قبل قرابة قرن، بعدما تأسست “مدرسة الحوليات الفرنسية”، انتهى العصر الذي كان فيه “علم التأريخ” مجرد مجموعة مغلقة من المعارف والمعلومات والتحليلات المتعلقة بالمؤسسات والأشخاص والوثائق السلطوية، المتمركزة في أعلى هرم الحكم والنفوذ. فقد أسّست هذه المدرسة البحثية والفكرية لرؤية تعتبر أن هياكل الدولة وبنيان المجتمع وشكل المعاش العام، ماضيه وحاضره ومستقبله، يمكن أن يُرى ويُفسر عبر كل تفصيل من تفاصيل الحياة العامة واليومية. أشياء مثل ملبس الناس أو مدارسهم، هيئة العمران العام، نوعية النظام الصحي، المناهج التربوية، النقاشات والكتابات المتداولة، وحتى نمط الولائم والاحتفالات والأعراس ووسائل النقل… إلخ.
وبحسب تلك المدرسة الفرنسية، فإن سوريا الراهنة تمثل ساحة ركام كبرى، لأن كل تفصيل فيها يعكس ذلك، فهي مؤلفة من أفظع مظاهر الحياة وأكثرها أذى. حتى يمكن اعتبارها نموذجاً لأردأ ما يمكن أن يكدسه البشر في مجتمع ودولة ما: مدن كاملة مدمرة، انقطاع تام عن قيم وأدوات واقتصاد الحداثة الإنسانية، شروخ مجتمعية وتنابذ سياسي إلغائي، أوهام ومخيلات أهلية مؤذية وفظيعة، استعداد نشط وقابلية مستدامة لتكرار دورات العنف والانتقام، اقتصاد عتيق وغير منتج، تعليم منهار، وسلطة أصولية تفتقر إلى الشرعية، مركز لتقاطع الصراعات الطائفية والقومية والإقليمية، هشاشة متناهية في المسألة البيئية، وذاكرة أليمة جراء ما حدث طوال نصف قرن مضى.
حيال كل ذلك، لا توجد مشاريع أو رؤى قادرة على حمل هذه التحديات، أو حتى جزء منها. فعلى امتداد الجغرافيا السورية، ثمة مزيج مركب من القنوط والترقّب. حتى موجة التفاؤل التي سادت خلال الشهرين الأولين من سقوط النظام السابق، والتي كانت مبنية على “تحقّق المستحيل وسقوط الأبد الأسدي”، بدأت تنحسر. فما يحدث راهناً هو مزيج من السلطوية المركزية المهيمنة على الحكم، مع الأصولية الدينية والمجتمعية المسيطرة على المجتمع.
لكن المشاريع والتنظيمات والطروحات التي يُفترض أن تنهض في مواجهة هذا الخراب العميم، يجب أن تبدأ كأفكار عامة مطروحة في الفضاء العام أولًا؛ أسئلة، ونقاشات، وكتابات تطرحها مستويات مختلفة من النخب الثقافية، والفاعلين السياسيين، والقادة المجتمعيين. فالأفكار العامة عادة ما تكون النسغ الأول المؤسس للتنظيمات والمبادرات والأعمال الجماعية. وهذا بالضبط ما تفتقر إليه التجربة السورية الراهنة.
ليس في سوريا اليوم “سوق أفكار عامة” ذات قيمة أو طاقة أو قدرة على الفعل. وبدلًا منها، ثمة قشور كثيرة تُظهر نفسها وكأنها “أفكار عامة”: عصبيات أهلية متفجرة في كل حدب، خطابات تحريضية من منابت أهلية وعلى أسسها، جموح متناهٍ نحو كل ما هو “تريند”، هيمنة تامة للشكلانية والفردانية على الفضاء العام، عوز تام لأي نقاش جدي وذي قيمة ضمن شرايين الحياة العامة، واستعداد للتهميش والإلغاء وحتى المحق لمجرد الخلاف النسبي. كما أنه لا يوجد في البلاد رموز ونماذج وقادة فكريون يمتلكون القدرة على فرض أفكار ونقاشات وقضايا عامة، ويصنعون حول طروحاتهم حواراً عاماً ذا معنى.
لم تكن سوريا كذلك يوماً، حتى في أوج الهيمنة الدكتاتورية. فكاتب هذه السطور يتذكر مثلاً، كيف أنه في العقد الأول من حكم الدكتاتور المخلوع بشار الأسد (2000–2011)، كانت عشرات المقالات والتحليلات التي ينشرها كتّاب سوريون في الصحافة اللبنانية يومياً، تتحوّل إلى قضايا وأفكار للنقاش في الأوساط العامة، النخبوية والثقافية والفنية على الأقل.
تلك الجدالات فتحت الباب واسعاً أمام “الفهم الوطني لسوريا”، بعدما كان الكلام العام في عقدي الثمانينيات والتسعينيات متمركزاً حول مسائل مجردة وعائمة، كالعروبة والإسلام والحداثة والوحدة العربية والكفاح الطبقي… إلخ. ثم فتحت تلك النقاشات الباب واسعًا أمام “أدب الثورة السورية”، خصوصاً خلال عاميها الأولين، وأفرزت عدداً هائلاً من الكتّاب والفنانين والنشطاء المدنيين، الذين طرحوا أفكاراً متمركزة حول ديموقراطية سوريا ومدنيتها، وعلاقات مجتمعاتها، وخطورة الطائفية، وعدمية إلغاء جماعة عرقية أو لغوية سورية. ناقشوا قضايا حقوق الإنسان بلغة ووقائع سورية، وتسربوا إلى مسائل مثل المساواة الجندرية وحقوق النساء والحريات الجسدية… إلخ. فمجموع تلك الطروحات كانت تستهدف تشييد مؤسسات ومشاريع ومبادرات عامة تهدف إلى تحديث سوريا وخلاصها.
أما اليوم، فلا وجود لكل ذلك. فقط سلطة متباهية بنفسها، تُحيط بها كتل من الموالين الجدد، القائمين على فقر شديد في المعرفة والخيال والمهنية والأفكار. وفي المقابل، ثمة من يُفترض أنهم “منتجو الأفكار” — مثقفون ومعرفيون ونخب من المجتمع المدني — لكنهم مصابون جميعًا بداء اسمه “عوز الطاقة”.