يشكّل الملف الكوردي في سوريا إحدى أعقد القضايا المتداخلة في المشهد السوري والإقليمي والدولي بعد عام 2011.
فعلى الرغم من أن الكورد السوريين استطاعوا ملء الفراغ الأمني والإداري في مناطقهم من خلال تجربة الإدارة الذاتية، إلا أن هذا الواقع لايزال مهدداً بالتفكك نتيجة تناقض مصالح القوى المحلية والدولية.
من هنا تبرز أهمية تحليل آفاق الحل من وجهة نظر الأطراف الأساسية المعنية بالملف، وفي مقدمتها: الكورد السوريون أنفسهم، النظام السوري، تركيا، فرنسا، والولايات المتحدة.
الرؤية الكوردية بين الاعتراف والضمانات
الكورد السوريون ممثلين أساساً بالإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، يسعون إلى حل سياسي يضمن لهم الاعتراف الدستوري بهويتهم وحقوقهم الثقافية والإدارية ضمن سوريا موحدة.
مطلبهم الأساسي لا يتمثل في الانفصال، بل في شكل من اللامركزية الديمقراطية يضمن لهم إدارة مناطقهم، ويحميهم من التهميش أو الاجتثاث في أي تسوية مستقبلية.
لكن في المقابل يفتقر الكورد حتى الآن إلى ضمانات دولية صلبة تكفل استمرارية مشروعهم، في ظل ضغط تركي متواصل ورفض النظام السوري التفاوض معهم بنديّة.
النظام السوري وعودة الهيمنة المركزية
يرى النظام السوري أن أي مشروع للإدارة الذاتية هو تهديد مباشر لسيادة الدولة ووحدتها. ورغم وجود تنسيق عسكري محدود بين دمشق و”قسد” في مواجهة التهديدات التركية، إلا أن النظام يصر على عودة مؤسسات الدولة المركزية إلى كامل الجغرافية السورية، بما في ذلك المناطق الكوردية.
بالتالي، فإن الخطاب الرسمي السوري يرفض الاعتراف القانوني بأي شكل من أشكال الحكم الذاتي، ويطرح بدائل تقوم على المصالحة والاندماج الكامل دون ضمانات دستورية للمكونات.
ولايزال الخطاب السياسي للنظام الجديد يفتقر الى رؤية واضحة للتعامل مع الملف الكوردي ضمن صيغة سياسية تضمن للكورد خصوصيتهم القومية والادارية والجغرافية.
تركيا.. تهديد وجودي ومقاربة أمنية بحتة
تنظر تركيا إلى المشروع الكوردي في سوريا كامتداد لحزب العمال الكوردستاني (PKK)، وتتعامل معه بوصفه تهديداً وجودياً لأمنها القومي. لذلك، فإن المقاربة التركية تقوم على احتواء هذا المشروع عسكرياً وسياسياً، من خلال شنّ العمليات العسكرية في شمال سوريا (غصن الزيتون، نبع السلام…)، ودعم المجالس المحلية السورية المعارضة في المناطق التي تسيطر عليها.
وتسعى أنقرة إلى فرض منطقة آمنة خالية من أي وجود لكوردي مسلح متّهم بالارتباط بالـ PKK، مع توطين اللاجئين السوريين العرب في هذه المناطق، وهو ما تعتبره الإدارة الذاتية تغييراً ديموغرافياً ممنهجاً.
فرنسا.. دعم سياسي وإنساني حذر
تتبنى فرنسا موقفاً داعماً للكورد، وتُعدّ من أوائل الدول الغربية التي زارت مناطق الإدارة الذاتية، وقدّمت دعماً سياسياً محدوداً، ومساعدات إنسانية، وخاصة في ملف النساء الإيزديات ومخيمات اللاجئين.
لكن باريس، رغم دعمها العلني لقوات “قسد” في الحرب ضد داعش، لا تمتلك نفوذاً ميدانياً قوياً في الشمال الشرقي، وتحرص على التنسيق مع واشنطن.
وفي المجمل، ترى فرنسا أن أي حل سياسي في سوريا يجب أن يضمن تمثيل الكورد وحقوقهم، في إطار وحدة سوريا، ولعل فرنسا هي الدولة الوحيدة التي تصر على ايجاد صيغة مناسبة للملف الكوردي لما بعد زوال النظام السابق في سوريا، وهذه الرؤية تحتاج الى تتحول الى خارطة طريق ومشروع واضح الملامح وليس مجرد رغبة سياسية.
الولايات المتحدة.. دعم عسكري ودعوة الى الدمج الكامل مع النظام
تُعدّ الولايات المتحدة الأميركية اللاعب الأكثر تأثيراً في الملف الكوردي السوري. وقد وفرت دعماً عسكرياً واستخباراتياً كبيراً لقوات “قسد” في محاربة تنظيم داعش، لكنها امتنعت عن ترجمة هذا التحالف إلى دعم سياسي واضح للمشروع الكوردي.
تتحرك واشنطن في إطار الحفاظ على التوازن بين دعمها لحلفائها الكورد، وحرصها على عدم استفزاز تركيا – حليفتها في الناتو.
وفي حين تدعو إلى بقاء الإدارة الذاتية شريكاً في الحل السياسي، لم تقدم حتى اليوم ضمانات لحماية هذه الإدارة من الانهيار في حال انسحاب القوات الأميركية. ويبدو أن الولايات المتحدة تستخدم الورقة الكوردية كورقة ضغط على النظام السوري وعلى إيران، أكثر مما تعتبرها شريكاً سياسياً طويل الامد.
بل ان التصريحات الأخيرة للمبعوث الأميركي يعبر عن رؤية أميركية واضحة لدمج “قسد” مع القوات النظامية، هذه التوجهات اذا ترجمت الى خارطة حل تتبناه الإدارة الأميركية بشكل رسمي فانها تعد بمثابة خيبة أمل كبيرة للكورد في سوريا.
لا استقرار في سوريا دون رؤية واضحة للوضع الكوردي
رغم اختلاف الرؤى والمصالح، إلا أن أي حل واقعي للملف الكوردي السوري لا يمكن أن يتحقق دون إشراك الكورد في مفاوضات الحل السياسي بشكل مباشر مع ضمانات دولية دستورية لحمايتهم من الإقصاء أو الاجتثاث، والتوصل إلى صيغة لا مركزية لا تهدد وحدة سوريا، لكنها تعترف بالتعددية القومية واللغوية والإدارية، وتحييد الخلاف التركي – الكوردي من خلال ترتيبات أمنية وسياسية إقليمية.
وأخيراً فان الملف الكوردي في سوريا ليس مسألة داخلية فقط، بل هو مفتاح استقرار طويل الأمد في شمال شرق سوريا ومؤشر على مدى جدّية المجتمع الدولي في دعم حلول عادلة وشاملة لكافة المكونات السورية.