الدين جزء أصيل من هوية معظم الجماعات البشرية. وحتى مع انحسار دور الدين من المشهد السياسي والاجتماعي لبعض المجتمعات والدول، فإنه لا يزال يلعب دورا مهما على صعيد الهوية وتحديد من يكون داخل الجماعة وخارجها. وليس أدل على ذلك من دور الكنيسة الكاثوليكية والبابا يوحنا بولس الثاني (1920-2005) في إسقاط الحكم الشيوعي في مسقط رأسه بولندا، ونستذكر هنا عبارته الرمزية “لا تخافوا! افتحوا، بل شرّعوا الأبواب للمسيح”! والتي أصبحت شعارا مميزا لحبريته، ولا تزال تتردد كرمز للشجاعة والإيمان والانفتاح على الله والإنسانية.
عند الحديث عن أثر الدين في المجال العام، يخطئ كثيرون بتركيزهم على ثنائية الحق والباطل، أو الصحيح والفاسد. فمحاكمة منظومة دينية ما من خلال أدوات منظومة أخرى ستفضي إلى إدانة المنظومة المُتناولة بشكل تلقائي. فالغيب والتوقيف أمور يعتبرها المؤمنون مسلمات لا تمسّ، بينما هي منزوعة القداسة عن الدارس من خارج الجماعة. وهنا يحدث الاصطدام بين قلب المؤمن وعين الناقد. هذا على فرض أن تناول المشهد الديني يأتي لغرض معرفي بحت مجرّد من الاجندة السياسية.
فلسفيا، تُعد العقيدة، كما أشار كانط، نسقا يُشكل التصورات المسبقة التي تُفسر من خلالها الحقيقة، إذ يرى المؤمن الواقع عبر مرشحاتها المعرفية
إن أول نقطة يجب أخذها بعين الاعتبار كون الأدبيات المتعلقة بتناول الشأن الديني لأي جماعة تقوم على ثلاثة جوانب رئيسة: العقيدة، والفقه، والتاريخ. ولكل محور مساره ونموذجه (paradigm) الذي يختلف فيه عن الجانبين الآخرين. بمعنى أن النموذج المعرفي في كتب الفقه وأصوله يختلف عن النماذج المعرفية التي تقوم عليها كتب العقيدة والتاريخ. بالتالي، فإن السياق المعرفي لمصادر كل من العقيدة، والفقه، والتاريخ يختلف بشكل يجعل كلا منها موضوعا قائما بحد ذاته. أما عن مسألة التكامل (integration) بين الجوانب الثلاثة، فهي التي تشكّل هوية الجماعة التي تبني سرديتها بناء على ذلك التكامل الذي يميّز جماعة دينية من غيرها. حتى تلك الجماعات التي تنتمي للمنظومة الكبرى نفسها (الإسلام، المسيحية… إلخ).
الجانب العقائدي
العقيدة شأن فكري وروحي يتجلى في تصور المؤمن لربه من حيث الماهية والقدرة الإلهية (الشأن اللاهوتي). تشمل العقيدة المقدسات من أنبياء، ونصوص مقدسة، وأماكن روحية، لتشكل إطارا معرفيا ووجوديا يسكن تفكير الفرد ويرسم علاقته بالحقيقة المجردة والكون المادي. فلسفيا، تُعد العقيدة، كما أشار كانط، نسقا يُشكل التصورات المسبقة التي تُفسر من خلالها الحقيقة، إذ يرى المؤمن الواقع عبر مرشحاتها المعرفية. دينيا، تمثل العقيدة جوهر الإيمان، ففي الإسلام يُشكل التوحيد أساس التصور للإله بالاستناد للقرآن والسنة النبوية، والمرتبط روحيا بالحرمين في مكة والمدينة. بينما يقوم التثليث المستند على نُسخ الإنجيل في المسيحية بدور مماثل.
