ملخص
فشل خصخصة قطاع المياه في بريطانيا يفرض إعادة هيكلته دون تحميل دافعي الضرائب عبء إنقاذ الشركات المتعثرة مثل “تيمز ووتر”، فيما يطرح تقرير جون كانليف حلولاً واقعية تشمل تأميماً تدريجياً منضبطاً مع الحفاظ على العدالة المالية.
نعيش اليوم في عالم شديد الاستقطاب والتسييس حيث يمكن لأية قضية، من غرف تبديل الملابس إلى برامج دعم ذوي الإعاقة، أن تتحول إلى ساحة للسجال الدعائي والاتهامات المتطرفة، لكن قطاع المياه يبدو الاستثناء الوحيد، فهو قضية تجمع حولها الأمة.
بات هناك توافق واسع، من تيم فارون [زعيم حزب الديمقراطيين الليبراليين] ونايجل فاراج [زعيم حزب ريفورم اليميني]، وصولاً إلى حركة “راكبو الأمواج ضد التلوث”، على أن النموذج الذي طرح مع خصخصة القطاع عام 1989 قد فشل، وأنه يحتاج إلى إعادة هيكلة جذرية، وثمة حاجة إلى حل أفضل على ألا يفاقم الأزمة عبر تحميل دافعي الضرائب مليارات الجنيهات لإنقاذ المساهمين وحملة السندات في شركات مثل “تيمز ووتر” التي تقترب من الانهيار.
وهنا يبرز دور جون كانليف، الموظف العام المخضرم والاقتصادي الواقعي، الذي أعد تقريراً ممتازاً لإصلاح القطاع بأقل كلفة على الدولة وأعلى كلفة على من تسببوا في الأزمة، إنه مراجعة جوهرية كان يجب أن تنجز قبل عقود، ويحسب لوزير البيئة ستيف ريد أنه كلفه بهذه المهمة، ولـ كانليف نفسه أنه أنجزها بسرعة.
رد وزير البيئة على التقرير بإجراء جريء معلناً خططاً لإلغاء “هيئة تنظيم المياه” (أوفوات) بصيغتها الحالية، لكنه لم يوص بتأميم فوري للقطاع، مما أثار خيبة أمل لدى بعضهم ومن بينهم فيرغال شاركي، المغني السابق في فرقة “أندرتونز” وناشط معروف بحملاته من أجل نظافة الأنهار، الذي بذل جهوداً تفوق ما قام به أي سياسي في محاسبة شركات المياه.
وعبّر شاركي عن غضبه الشديد من التقرير الذي اعتبره فرصة ضائعة أخرى إلى حد مطالبته ريد بالاستقالة، أما منظمة “راكبو الأمواج ضد التلوث” فوصفت تقرير كانليف وتوصياته الـ 88 للحكومة بأنها “محاولة لتزيين الكارثة”، وكالعادة يطالب الجناح اليساري في حزب العمال بإعادة القطاع للملكية العامة فوراً.
على هؤلاء المنتقدين أن يهدؤوا قليلاً، ولا يتضمن تقرير كانليف ما يمنع الدولة أو دافعي فواتير المياه من التدخل لإنقاذ أي شركة على وشك الإفلاس، ولا ما يحول دون دخول هذه الشركات في نظام انتقالي قد ينتهي عملياً إلى التأميم، وهذا هو الواقع القائم فعلياً، وعلى الأرجح ما سيحدث قريباً لشركة “تيمز ووتر” الغارقة في الديون، وهو سيناريو أفضل بكثير من اقتراح تأميم الشركة الآن كما قد تفعل وزيرة الخزانة رايتشل ريفز، وتحميل الدولة عبء ديون تبلغ 15 مليار جنيه إسترليني (نحو 20 مليار دولار)، فبصرف النظر عن أية اعتبارات أخرى لا تستطيع المالية العامة تحمل مثل هذه الخطوة، وهذه مجرد شركة واحدة، فكيف ببقية الشركات الأخرى التي تواجه مستويات متفاوتة من التعثر المالي.
صحيح أن البرلمان يمكنه من حيث المبدأ تمرير قانون يسمح بالاستحواذ على الأصول من دون تعويض، لكن هذا المسار الراديكالي لن يشجع الاستثمار الخاص في المملكة المتحدة وسيمثل انتهاكاً واضحاً لأحد الحقوق الأساس، وهو الحق في عدم مصادرة الملكية من قبل الدولة بصورة تعسفية، وحتى الحكومة العمالية بقيادة كليمنت أتلي بعد الحرب التي أممت مرافق عامة كانت في حال تدهور لم تفعل ذلك [أي لم تصادر الأصول دون تعويض].
