ملخص
تركت الكاتبة المتنورة مدام دي سفينييه أكثر من 1400 رسالة نشرت ولا تزال تنشر وتقرأ على نطاق واسع منذ مئات الأعوام كانت متميزة في المجال الاجتماعي، انطلاقاً من أن السيدة كانت في الزمن الذي عاشت وكتبت فيه تتبنى مواقف تنويرية قلما طبعت سيدات من طبقتها أو من جيلها
لسنا ندري تماماً الكيفية التي ستحتفل بها الحياة الأدبية الفرنسية عند بدايات العام المقبل 2026 بالذكرى المئوية الثالثة لولادة الكاتبة المتنورة مدام دي سفينييه، التي يمكن بكل بساطة اعتبارها واحدة من أغزر وربما أفضل كاتبات الرسائل في تاريخ الأدب العالمي، ولا سيما أنها عاشت خلال زمن كان يمكن فيه للمرأة أن تخوض هذا النوع الأدبي ولكن بقدر كبير من الحذر والحرص، على ألا تبدو في أي من رسائلها خارجة عما يفرضه عليها المجتمع وهو يراقب كل حركاتها وسكناتها.
ومهما يكن من أمر لا بد من الإشارة إلى أن مدام دي سفينييه لم تخرج أبداً عن الدروب الممهدة بل هي لم تسع أبداً إلى ذلك، في أي من مئات الرسائل التي كتبتها طوال حياتها، والتي وصلنا منها ما يزيد قليلاً على 1400 رسالة نشرت ولا تزال تنشر وتقرأ على نطاق واسع منذ مئات الأعوام، كما تدرس في الجامعات وحتى في الصفوف الثانوية والابتدائية في فرنسا وفي غيرها، بالتالي سيصعب أن نقول إن تلك الرسائل تتميز بجرأة ما، لا في المجال السياسي ولا في المجال العاطفي ولكن في الأقل في المجال الاجتماعي، انطلاقاً من أن السيدة كانت في الزمن الذي عاشت وكتبت فيه تتبنى مواقف تنويرية قلما طبعت سيدات من طبقتها أو من جيلها، وبخاصة أنها كانت تنويرية سابقة بأجيال على الزمن التنويري الفرنسي الحقيقي الذي سيكون له تأثيره المؤدي إلى الثورة الفرنسية.
في هذا السياق، لعل في مقدورنا القول إن تنويرية مدام دي سفينييه أتت موروثة من حقبة الازدهار المسرحي والفني التي طبعت المجتمع الفرنسي زمن لويس الـ14 والكاردينال ريشيليو.
لوحة تمثل مشهد إعدام المركيزة برنفيلييه التي وصفتها مدام دي سفينييه بدقة وقسوة (موسوعة الفن الكلاسيكي)
من اليتم المبكر إلى الترمل
مهما يكن من أمر، قد يكون في إمكاننا أن نقول إن تنويرية تلك السيدة إنما أتت من حياتها أكثر مما أتت من أي أفق خارج تلك الحياة. وكيف لا يكون الأمر كذلك بالنسبة إليها وهي التي تيتمت وكانت بعد خلال العام الأول من عمرها، لتحتفظ ذاكرتها بكراهية شديدة لتقاليد موروثة أودت بأبيها الذي لن تعرفه أبداً في مبارزة بالسيف، كما ستجعل منها هي نفسها أرملة ولم تتعد بعد الـ25 من عمرها، ولم تمضِ سوى أعوام قليلة على زواجها من رجل حياتها الوحيد قبل مقتله هو الآخر في مبارزة مشابهة، تاركاً لها ثلاث بنات تقوم بتربيتهن.
ولعل اللافت في حياة مدام دي سفينييه ومسارها الكتابي، المحصور على أية حال في رسائلها التي كانت طوال حياتها تصر على الامتناع عن نشرها لخصوصية معظمها المطلقة، اللافت أنها كتبت معظم الرسائل التي وصلتنا لواحدة فقط من بناتها وكانت المفضلة عندها. وهي كانت غالباً ما تبدأ كل واحدة من رسائلها إلى تلك الابنة بعبارة تتكرر هي “إنني دائماً ما أبحث عنك، وأحس أنني أشتاق إلى كل شيء لأنني أشتاق إليك”. والحال أن هذه العبارة أثارت دائماً حيرة الباحثين الذين لم يألوا جهداً في التساؤل عن علاقتها بابنتيها الأخريين، ليفترضوا في نهاية الأمر أنهما على عكس صاحبة الرسائل التي يبدو أنها كانت تعيش بعيداً من الأم، كانتا تعيشان قربها، وهو أمر لم يحوجها إلى التراسل معهما.