تاريخيا، تعرّضت العقائد لموجات من الحركات الإصلاحية التي حاكمت المنظومة العقائدية بأدواتها الداخلية وأفرزت مذاهب أو حركات داخل المذاهب عملت على تجديد دماء الجماعة الدينية بتصور جديد (أو بعث تصوّر مهمل) للأفكار التي تحكم علاقة الجماعة بالحقيقة والكون، وببقية الجماعات (الآخر المختلف). ونستطيع أن نرى ذلك في الحركة البروتستانتية التي تحدّت احتكار بابا الفاتيكان وسلك الكرادلة للتفسيرات الدينية للمسيحية، ونادت بفردانية العلاقة بين المؤمن وربه. والحركة الصهيونية التي نادت بتحدي العقيدة اليهودية السائدة التي تحرّم على اليهود قيام دولة، إلى المناداة بقيام دولة لليهود على الأراضي الفلسطينية. أما على المستوى الإسلامي، فإن كل فرقة عقدية قامت لتلبية حاجة فكرية وروحية لجماعة انشقت عن المذهب الأم.
يمكن النظر للتاريخ الديني بوصفه نسقا هرمنيوطيقيا يفسر الماضي ليمنح الوجود معنى، كما عند هيغل الذي رأى التاريخ تعبيرا عن تطور الروح
الجانب الفقهي (التشريعي)
الفقه أو التشريع الديني هو مجموعة الممارسات التي يؤديها المؤمن، إيمانا منه بأنها ترضي ربّه وتقوده إلى الخلاص المتمثل في نعيم الحياة الأخروية الخالدة التي بشّرت بها عقيدته. فلسفيا، يُعد الفقه إطارا أخلاقيا وعمليا ينظم ويهذّب سلوك الفرد ضمن نسق معرفي يربط الفعل بالغاية الروحية، موجها الإرادة البشرية نحو تحقيق المثل الأعلى كما عند أرسطو في مفهوم “الغاية”. يشمل التشريع عبادات توقيفية، كالصلاة والصيام والأضاحي، والتي تُؤدى بطاعة مطلقة دون مساءلة كيفيتها، إلى جانب المعاملات التي تنظم العلاقات الاجتماعية كالمعاملات التجارية والزواج، مما يعكس التوازن بين الفرد والجماعة. تاريخيا، كان للفقه دور مركزي في تشكيل المجتمعات، حيث عززت الشعائر، كالحج أو القداس، والهوية الدينية والتماسك الاجتماعي بوصفها ممارسات تؤدى بشكل جماعي يعكس قوة الجماعة وتجانسها واستعداداها للاجتماع ضد أي تهديد لوجودها. هذه الشعائر، بوصفها ممارسات رمزية، تُظهر انتماء الفرد للجماعة الدينية، معززة الشعور بالقداسة والانضباط الروحي. والأهم من ذلك الاستعداد للتضحية في سبيل الجماعة حيث فكرة الحرب المقدسة والاستشهاد والفداء مقابل النعيم الأبدي في الجنة بغض النظر عن النتيجة الدنيوية للمعركة بالانتصار أو الهزيمة العسكرية.
الجانب التاريخي (السردي)
يمكن النظر للتاريخ الديني بوصفه نسقا هرمنيوطيقيا يفسر الماضي ليمنح الوجود معنى، كما عند هيغل الذي رأى التاريخ تعبيرا عن تطور الروح. في المشهد الديني، لعب التاريخ دورا محوريا بوصفه الوعاء السردي للجماعة التي تبنّت-والتي ما زالت تتبنى- المعتقد وشخصياته الرئيسة. فالتاريخ يشكل إطارا يربط المؤمنين بجذور عقيدتهم، لكنه يُولد انقسامات طائفية داخل الدين الواحد بسبب اختلاف ترتيب مكانة الشخصيات التاريخية في السرديات المتبناة. فالتاريخ يحدد الشخصيات المبجّلة والمشيطنة، ومن يؤخذ من تراثها التفسير الصحيح للدين، ومن يجب رفض تفسيراتهم لأنهم مخربون وزنادقة.