لذلك يفتح تقرير كانليف الباب أمام تأميم الشركات المتعثرة مستقبلاً، لكن في إطار منظم لا يقتطع من موازنات الخدمات الأساس مثل التعليم والرعاية الاجتماعية، وهذا التوجه يبدو منطقياً وخالياً من النزعة الأيديولوجية.
إنه مقترح ذكي لكن ما يميزه حقاً هو صراحته، إذ يذكرنا كانليف بالحقيقة القاسية وهو أن أحداً ما في مكان ما عليه أن يتحمل كلفة المياه، وأن يعالج أيضاً تبعات عقود من الإهمال والاستثمار الناقص في نظام لا يزال قائماً على بنية تحتية تعود للعصر الفيكتوري.
ومن المنصف التذكير بأن أحد دوافع حكومة مارغريت تاتشر نحو خصخصة المياه آنذاك كان تفادي تحمّل وزارة الخزانة كلفة إعادة بناء شبكات الأنابيب ومحطات المعالجة، وهي كلفة كانت تزداد إلحاحاً آنذاك، ومثلما حدث لاحقاً مع خصخصة السكك الحديد، كانت الآمال معقودة على “سحر السوق الحرة” في تجديد القطاع وخفض الكُلف وتقديم خدمات أفضل ترسم مستقبلاً واعداً تتدفق فيه المياه النقية من كل صنبور وخزان في البلاد.
هل تعود شركات المياه للحكومة البريطانية بعد فشل الخصخصة؟
والآن وبعد أربعة عقود من الزمن لا تزال الحاجة إلى الاستثمار قائمة، وإذا لم يتمكن القطاع الخاص من تلبية هذه الحاجة بصورة مقبولة فسيقع العبء على دافعي الضرائب ودافعي فواتير المياه، وسيتعين على طرف ما تمويل بناء الخزانات الجديدة التي لم تشيد منذ عام 1992، وسيتعين على أحدهم تدبير الأموال اللازمة لوقف تفريغ مياه الصرف الصحي في الطبيعة ولسد التسربات في الشبكة، وفي النهاية، سواء دفع الثمن من خلال الضرائب أو من خلال فواتير المياه، فإن العبء يقع على المواطنين أنفسهم، ويبقى القرار السياسي المطروح هو كيفية توزيع هذا العبء، إما عبر نظام ضريبي تصاعدي أو بصورة أكثر إجحافاً من خلال رفع فواتير المياه، إنه أمر لا مفر منه، بغض النظر عن هوية مالك الشبكة.
وفي هذا السياق يلفت كانليف أيضاً إلى ملاحظة صادمة وهي أن 12 في المئة فقط من المنازل مزودة بعدادات ذكية، مما يجعل من الصعب تطبيق القاعدة المعتادة التي تقضي بأن من يستهلك أكثر يدفع كلفة أعلى، وهو محق أيضاً في اقتراحه أن تتحمل شركات البناء جزءاً من كلفة ربط 1.5 مليون منزل جديد بشبكات المياه والصرف التي تعاني أصلاً من ضغط شديد.
وفي نهاية المطاف قد يتضح أن تقديم خدمة أساسية مثل إيصال المياه النظيفة والتعامل مع مياه الصرف الصحي غير منسجم مع منطق السوق الحرة، بخاصة أن شركات المياه، بخلاف مزودي الكهرباء أو الغاز، ملزمة قانوناً باستمرار الخدمة ولا يحق لها قطع المياه عن أي منزل، وهذا الترتيب القانوني عادل بلا شك، لكن في ظل هذه القيود، ومع تزايد الكُلف فقد يصبح تأميم القطاع خياراً حتمياً، سواء بدافع الضرورات المالية أو تحت ضغط المطالب السياسية.
إن النظام الذي تسيطر فيه الدولة على كل شيء، من تحديد معايير الخدمة إلى تنظيم الأسعار ومراقبة الرواتب، كما هو الحال في قطاعي المياه والسكك الحديد، لا يمكن اعتباره اقتصاداً حراً، وعلى رغم ذلك أظهرت التجربة أن هذا النموذج أيضاً لا يعمل بكفاءة ولا يرضي أياً من الأطراف المعنية.
إن تعزيز الرقابة، وخصوصاً ضمان الجدوى المالية كما نفعل في حال البنوك، بات ضرورة ملحة حتى لو أدى ذلك إلى اقتراب بعض الشركات من الإفلاس، وكانليف والحكومة يدركان أن هناك أكثر من وسيلة للتعامل مع شركات المياه المتعثرة، لكن الفضيحة الحقيقية ستكون في أن تكافأ هذه الشركات الفاشلة وأصحابها بتعويضات سخية تمول من أموال دافعي الضرائب المنهكين أصلاً، ولكن مع قليل من الصبر فمن المرجح أن تجد هذه الأزمة طريقها إلى الحل.