أيقظت تصريحات المبعوث الأميركي إلى سوريا، توم براك، بشأن “قسد” والكُرد في سوريا، الذاكرة الكردية إزاء العلاقة مع الولايات المتحدة، وطرحت من جديد تساؤلات كثيرة عن طبيعة هذه العلاقة، ونظرة أميركا إلى القضية الكردية.
فهل تنظر واشنطن إلى القضية الكردية كقضية شعب حُرم من حقوقه القومية والوطنية، أم كأولوية أمنية في إطار استراتيجيتها تجاه المنطقة؟
في المقابل، كيف نظر الكرد إلى السياسة الأميركية والعلاقة معها؟
في التجربة التاريخية للعلاقة الأميركية – الكردية، مرت هذه العلاقة بلحظات قاسية، عبرت عن خيانة أمريكية للأماني القومية التي ناضل الكرد من أجلها طويلًا، في حين كان الساسة الأمريكيون يقولون في كل انتكاسة كردية إنهم كانوا يقومون بواجبهم، وعلى الكرد أن يميزوا بين النشاط الاستخباراتي والعمل التبشيري.
فهذا ما قاله – على الأقل – وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، ردًّا على مناشدات البارزاني الأب عقب الانتكاسة الكردية في العراق عام 1975.
ولم تخرج العلاقة الأميركية – الكردية عن طابعها الاستخباراتي إلى العلن إلا بعد حرب “عاصفة الصحراء” عام 1991، لنشهد بعد ذلك قراءة أمريكية مجتزأة للقضية الكردية، تجسدت في إظهار الصورة الإنسانية والإيجابية للمطالب القومية الكردية في العراق، مقابل الصورة الإرهابية لمطالبهم في تركيا، حيث صنّفت واشنطن حزب العمال الكردستاني ضمن قائمة المنظمات الإرهابية، قبل أن ينشأ مسار التحالف مع “قسد” من بوابة محاربة تنظيم “داعش” في سوريا.
تُظهر هذه القراءة أن جوهر السياسة الأميركية إزاء القضية الكردية لا يقوم على اعتبارها قضية سياسية مستقلة لشعب له حقوق قومية ووطنية، بل كأولوية أمنية، تنظر إلى الكرد كعامل بشري مهم في منطقة استراتيجية تتجاذبها التيارات القومية والدينية والمصالح النفطية، ويمكن التعامل معهم وفقًا للمصالح الأمريكية المتغيرة.
في المقابل، تجزأت الرؤية الكردية للعلاقة مع أميركا، بين من نظر إليها بوصفها قوة ضاربة يمكن الاعتماد عليها لنيل الحقوق، كما هو حال الكرد في أربيل، وبين من رأى أنها تمثّل الإمبريالية والاستعمار ويجب محاربتها، حتى لو من ديار بكر، فيما راهنت “قسد” ومعها كرد سوريا على علاقة تضعهم على طاولة السياسة السورية، حتى لو من بوابة محاربة “داعش”، قبل أن تتغير المعادلة في سوريا مع سقوط نظام بشار الأسد وتنصيب أحمد الشرع على رأس السلطة الجديدة.
براك… كيسنجر… قسد
منذ تسلُّم توم براك مهامه مبعوثًا أميركيًّا إلى سوريا، لا يتوقف الرجل عن إطلاق تصريحات شبه يومية، بدت متناقضة مع طبيعة التحالف الأمريكي مع “قسد”.
وفي كل تصريحاته، بدا وكأنه يريد شيئًا واحدًا: حل “قسد” نفسها إرضاءً للعلاقة الأمريكية مع الإدارة السورية الجديدة.
وفي الحقيقة، يريد من وراء ذلك تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية من بوابة الدور الوظيفي لسوريا الجديدة، وهي:
دفع الشرع إلى التوقيع على اتفاقية سلام مع إسرائيل، يتنازل فيها بشكل واضح وصريح عن الجولان السوري المحتل.
إعطاء دور وظيفي لسوريا الجديدة تجاه لبنان، يقوم بالدرجة الأولى على محاربة حزب الله وتقليص نفوذه إلى أقصى حد، بما يساهم في تغيير المشهد السياسي والاجتماعي في لبنان، وينعكس على الوضع في العراق والمنطقة عمومًا، انطلاقًا من هذا الدور الجديد لسوريا.
التأسيس لمشهد إقليمي متغير في سوريا ينسجم مع السياسة التركية تجاه “قسد” وكرد سوريا، شرط ألّا يصطدم الدور التركي المأمول بأجندة إسرائيل في سوريا، وهو بذلك يسعى إلى رسم خرائط جديدة للمصالح، ولأدوار اللاعبين الإقليميين، بهدف أساسي هو قطع الطريق أمام عودة إيران وروسيا إلى سوريا، تمهيدًا للانتقال إلى خطوات أخرى لإعادة ترتيب الوضع في المنطقة، في إطار نعيه لاتفاقية سايكس – بيكو.
يمارس براك براغماتية أميركية متحوّلة من أجل صياغة معادلة جديدة لسوريا ودورها في المنطقة، من خلال نظام مركزي، خلافًا للخطابات الأمريكية السابقة التي كانت تشير إلى ضرورة التعددية ومشاركة جميع المكونات السورية في الحياة السياسية بعد مرحلة سقوط نظام الأسد.
براغماتية تُثقل كاهل “قسد”، وربما تدفعها لا إلى مراجعة خياراتها فحسب، بل إلى البحث عن تحالفات جديدة، حتى لو سرًّا، لتعزيز أوراقها، حيث لا يزال الروسي متواجدًا في محيط مطار القامشلي، الذي بات يستقبل رحلات مباشرة من قاعدة حميميم على الساحل السوري.
وسيكون عامل الوقت حاضرًا بقوة، سواء في تغير الموقف الأمريكي من إدارة الشرع، ما لم تستجب الأخيرة للشروط الأمريكية الكثيرة، حيث تتعدد مراكز القوة داخل الإدارة الأمريكية، أو حتى في البحث عن لحظة توافق مع الشرع، إذا وجد الأخير أن التفاهم مع “قسد” قد يخدم سلطته في المرحلة المقبلة.
الثابت في السياسة الخارجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط هو البراغماتية، وليس المبادئ، أو القانون الدولي، أو حتى المبادئ الأربعة عشر التي رفعها الرئيس ويلسون من أجل السلام وحق تقرير المصير عقب الحرب العالمية الأولى.
فالمحرّك هو المصالح الاستراتيجية المشتركة مع إسرائيل، ودور الأخيرة في قيادة المنطقة مستقبلًا، والكُرد في كل ذلك يسيرون على خط النار من أجل سلام يضمن لهم مكانة في الخريطة الجديدة التي تتشكّل مع نعي براك لحدود سايكس – بيكو، التي تكلّست بفعل الزمن وفواعل الاستبداد.