تنقسم السردية التاريخية في الدين إلى بعدين: الأول متفق عليه كضرورة دينية، مثل نبوة محمد في الإسلام أو قيامة المسيح في المسيحية. والثاني مختلف عليه، كمكانة علي بن أبي طالب عند الشيعة مقابل السنة، وعدالة عموم الصحابة عن السنة مقابل الفرز عند الشيعة. أو تأويل دور بطرس في الكاثوليكية مقابل البروتستانتية. تاريخيا، هذه الاختلافات أدت إلى انقسامات عميقة، كآلية الخلافة بعد النبي في الإسلام أو الانشقاق الكبير في المسيحية، مما أثر على العقائد (كالإمامة عند الشيعة مقابل الخلافة عند السنة) والممارسات (كطقوس القداس المتباينة عن المسيحيين). هكذا، يشكل التاريخ الديني هوية الطوائف، معززا انتماءها عبر السرديات، لكنه يُنتج صراعات حول تفسير الأحداث وأهمية الشخصيات.
الخلاف العقدي والتشريعي، مهما كان عميقا، ليس هو ما يشعل فتيل الطائفية. بل الخلاف التاريخي
مكمن الإشكالية
عند التدقيق في الجوانب الثلاثة، سنجد الجانب التاريخي هو حجر الأساس واستحضار المشاكل الطائفية. فالعقيدة شبه ثابتة ولا يمكن مساءلتها إلا بثورة إصلاحية من الداخل. يشترط في المُصلح أن يكون مستوفيا لشروط القيادة الدينية الكلاسيكية قبل أن يتجرأ على طرح أفكاره الإصلاحية، التي تحتاج هي الأخرى لشرعية النصّ الديني. بمعنى أن تكون تفسيرا للنص المقدس وليس بدعا من القول. أما على الجانب الفقهي، فهو مرتبط بممارسات الجماعة التي قد تختلف في كيفيتها مع الجماعات الأخرى التي تنضوي تحت اسم الدين الشامل نفسه (الإسلام أو المسيحية أو غيرهما). المقصود أن العقيدة والفقه شؤون داخلية للجماعة لا يستطيع أن يحاسبها عليها، وهي أمور- غالبا- لا تعني أولئك الذين لا ينتمون للجماعة. وحتى مسألة التقبّل أو الاشمئزاز لا تعدو كونها تفضيلات شخصية لا يمكن الركون إليها. الإشكالية كلها تقع في الجانب التاريخي.
التاريخ هو سردية الجماعة التي تؤسس لوجودها الحالي. وهو الوعاء المعرفي الذي يرفد الجماعة بمفردات كينونتها المعاصرة. فتبجيل شخصية ما أو الحط منها يقابله مفهوم قد يصل إلى العكس في السردية المقابلة. مما يثير حفيظة الجماعات الأخرى. فشخصية مثل مارتن لوثر (1383-1546) ينظر لها البروتستانت بقداسة وإجلال كبيرين لكونه المصلح الذي ساهم في تنقية العقيدة المسيحية من السلطة الهرمية لأصحاب الرتب الدينية (الإكليروس). في المقابل، ينظر له الكاثوليك بوصفه مهرطقا ومخربا سعى لتقويض نظام الكنيسة. وهذا ما يفسّر استقلالية الكنائس البروتستانتية وتمتعها بهوامش حرية لكل كنيسة، مقارنة بالتقاليد الصارمة للكنائس الكاثوليكية. وعليه، فإن التوصيف التاريخي لشخصية مارتن لوثر يلعبُ دورا في السردية الدينية للجماعة (البروتستانتية عموما، واللوثرية خاصة) وللجماعة المضادة (الكاثوليكية).
إن السردية المقصودة هنا تتعدى مسألة العقيدة والتشريعات إلى صميم “شرف” الجماعة والذي يقوم على تمايز شخصياتها الموقرة من التدنيس الذي يطالها من الرؤية المختلفة لها عند “الآخر المختلف” الذي يتبنّى سردية ترى في تلك الشخصية- أو الشخصيات- أفرادا عاديين أو حتى أعداء للدين. يشكل هذا الاختلاف الشرارة التي تقدح السجال الطائفي، والذي يحتاج لوقودٍ تكون خزاناته هي التراث العقدي والفقهي التشريعي للآخر المختلف.
