إذا توافقنا على أن سوريا تمر بأحد تحولاتها الكبرى، وحالة جديدة لم يسبق لأجيالنا الراهنة أن عاشتها، فعلينا أن نتوافق أن هذا يتطلب وسائل تعامل جديدة مع أدواتها، ومواكَبة من كل السوريين لكل أحداثها. وعليه، يعد الإعلام هو بطل المرحلة، وحاملاً أساسياً للتغيير. أي يصبح ضرورة لا ترفاً، ودوره يتجاوز نقل الخبر إلى توثيق الحقيقة، ومساءلة الأداء، ومنح الناس حقهم في الفهم والمشاركة، فهو عندما يمتلك أدواته المهنية، يصبح وثيقة وطنية ويستمد كتّاب التاريخ منها مادتهم الموثوقة. فالإعلام ليس خصماً للسلطة، بل حليف لها في مواجهة الشائعة، وفي تصويب السياسات، وفي إيصال صوت الناس وتبادلهم المعلومة مع حكوماتهم.
من هنا يصبح التساؤل ضرورة حول حكمة الإجراءات التي اتخذتها وزارة الإعلام في تقييد وصول الصحافيين إلى المعلومة، وإلزام المسؤولين بالعودة إليهم في أي تصريح يطلبه الإعلام سواء كان محلياً أو أجنبياً، وكأنهم يعيشون عصر وصاية الوزارة على حرية إدارة المعلومة في مؤسساتهم، متناسية (الوزارة) أنه حين يكون الإعلام مقيّداً، فإن الحكومة تفقد إحدى أهم أدواتها في الفهم والتصحيح والاستجابة.
فالمفارقة التي نعيشها منذ التحرير حتى اليوم، هو تراجع ثقة الحكومة بشفافيتها، وليس العكس، فتلك التي كانت منفتحة أمام الإعلام خلال أشهرها الأولى صارت تخشى الإعلام. والغريب أن تكون الوزارة المعنية باتجاه الدفع للانفتاح على الإعلام هي اليوم التي تغلقه، وتقيده، في وقت نحتاج فيه للمصارحة والمشاركة، لأن كشف الخطأ هو أول خطوة نحو الإصلاح. أما من يمنع الإعلام، فهو غالباً يخشى من مواجهة حقيقته أمام مواطنيه، على الرغم من أننا جميعاً نعرف أن الخراب هو حاصل سياسة العهد السابق وفساده.
ولذلك، لا يمكن الحديث عن إصلاح سياسي أو إداري من دون تحرير الإعلام من القيود البيروقراطية والأمنية، ولا يمكن لحكومة أن تطلب من المواطن الثقة، وهي تحجب عنه الحقيقة، أو تمنع الصحافي من الوصول إليها. والحقيقة أن الدولة لا تملك أداة لحماية نفسها أقوى من إعلام مهني حرّ، وإذا كان توثيق الحدث يُعتبر تهديداً، فربما تكون المشكلة في الحدث لا في الشخص الذي يوثق، فأي حكومة تسعى إلى بناء شرعيتها واستدامة ثقة شعبها، لا بد أن تضع الإعلام الحر والمسؤول في صلب أدواتها. فالمصداقية لا تُفرض بالمنع، ولا تُصان بالصمت، بل تُبنى عبر الشفافية، وتُحترم عندما يُتاح لوسائل الإعلام أن تسأل وتُتابع وتُحاسب.
إن احترام عقل المواطن يبدأ من احترام حقه في المعلومة، ومكانة الدولة تُقاس أيضاً بمدى حرية إعلامها ومهنيته. فالإعلام الحر ليس عدوا للحكومات، بل يمنحها أسباب البقاء، بشرط أن تكون مستعدة للوضوح والمساءلة، والحكومة السورية التي تدير دولة خارجة من حرب 14 سنة، وغارقة بفساد نظام ممتد من أكثر من ستة عقود، لا يضيرها أن تنفتح على الإعلام بكل مراحلها، وتعبر بحرية عن مكامن تعثرها، أو تعترف بأخطائها في مسيرة تعافيها.
فعلى سبيل المثال، عندما تُمنع الكاميرات من مرافقة قوافل المساعدات الإنسانية إلى السويداء، وتُحجب المعلومات عن الصحافيين، فإن ذلك يترك الفرصة متاحة لسرديات مضادة، وموظفة لغايات سياسية لا تخدم المهمة الإنسانية التي نأملها من دخول المساعدات لأهلنا في السويداء ومحيطها، وبكل أسف، يتحوّل الإعلامي الذي يغامر بأمانه من أجل المعلومة إلى متهم، ما يعني أن ما يجري لا يتعلق بتنظيم العمل الإعلامي، بل يفهم من ذلك أنها محاولة للسيطرة على سردية الواقع أو تغييبه، دون سبب يعود بالفائدة على الحكومة، بل هو حتماً يضاف إلى أخطائها، وجلّ من لا يخطئ.
لذلك، تصبح الحاجة ماسّة لإعلام وطني حر، ينقل الواقع بمسؤولية، ويمنح الناس أدوات الفهم، ويطرح الأسئلة حول ما يحدث ولماذا يحدث، هذا الإعلام ليس ترفاً سياسياً، بل ضرورة استراتيجية، خصوصاً في اللحظات التي تتطلب إعادة بناء الثقة الوطنية، وتثبيت معايير العدالة والشفافية واستعادة إنسانية الحكومات بعد أن هشمتها حكومات الأسد الفاسدة، بل الشريكة في جرائمه. فسوريا اليوم أكثر من أي وقت سابق تحتاج إلى الإعلام المهني والمساحات الحرة له، وبغير ذلك يتحول هذا الإعلام من طوق نجاة للحقيقة إلى حبل مشنقة مشدود على أعناقنا.