ملخص
ليس مستبعداً أن تتمسك إسرائيل بتضمين أي اتفاق آخر ضمانات بحرية حركة القوات الإسرائيلية في توجيه ضربات استباقية من غزة إلى طهران، وهذا ما يجعل مستقبل الأوضاع ضبابياً على امتداد الإقليم.
تتحدث إسرائيل عن خوضها سبع حروب على سبع جبهات في آنٍ واحدٍ. بعض هذه الحروب لم يتوقف منذ عقود، وبعضها دار في الخفاء لأعوام، لكن كلها انفجر علناً، دفعة واحدة وتدريجاً، بعد هجوم “حماس” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، ولم ينتهِ أي منها إلى اتفاق أو هدنة أو تسوية، سوى ما حصل في لبنان من اتفاق في الـ27 من نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، إثر الضربات المميتة التي تلقاها “حزب الله”، مما دفعه إلى توقيع اتفاق مثلته فيه، وتعهدت تنفيذه الحكومة اللبنانية، قضى بنزع سلاحه وسلاح جميع المنظمات المسلحة على الأراضي اللبنانية ضمن عملية استجابة كاملة لقرار مجلس الأمن الدولي الصادر في أعقاب حرب 2006، والذي تجاهله “حزب الله” بقدر ما خرقته إسرائيل ولم تتمكن الدولة اللبنانية من الوفاء بموجباته.
سبع حروب واتفاق واحد يتعثر تطبيقه. ماذا يعني ذلك؟ هل هي حروب لن تتوقف؟ هل لم تُؤتِ ثمارها بعد لدى المخططين والمنفذين؟ وما معنى الإنجازات العسكرية الإسرائيلية؟ وهل تمكنت فعلاً من ضرب المحور الإيراني وشل قدراته؟ أم أن العكس صحيح وما زال هذا المحور قادراً على التقاط أنفاسه وقلب الطاولة على خصومه؟
المقصود بالحروب السبع في الأدبيات الإسرائيلية هو بالضبط ما تصنفه إسرائيل مواجهة مع إيران، متجاهلة الأسباب العميقة لجوهر المشكلة في الصراع على الأرض مع الشعب الفلسطيني.
ومن هذا الباب دخلت إيران لتقيم محورها الإقليمي لأسباب اتضح بنتيجة الحروب الدائرة أن الهدف منه حماية تخوم السلطة الدينية ونظامها قتالاً وتفاوضاً، لا خوضاً لحروب تفرض على الدولة العبرية تراجعاً عن أحلامها التوسعية.
توجت إسرائيل حروبها السبع بمهاجمة رأس “المحور”، وشاركتها الولايات المتحدة بدعم قيل إن كلفته اليومية تخطت الـ350 مليون دولار، وتوقف القتال من دون اتفاق ولا يزال من غير نهايات واضحة. وكانت هذه الحروب بدأت رسمياً في معركة غزة التي لم تتوقف منذ ما يقارب عامين، وذهب ضحيتها عشرات آلاف الفلسطينيين، الذين دمرت منازلهم وأجبروا على النزوح المتكرر داخل القطاع وسط أزمة غذاء ودواء قاتلة. تخللت تلك الحرب مفاوضات لإطلاق أسرى من الطرفين، لكن المعارك لم تتوقف، ومحاولة التوصل إلى اتفاق جديد لا تبدو واعدة في ظل تمسك الطرفين بأهدافهما الكبرى: تمسك “حماس” بالبقاء كقوة مسلحة وتمسك إسرائيل بمبدأ القضاء عليها.
الضفة الغربية هي الجبهة الثانية التي تشعلها إسرائيل بهدف مواصلة احتلالها وتوسيع مستوطناتها. وخلال الحرب في غزة زادت الدولة العبرية منسوب حضورها العسكري وعملياتها في الضفة، كما أطلقت عمليات الاستيطان الكثيفة في أنحائها متجاهلة السلطة الفلسطينية والاتفاقات المعقودة معها. في الضفة، كما في غزة، لا تبحث إسرائيل عن حلول نهائية تقف على أرض صلبة. فبقدر ما ترفض تسوية حل الدولتين تعمل على تهميش السلطة الوطنية رافضة أي دور لها في غزة، وفي كامل الأرض الفلسطينية التي يفترض أن تصبح دولة مستقلة. في الضفة تستمر الحرب الإسرائيلية من دون أفق، فيما تترسخ قناعة عامة لدى المجتمع الدولي بضرورة العودة إلى قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، وينتظر العالم في هذا السياق ما يمكن أن يقدمه المؤتمر الدولي لتنفيذ حل الدولتين الذي يعقد نهاية الشهر الجاري برعاية السعودية وفرنسا.
الجبهة الثالثة التي تخوض فيها إسرائيل حرباً لم تتوقف هي الجبهة السورية. بدأت هذه الحرب تحت عنوان مكافحة الوجود الإيراني وميليشياته، وبعد انهيار نظام الرئيس بشار الأسد توسعت التدخلات الإسرائيلية لتشمل احتلال نقاط جديدة خارج الجولان المحتل سابقاً. باتت إسرائيل على مقربة من دمشق وفي جبل الشيخ، وتحت عنوان فضفاض هو ضم سوريا إلى اتفاقات السلام الإبراهيمية، تتحدث اليوم عن اتفاقات ترعاها أميركا، إلا أن شيئاً ملموساً لم يتضح بعد، فسوريا كائناً من كان يحكمها، لا يمكنها الانتظام في سلام من دون اتضاح مصير الجولان وليس فقط المناطق التي جرى اجتياحها أخيراً.