إن الخلاف العقدي والتشريعي، مهما كان عميقا، ليس هو ما يشعل فتيل الطائفية. بل الخلاف التاريخي. ولو تمعّن أتباع الدين الواحد في خلافاتهم، لوجدوا أنها أعمق بكثير من مجرد الخلاف على شخصية بعينها. فهم يختلفون في ماهية الإله وكيفية الوحي وقداسة بعض النصوص من عدمها وبعض تفاصيل الشعائر. ومع ذلك لا تثير تلك الأمور- التي يفترض أن تكون محورية- شيئا من حفيظة الجماعة. في المقابل، فإن الحطّ من مكانة القديس أو الصحابي أو الإمام، كفيلٌ بإشعال سجال وعنفٍ بين أبناء المجتمع الواحد.
يكون الاستقطاب عادة على أساس فئوي (عِرق، إثنية، طائفة) لأنه أسهل في الفرز وإقناع عامة الناس بضرورة الالتزام بالهوية الفرعية كملاذٍ من الحيف
لو تأملنا في المجتمعات التي نخرتها الطائفية لوجدنا أنها ليست بذلك المستوى من التدين، وبأن كثيرا ممن حملوا لواء الحروب الطائفية ليسوا متدينين على المستوى الشخصي. ولنستذكر على سبيل المثال لا الحصر الحرب الأهلية في لبنان خلال فترتي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وحرب البلقان في التسعينات. مجتمعات متنوعة دينية وتشكل الطائفة فيها هوية فرعية ممتزجة بالإثنية، فجأة دبّ القتل الوحشي على الهوية الدينية بين أبناء المجتمع الواحد، فهل صحا رجال الدين أو عامة الناس ليتفاجأوا بالاختلاف العقدي والتمايز الشعائري مع جيرانهم؟
الثابت أن الجماعات الدينية-بزعاماتها وعامتها- يعلمون بالفروقات العقائدية والتشريعية مع شركائهم في الأوطان، ويعلمون أن صحة عقائدهم تقتضي الإيمان ببطلان عقائد الآخر، وبالتأكيد لا ينظرون للشعائر التي يمارسها الآخر بأنها أمرٌ مقدّسٌ يوصل الإنسان إلى النعيم الأبدي. المسألة محسومة لدرجة أن الناس تتعايش معها دون التفكير الجدّي فيها، ولكن العلامة الفارقة تكمن في السردية التي تتبناها كل جماعة حول ذاتها وعلاقتها مع الآخر.
تجارة الأزمة والاستثمار السياسي في الطائفية
تاريخ الحملات الصليبية والفتوحات الإسلامية وتحول مصر الفاطمية إلى التسنن وتحول إيران السنّية إلى التشيع وتحول بريطانيا العظمى إلى البروتستانتية، وغيرها من العلامات التاريخية الفارقة تلقي بظلالها حول هوية المنتصر ومظلومية المهزوم. تلك السرديات تعزز نشوة الانتصار لدى أتباع الطائفة المنتصرة وخيبة الهزيمة عند أتباع الطائفة الخاسرة. بالرغم من كون الانتصار والهزيمة في مواجهة حدثت قبل قرون، فإن استدعاء الحدث التاريخي يخلقُ وعيا جمعيا بأن حال الطائفة اليوم هو نتيجة لتلك المواجهة! وعليه، فإن للمنتصر امتيازات مبنية على استحقاق لا يجب التفريط فيه، وللمهزوم مظلومية مبنية على ثأر لا يسقط بتقادم الزمن.
ثنائية الامتياز والمظلومية هي مفتاح فهم الانقسام الطائفي في المجتمعات. فالمشاكل الاقتصادية والاجتماعية تحتاجُ إلى فعل سياسي لحلحلتها، وفي البلدان التي تشهد ضعفا في الموارد أو فسادا مستشريا، فإن الموارد الاقتصادية تبدو غير كافية للتوزيع العادل. على سبيل المثال، الحصول على وظائف في الدول النامية أمرٌ ليس بالهين، ويعتمد بشكل مباشر على سياسة الدولة. والحصول على وظيفة تكفل حياة كريمة له دورٌ مباشر في مسألة الاستقرار الاجتماعي للفرد والأسرة. بالتالي، فإن الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في الدول النامية يعتمد بشكل مباشر على سياسة الدولة في توزيع الموارد وتوظيف المواطنين. وهنا تبدأ الإشكالية.
