حرب إبادة مفتوحة على قطاع غزّة، وهذه الحرب تسبّبت بسقوط أكثر من 56 ألف فلسطيني ونحو 150 ألف إصابة، غالبيتهم من الأطفال والنساء والشيوخ، وخلقت دمارا وخرابا لا مثيل لهما، وكوارث صحيّة وبيئية وإنسانية، الأمر الذي يستوجب تقديم المرتكبين إلى القضاء الدولي بدعوى الإبادة الجماعية، وهو ما ذهبت إليه محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، لكن إسرائيل تتمادى في الاستهانة بالمجتمع الدولي، استنادا إلى «قانون القوّة»، بل تعتبر أن أي انتقاد لها ولأعمالها الوحشية إنما هو «معاداة السامية»، وهو ما اتُّهمت به فرانشيسكا ألبانيز، حيث طالبت بعزلها، خصوصا حين قارنت بين أدولف هتلر وبنيامين نتنياهو. لعلّ إفلات إسرائيل من العقاب هو الثمرة المرّة التي حاولت وضعها في فم كلّ من ينتقد إسرائيل، ويدعو إلى امتثالها إلى قواعد القانون الدولي، معتمدةً على دعم الغرب وشركاته الكبرى، التي لم تتورّع عن جني الأرباح الخيالية على حساب شعب فلسطين، الذي يتعرّض للإبادة، إنها «الثمرة الحلوة» التي تحاول أن تطعمها لتلك الشركات، بحيث أصبحت هذه الشركات مرتبطة ماليا بنهج الفصل العنصري والعسكرة الإسرائيلية. وقد تردّد أن من بينها شركة لوكهيد مارتن الأمريكية (الخاصة بالصناعات العسكرية) وشركة ليوناردو الإيطالية والمتعددة الجنسيات (العاملة في مجال الفضاء والدفاع والأمن)، وشركة كاتربيلر الأمريكية (المختصّة بالمعدات الثقيلة والمحركات والتعدين) وشركة أتش دي هيونداي الكورية الجنوبية والمتعددة الجنسيات (المختصّة بالصناعات الثقيلة وبناء السفن والهندسة البحرية والطاقة والروبوتات)، إضافة إلى مؤسسات دولية عملاقة مثل غوغل (ألفابت) وأمازون ومايكروسوفت، وهذه جميعها ضالعة في تزويد إسرائيل بالأسلحة والمعدّات وأدوات الرقابة والمراقبة، بما يحمّلها مسؤولية قانونية، خصوصا بإلحاق الدمار والخراب والجوع بأهل غزّة.
وإذا كانت ألبانيز قد كشفت بعض الحقائق عن بعض الشركات وطالبت بمساءلة إداراتها طبقا لنظام العدالة الدولية، وقواعد القانون الإنساني الدولي، فإنها دعت إلى وقف التعامل مع إسرائيل، حيث تزهق الأرواح وتستمر الإبادة الجماعية. لم تكتفِ إسرائيل بالتنديد بألبانيز، بل انضمّت إليها الولايات المتحدة واعتبرتها تساهم في تشويه الحقائق وإساءة استخدام اختصاصاتها، ودعت واشنطن وتل أبيب مجلس حقوق الإنسان (الذي سبق أن انسحبتا منه، في 3 و5 شباط / فبراير 2025 على التوالي) إلى اعتبار موقفها متحيزا ضدّ إسرائيل، وهو الاتهام ذاته الذي وجّهتاه إلى المجلس.
كاتب عراقي