في موقفٍ فاجأ حتى بعض الأوساط المقرّبة من خط المفاوضات، أعلن الموفد الأميركي إلى لبنان وسوريا، توم باراك، أن المطلوب من “حزب الله” هو “نزع كل السلاح”، وليس السلاح الثقيل فقط كما أوحت بذلك تسريبات لبنانية سابقة. وعلى الرغم من أن التصريح ينسجم مع التشدد التقليدي لواشنطن في هذا الملف، إلا أن توقيته ومضمونه يحملان دلالات أعمق، لا سيّما أنه يأتي بعد أسابيع من الترويج لصيغة مخفّفة تقضي بنزع “السلاح الاستراتيجي”، مع ترك السلاح الفردي تحت شعار “الخصوصية اللبنانية”.
رئيس الجمهورية جوزاف عون كان قد لمّح إلى هذه الصيغة، معتبراً أن “السلاح الفردي هو جزء من ثقافة لبنان”، في محاولة لطرح مخرج سياسي يُبقي على قدر من التوازن الداخلي، مقابل التزامات إسرائيلية بوقف النار والانسحاب من الأراضي اللبنانية المحتلة. لكن الرد من “حزب الله” جاء سريعاً، عبر تصريحات واضحة مفادها أن “السلاح لن يُسلَّم”، وأن أي نقاش لا يُفتح إلا ضمن شروط تبدأ بوقف إطلاق النار الشامل، وانسحاب إسرائيل من المناطق المحتلة، وتطبيق القرار 1701 بحذافيره.
بين تصعيدين: من يرفع السقف أولاً؟
حتى الآن، لا يزال من غير الواضح ما إذا كان تصعيد باراك يأتي رداً على تشدد “حزب الله”، أم على محاولات لبنانية للالتفاف على مطلب واشنطن عبر تسويات جزئية. وفي هذا السياق، نقل ديبلوماسي سابق مطّلع على أجواء إدارة الرئيس دونالد ترامب، لموقع “لبنان الكبير”، أن ما قصده باراك بنزع “كل السلاح” يتعدّى العتاد والمنصات الصاروخية، ليشمل تفكيك “المنظومة العسكرية الشاملة” لـ “حزب الله”، بما فيها البنية الأمنية والتمويلية واللوجيستية التي تسمح له بالعمل كقوة عسكرية مستقلة موازية للدولة.
ويعزز هذا التوجه استخدام باراك المتكرر لتعبيري “حزب الله السياسي” و”حزب الله العسكري”، على الرغم من إصرار واشنطن على تصنيفه منظمة إرهابية. هذا التمييز – وإن لم يُعلن رسمياً – يوحي بأن الولايات المتحدة تحاول فتح باب مزدوج: الضغط لتفكيك القدرات العسكرية للحزب، مع الإبقاء على احتمال ضمّه الى المسار السياسي بشروط واضحة.
من أورتاغوس إلى باراك: تغيّر في اللهجة وثبات في الجوهر
منذ تسلّمه الملف خلفاً للمبعوثة السابقة مورغان أورتاغوس – التي اتُهمت بمواقف مستفزة تجاه الحزب – اعتمد باراك لهجة أقل حدة، لكنها أكثر مباشرة، وهو ما تماشى معه “حزب الله”. وكانت مصادر في الثنائي الشيعي أشارت في أول تموز الجاري لموقع “لبنان الكبير” إلى أن لا اعتراض مبدئياً لديهم على مناقشة ملف السلاح، شرط أن يتم ذلك ضمن رؤية وطنية متكاملة، لا أن يُستهدف “حزب الله” فقط دون سواه.
وأضافت هذه المصادر في حينه: “من يريد نزع السلاح، فليبدأ من المخيمات الفلسطينية والبؤر الخارجة عن سلطة الدولة، ومن الميليشيات التي لم تُحلّ فعلياً منذ انتهاء الحرب. فالقوات اللبنانية أعلنت امتلاكها آلاف المقاتلين، وهناك صور لمعسكرات تدريب تابعة لحزب الكتائب. أليس من الأجدى فتح تحقيقات بهذا السلاح قبل الحديث عن سلاح المقاومة؟”.
وختمت بالقول: “سلاح المقاومة كان محاطاً بشرعية وطنية ودستورية على مدى سنوات. معالجته لا تتم بالمزايدات الاعلامية، بل بالحوار المسؤول”.
“شوكولا بري”.. نكهة سياسية أم مجرد مجاملة؟
إلى جانب المواقف الصريحة، أثار باراك جدلاً من نوع آخر عبر إشادته بما وصفه بـ”ألذ شوكولا” لدى رئيس مجلس النواب نبيه بري. وعلى الرغم من أن التصريح قد يُقرأ كمجاملة شخصية أو تعبير عفوي، إلا أن رمزيته في سياق سياسي معقّد لا يمكن تجاهلها.
فبري، المعروف بقدرته على تدوير الزوايا، قد يكون قدّم طرحاً سياسياً مغلفاً بلغة ناعمة كـ “علبة شوكولا فاخرة”، تهدف إلى إرضاء الأميركيين من دون إغضاب “حزب الله”. وقد يكون في تصريح باراك تلميح إلى عرض مغرٍ أو صيغة تفاهمية جذابة، وإن معقدة. وفي بعض القراءات الساخرة، تبدو “الشوكولا” استعارة للمقاربة السياسية التي يتّبعها بري: مزيج من الديبلوماسية، الحنكة والمراوغة التكتيكية.
الحسم مؤجل.. والمناورة مستمرة
بين تصلّب واشنطن وتشدد الحزب، لا تزال المفاوضات في مربع المناورة. لا الأميركيون يملكون أدوات الحسم، ولا “حزب الله” في موقع مريح يسمح له بالتمسك بسلاحه من دون مواجهة تبعات داخلية ودولية متزايدة. ما يُطرح حالياً هو مرحلة عضّ أصابع باردة، والجميع يختبر حدود الآخر.
وفي هذا السياق، يصبح كلام باراك – سواء عن تفكيك السلاح أو عن “الشوكولا” – محمّلاً برسائل مبطنة، تماماً كما هو حال المشهد اللبناني نفسه: معقد، رمزي، مفتوح على جميع الاحتمالات… بما فيها صفقة مغلّفة بورق الشوكولا.