يحتاج السياسيون للاستقطاب من أجل ضمان ولاء المكونات الاجتماعية، يكون الاستقطاب عادة على أساس فئوي (عِرق، إثنية، طائفة) لأنه أسهل في الفرز وإقناع عامة الناس بضرورة الالتزام بالهوية الفرعية كملاذٍ من الحيف الذي قد يقع في حال تمسكوا بالهوية الوطنية الجامعة المتمثّل في اتباع القوانين المكتوبة. وعليه، فإن القادة المحركين للمشهد السياسي يعون قواعد اللعبة، والتي يعلو صوتهم فيها على صوت العقلاء والوطنيين.
بالتأكيد لن تكون الخطابات الطائفية مبنية على ثنائية الحق والباطل أو الأصالة والابتداع التي يتم استلالها من كتب العقيدة والفقه. فالسياسي يريد المحاججة بشكل يدغدغ مشاعر جمهوره
لنأخذ لبنان والعراق كأمثلة حية على حالة الاستقطاب للهويات الفرعية. بالرغم من مدنيّة الدستور في كلا البلدين، فإن العملية السياسية برمتها تقوم على المحاصصة الطائفية. وبما أن المواطن يعلم وهو في طريقه لصندوق الاقتراع أن المواقع السيادية موزعة طائفيا، فإنه يدرك- بوعي أو بلا وعي- أن ذلك المنصب “لنا” وذاك “لهم”. هذه الحقيقة التي لا يمكن نكرانها تؤسس للفرز الطائفي في وجدان عامة الشعب بغض النظر عن مستوى تدينهم الشخصي.
بناء على ذلك الفرز، يبدأ المواطن العادي بمطالبة المسؤول بتحسين ظروفه الاقتصادية. وهو لا يناديه هنا بوصفه مسؤولا وطنيا. بل بوصفه ممثلا لطائفته التي يمثلها. وعليه، يكون مقياس نجاح ذلك السياسي من عدمه بقدرته على حماية حقوق مكونه الاجتماعي (طائفته) بغض النظر عن الصالح الوطني العام.
وبما أن المحاصصة الطائفية أمرٌ واقع في تلك الدول، فإن المسألة لن تقف عن التوزيع السياسي للمناصب، بل سيتعدّاه إلى أمورٍ أشد خطورة. أول تلك الأمور مسألة توزيع دخل الثروة بشكل مناطقي وليس وطني. على سبيل المثال، المطالبة بميزانية أكبر للمناطق التي تحتوي موارد أقوى كالنفط والغاز والموانئ. غالبية الأحيان تكون تلك المطالبات متبناة من أبناء المكون الذي يمثل غالبية سكان تلك المناطق. وبالتأكيد يحمل لواء تلك المطالبات السياسيون المنتمون لذلك المكون (الطائفة).
المسألة ليست بالسهولة التي قد يظنها البعض. فالمطالبة لا تكون فقط بناء على أن هذا المورد يقع في “مناطقنا” ولا بد أن يكون ريعه “لنا” وليس “لهم”. فالسياسي يعي أن الدستور لا يغطّي تلك المطالبات بشكل تلقائي، وهنا لا بد من الخطاب الطائفي المناسب لمقتضى الحال.
بالتأكيد لن تكون تلك الخطابات الطائفية مبنية على ثنائية الحق والباطل أو الأصالة والابتداع التي يتم استلالها من كتب العقيدة والفقه. فالسياسي يريد المحاججة بشكل يدغدغ مشاعر جمهوره. وليس ثمة أفضل من تاريخ العلاقة بين جماعته والجماعة أو الجماعات الأخرى، ليطرحه على الطاولة.