وزير الدفاع الإسرائيلي: سنضرب إيران مجددا إذا هددتنا
لا اتفاق، حتى الآن، على الجبهة السورية يرث اتفاق وقف النار عام 1974، وما يرشح عن الإدارة الأميركية من مشاريع وطموحات ليس واضحاً كيف ستترجم إلى صيغ عملية ترسم خطاً فاصلاً بين مرحلتين في علاقات سوريا بإسرائيل.
على الجبهة العراقية انتهت تهديدات ميليشيات “الحشد الشعبي” بخوض المعارك ضد إسرائيل قبل أن تتضح لها نتائج ملموسة. وكان التهديد الإسرائيلي – الأميركي مرفقاً ببعض الهجمات كافياً لخفض لهجة تلك الميليشيات وحصر نشاطاتها، ولم يحصل ذلك من دون توجيهات ونصائح تولت طهران إسداءها لأنصارها في بغداد.
إلى ذلك هناك جبهة أخرى دخلتها إسرائيل مباشرة هي جبهة الحوثيين اليمنيين من دون حصد نتائج واضحة. لقد فتح الحوثيون معركتهم لإسناد غزة بهجمات على السفن في البحر الأحمر وصواريخ تطلق على إسرائيل، وردت إسرائيل بهجمات جوية عدة لم تتمكن من ردع الحوثي ولا أسفرت عن اتفاق ما، كالذي أبرمه الرئيس دونالد ترمب في وقت سابق، وقضى بوقف الهجمات الأميركية مقابل عدم التعرض للسفن المرتبطة بالولايات المتحدة. لقد زاد الحوثيون من ضراوة هجماتهم بعد الحرب على إيران، أغرقوا سفناً واستعملوا صواريخ أقوى في استهداف إسرائيل، في ما اعتبر طريقة إيرانية في الرد على ما تعرضت له من هجمات.
وعلى رغم الحدث الضخم المتمثل بالهجوم الإسرائيلي – الأميركي المباشر على إيران، وهو بمثابة تتويج للحروب الإسرائيلية على ما تعده إسرائيل أذرع السلطة الخمينية، فإن الحرب توقفت فجأة بقرار من ترمب من دون أن يعقب ذلك أي اتفاق أميركي – إيراني أو أميركي – إسرائيلي. لقد توقع ترمب عودة سريعة إلى المفاوضات مع إيران، لكن القادة الإيرانيين الذين يفخرون باجتياز “الاختبار الإلهي” لا يزالون يرون أن “الظروف غير مهيأة للمفاوضات، ولا نثق بالولايات المتحدة والأطراف الأخرى”، بحسب ما يقول رئيس لجنة الأمن القومي في البرلمان إبراهيم عزيزي، موضحاً “سندخل المفاوضات بشرطين: الاعتراف بحق إيران في تخصيب اليورانيوم وتقديم ضمانات برفع العقوبات”.
لا مفاوضات حتى الآن مع إيران على رغم حرب الأيام الـ12 التي توجتها القاذفات الأميركية. ولا اتفاق مع سوريا بل اتصالات آخرها في أذربيجان بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين بدفع تركي. وفي غزة اتصالات ووساطات لم تسفر عن نتائج، وفي اليمن استعداد لتبادل الهجمات في أي لحظة. فقط في لبنان اتفاق قد يخدم، في حال تنفيذه الكامل بقيام دولة لبنانية فاعلة، لكن إسرائيل ترى فيه وسيلة لاستمرار الحرب على “حزب الله”، والاعتداء على سيادة الدولة عبر احتلال نقاط حدودية، فيما يحاول “حزب الله”، وبدعم إيراني أكيد، جعل تنفيذه ورقة قوة في يد طهران وعامل استقواء على اللبنانيين الآخرين وإبقاء الدولة تحت هيمنة الحزب المسلح.
ميزة الاتفاق الإسرائيلي – اللبناني أنه يحمل الدولة اللبنانية مسؤولية تنفيذ الجانب المتعلق بها، وهو لا يشبه بأي حال اتفاقاً محتملاً في غزة، حيث لا تعترف إسرائيل بمرجعية السلطة الفلسطينية ولا بإمكان استمرار “حماس” على قيد الحياة، ناهيك بإصرارها على مواصلة احتلال الأرض وتوسيع الاستيطان، وكل هذا غير مطروح، في المبدأ، بالنسبة إلى لبنان.
الاتفاق في لبنان أتاح لإسرائيل بسبب الضربة الكبيرة التي تلقاها “حزب الله” الحصول على ضمانات أميركية ودولية تستظلها في استهدافها المتواصل لعناصر ومواقع “حزب الله”، وفي الواقع الحالي ليس مستبعداً أن تتمسك إسرائيل بتضمين أي اتفاق آخر، بما في ذلك مع إيران نفسها، ضمانات بحرية حركة القوات الإسرائيلية في توجيه ضربات استباقية، من غزة إلى طهران، وهذا ما يجعل مستقبل الأوضاع ضبابياً على امتداد الإقليم.