وعلى أية حال فإن في مجموع النصوص التي خصت بها الكاتبة ابنتها “المفضلة” ما يدفع بعيداً من الاهتمام بالشؤون العائلية والغرق فيها، وذلك بالنظر إلى أن الرسائل البالغ عددها نحو 800 رسالة والموجهة إلى تلك الابنة، ليست تماماً رسائل عائلية بل هي أقرب إلى أن تكون سجلات تاريخية تكشف كثيراً عن تاريخ الحياة الاجتماعية في فرنسا خلال النصف الثاني من القرن الـ17، أي خلال الحقبة التي دبجت فيها السيدة رسائلها.
فكتور هوغو: السيدة المتنورة من مصادره (غيتي)
انتظام مدهش
وهذا ينطبق على العدد الأكبر من تلك الرسائل التي كانت السيدة تبعثها بانتظام مدهش، عبر بريد كان في ذلك الحين قد بدأ ينتظم في فرنسا انتظاماً لا يزال قائماً حتى اليوم على أية حال، انتظام متابعة الكاتبة لكل ما يحدث من حولها وما يتناهى إلى سمعها وما تستقيه من المحيطين بها، وما تتابع أخباره بحرفية تليق بصحافة القرن الـ19 في فرنسا نفسها أيضاً.
ومن هنا لن يكون من المبالغة القول إن كثراً من مؤرخي الحياة الاجتماعية الفرنسية، ومن بينهم جول ميشليه في زمن سابق للقرن الـ20، وعدد من مؤرخي مدرسة “الحوليات” في هذا القرن الأخير كثيراً ما اعتمدوا رسائل مدام سفينييه في بحوثهم حول تاريخ القرن الـ17. بل لعل المثل اللافت الذي يمكن التوقف عنده بصورة خاصة، هو الكاتب الكبير فيكتور هوغو ابن القرن الـ19 الذي قال دائماً للذين سألوه عن أهم المصادر التي ساعدته على كتابة نصه المرعب “آخر أيام محكوم بالإعدام”، “اسألوا مدام دي سفينييه!”. وكأن من الواضح أن هوغو يلمح إلى واحدة من أشهر رسائل تلك السيدة وهي رسالة بعثتها يوم الـ17 من يوليو (تموز) إلى ابنتها كالعادة، وتصف في فقرات منها مشهد إعدام مجرمة في باريس عرفت باسم المركيزة برنفيلييه وبكونها اعترفت بمجموعة جرائم قتلت بها ذويها بالسم، حكمت بسببها بإعدام شهدته دي سفينييه ولكن من بعيد.
أضواء جديدة على مسار فيكتور هوغو السياسي المتقلب
ريشيليو… “الكاردينال الجسر” بين الأرض والسماء
وها هي تصف ما شاهدته في رسالتها على الشكل التالي “أخيرا انتهى الأمر. وها هي برنفيلييه تتمرجح في الهواء. وها هو جثمانها النحيل يرمى بعد إعدامها في محرقة كبيرة ليتناثر رمادها في الريح تناثراً، ها نحن نتنفسه مستشعرين في أذهاننا وكأننا نستنشق سمومها، فيدهشنا ذلك. لقد حوكمت برنفيلييه أمس وصدر الحكم عليها هذا الصباح وأعلموها بالحكم طالبين منها أن تطلب المغفرة في نوتردام، مُعلمينها أن رأسها سيُفصل عن جسدها الذي سيرمى في المحرقة. سألوها في البداية وللمرة الأخيرة عما إذا كانت مذنبة حقاً، فردت بالإيجاب مؤكدة أنها تعترف بكل شيء، وظلت حتى الساعة الخامسة مساء تروي فصول حياتها، وكانت الرواية أكثر إثارة للرعب مما كنا نعتقد، ولا سيما حين أعلنت أنها سممت أباها 10 مرات على التوالي دون أن تتمكن من قتله، كما سممت أخوتها وأناساً آخرين. وهي ذات لحظة طلبت أن يسمح لها بتوجيه الكلام إلى “مسيو النائب العام” لكنه لم يكن قد وصل بعد، ولم نعرف أبداً ما الذي كانت تريد قوله له ففي النهاية حان موعد إعدامها قبل وصوله. وهكذا عند السادسة عروها إلا من قميص خفيف وحزام، واقتادوها بحبل حول عنقها إلى كنيسة نوتردام حيث ستطلب المغفرة ثم حصل ما حصل”. وهنا تقول الكاتبة إنها هي نفسها بقيت بعيدة ولم تجد في نفسها الجرأة لمشاهدة مايحدث من كثب “غير أن الذين شاهدوها مباشرة أخبروني أنها صعدت إلى مكان المشنقة بكل شجاعة. أما أنا فقد فضلت البقاء على جسر نوتردام أراقب من بعيد زحاماً من الناس لم يحدث مثله هناك من قبل. في الحقيقة إنني لم أشاهد من ناحيتي سوى ذلك الزحام، لكني كنت أعرف تماماً ما الذي يحدث وأعرف أن الجمعة هذا كان يوماً تراجيدياً بامتياز. بيد أنني كنت أعرف أنني في اليوم التالي سأكون حصلت على بقية الحكاية وأعود إليك بها…”.