هنا يبدأ حوار “نحن وهم” داخل الطائفة، و”نحن وأنتم” عند المواجهة مع الآخرين. يتم استدعاء تاريخ العلاقة بين المكونات ومَنْ استغلّ مَنْ؟ أو مَنْ خدم وحمى مَنْ؟ هذا النوع من السجالات لن ينتهي بنتيجة مقبولة من أي طرف. بل سيرسّخ شعارات الامتياز والمظلومية اللذين يشكلان الأساس الحِجاجي للاستحقاق المبني على سردية الجماعة التي تريد احتكار موقع “المكون الأساسي” للوطن، بغض النظر عن الحجم السكاني والفروق الفردية داخل كل مكون.
يؤسس هذا الخطاب نسقا يرسخ فكرة كون الفرد عضوا في جماعة وليس مواطنا في وطن ذي سيادة. يحدث كل ذلك على أساس السردية التاريخية التي يسوّقها الزعماء السياسيون الذين نصّبوا أنفسهم ممثلين للمكون (الطائفة). في المقابل، يفعل نظراؤهم في الطائفة (الطوائف) الأخرى الشيء نفسه بشكل يتضح فيه الاتفاق الضمني بين تلك الزعامات على احتكار تمثيل المكونات الاجتماعية عند تلك الزعامات.
الخطاب الطائفي الذي يحاول دسّ العناوين العقدية والفقهية بين طياته، أمرٌ خطير يجب الالتفات له والوعي للسرديات التاريخية التي يريد تسويقها
ماذا بعد؟
مما سبق، تتضح قواعد اللعبة الطائفية القائمة على فكرة حماية الاستحقاق المبني على (1) امتياز الانتصار أو الانتقام من الهزيمة، و(2) حماية المكوّن من التهديد الوجودي القادم من المكوّنات الأخرى. وبناء على هاتين النقطتين تزدهر تجارة الأزمة التي تقوم على ممثلي الطوائف الذين تنطبق عليهم صفة “تجار الأزمة”. وبما أنهم تجار، فهدفهم الربح من بضاعتهم الرئيسة، وهي الأزمات المتمثلة في النزاع الطائفي الذي يجب أن يبقى مستمرا بين مكونات الشعب.
تكتمل الحكاية هنا بوجود مسوّغات عملية للاحتقان الطائفي. فالتاريخ القديم أو الحديث مليء بالأحداث التي أفضت للسرديات المختلفة القائمة على ثنائية الأنا والآخر، والتي تمثّل وقود الاستحقاق للهيمنة على الموارد بغطاء سياسي ذي خلفية طائفية، وليست دينية. فالدين قوامه العقيدة والشعائر (الفقه) والتي يمكن أن يتم استغلالها لشرعنة الوحشية ضد أعداء الدين. وحدهم السياسيون من سيجني ثمار تلك الصراعات، وسيبيعون لعامة الشعب (أبناء المكوّنات) وهم حمايتهم من بعضهم.
إن الخطاب الطائفي الذي يحاول دسّ العناوين العقدية والفقهية بين طياته، أمرٌ خطير يجب الالتفات له والوعي للسرديات التاريخية التي يريد تسويقها. والمسألة لا تكمن في محاولة طمس التاريخ أو تصحيحه، بل في الوعي بكونه تاريخا ماضيا يجب أن لاّ يتم استحضاره لمحاسبة الآخرين. وما دامت الخلافات تبدأ من التاريخ الذي يروي سردية لأحداث حصلت في الماضي، فينبغي وضعها في مكانها الطبيعي بوصفها أمرا معرفيا قابلا للنقاش دون ترتيب أثر فعلي في التعامل داخل العقد الاجتماعي. وعليه، لا ينبغي طلب التمجيد أو التبرؤ من شخصيات تاريخية كشرط من أجل القبول الاجتماعي الذي يفترض أن يقوم على التزام الفرد بالعقد الاجتماعي وقانون الدولة. إن الحل يتلخص في “تجاوز” الماضي وليس “العيش” من خلال تبرئته أو التبرؤ منه.