هذه المادة ليست ردّاً على صديق، كما ستراودكم الشكوك بعد قليل. هي، بعيداً عن السياسة بمعناها المباشر، محاولةٌ لإعادة ترتيب شعورٍ شخصي، ومساهمة، أعتقد لن تنجح، في وقفِ إعادة إنتاج التمييز، ليس بين القاتل والضحية هذه المرّة، بل بين الضحايا أنفسهم.
نعم، مجرد تجربة ذاتية لشرح الشعور حين يُصبح موتك أمراً عادياً ومألوفاً، بينما موت آخرين فاجعة تنال “شهادةً” تُثبت أنها من النوع القابل للتضامن. تضامنٌ يتوجب عليك تكرار الإعلان عنه في كل لحظة، حتى لو كنت مشغولاً بالسير في جنازتك الخاصة. ما يجعل الأمر برمته يبدو نوعاً من التمييز في الحكاية، إضافة إلى أنه يمثل حالة إرهاب تحاصرك أخلاقياً.
في رسالةٍ صوتيةٍ، عاتبني صديقٌ، كيف أنّي لم أُظهِر موقفاً قويّاً من مجازر الساحل، ولم أتّصل به لأسأل عن سلامة أهله. آلمني كثيراً أن صوته كان حزيناً صادقاً ومملوءاً بالمرارة. لصديقي سيرة ناصعة البياض خلال الثورة وما قبلها في سجون الأسد الأب، ما جعلني أرسل له على الفور، روابط موادّ، تظهر موقفي الإنسانيّ والسياسيّ واضحاً من كلّ ما جرى. وتابعتُ برسالة تبيّن ما فاته، وبالتأكيد اعتذرت منه لعدم الاتصال والسؤال.
ما أحزنني أكثر من رسالته، هو أنّه لم يردّ. انتابني إحساس أنّ صمته ينمّ عن موقف بالغ القسوة، وكأنه كان يطالبني ببيانٍ سياسي شخصيّ! أو بكتابة منشوراتٍ على مدار الساعة، كما يفعل كثيرون. خلال كل ذلك، كانت تتناوبني مشاعر مختلطة بأن ثمة خللاً، فيما جرى بيننا، من النوع الذي يمكن وصفه، مجازاً، بأنه “مغالطة منطقية”.
هناك في سوريا فئة موجودة بكثرة فائضة، تشبه فراريج المداجن البيضاء (بلا آباء ولا أمهات). هي بطبيعة الحال معدّةٌ للذبح، أو على الأقل من المألوف ذبحها. وفئاتٌ أقل عدداً، هي بمثابة عصافير الزينة (حساسين، ببغاءات وطيور كناري)، يجب ملاحقتها بالرعاية، والحفاظ على حياتها.
خلال سنواتٍ طويلة، كان من الطبيعيّ، على ما وصلت إليه، ألا يسألني الصديق ولا مرّة واحدة عن أهلي، وهم يتلقّون كلَّ أنواع القذائف والبراميل. كان اسم قريتنا الصغيرة (عدّة مئات)، يتردّد في عواجل الفضائيات العربية مراراً وتكراراً. نعم، قريتنا “ديرفول” التي لا يظهر اسمها على الخرائط المطبوعة، كانت خبراً عاجلاً لسنوات. خلال تلك الهجمات، كان أخي يقضي وقته في كهفٍ جهّزه تحت الأرض داخل حديقة بيته.
إضافة إلى أخي وعائلته، هناك يعيش أبناء وبنات عمومتي، وأقارب وأصدقاء. كانوا يومياً ينتظرون كلّ أنواع الموت. في يومٍ واحد، تلقّت القرية أكثر من تسعين قذيفة مدفعية. نعم، قذائف مدفعية ثقيلة، وليست قذائف هاون، فالأخيرة بمختلف عياراتها كانت من طبيعة أيامهم. هبطت فوق بيوتها البراميل المتفجرة، وكثير من المرّات قصفها الطيران المروحي والحربي بالصواريخ العادية والفراغية. أشياء يصعب تصديق أنها حدثت فوق رؤوس ساكني تلك البقعة متناهية الصغر، لكنها حدثت بالفعل.
في يومٍ من أيام عام 2017، بعد ضغوط التحقيق، خرج أخي وزوجته “مريضة قلب” من فرع “أمن الدولة” إلى المستشفى مباشرةً. كانوا أُوقفوا بسبب تقا رير المخبرين، فقريتنا ليست مُجمّعاً للملائكة، كما يمكن أن تبدو لكم في كتابتي هنا. صباح اليوم التالي، وبدلاً من خروجها من المستشفى إلى بيتها، خرجت معلّمة مدرسة القرية إلى مثواها الأخير. لليوم، أحتفظ بصورةٍ فوتوغرافية لأخي، أعاينها كلّ فترة وتغلبني دموعي.
لا أدري كيف خطر لابنه أن يلتقط له الصورة في تلك اللحظة. في منتصف الكادر، رجلٌ حزين يمشي وحيداً في البعيد، عائداً من المدينة بعد أن دفن زوجته، حيث لم تسمح قوى أمن الأسد بنقل جثمانها إلى القرية. يحمل بيده كيساً صغيراً من النايلون فيه بقايا أشياءها. بينما كان الابن عند المعبر الفاصل بين مدينة حمص والريف الشمالي. ينتظر أباه ليعيده وحيداً دون أمّه، وكان أوصلهما كلاهما إلى نفس المكان قبل أيّام.
كلّ ذلك كان يحدث، ولم يخطر لصديقي يوماً أن يسألني: هل أخاك بخير؟
أخجل أحياناً من فكرةٍ، أخمّنُ اليوم أنها تسود في الطبقات السفلى من اللا شعور لدى كثيرين (كان بودّي كتابة “البعض” بدل “كثيرين”). أنّ هناك في سوريا فئة موجودة بكثرة فائضة، تشبه فراريج المداجن البيضاء (بلا آباء ولا أمهات). هي بطبيعة الحال معدّةٌ للذبح، أو على الأقل من المألوف ذبحها. وفئاتٌ أقل عدداً، هي بمثابة عصافير الزينة (حساسين، ببغاءات وطيور كناري)، يجب ملاحقتها بالرعاية، والحفاظ على حياتها، وأحياناً تثبيت أجهزة تتبّعٍ عليها لمراقبة تحركاتها والتأكّد أنها بأمان، وأعتذر هنا للمبالغة الكاريكاتيرية. أعتذر لأني في حقيقة الأمر، بلا أية مجاملات كاذبة، حريصٌ على كل الفئات، لكن كباقي السوريين تماماً، لا أكثر ولا أقلّ. وأشعر أن أية حالة تمييزية للأقليات، تُستخدم بطرق مشوّهة، هي لوثةٌ شاذّة استمرأها بعض أصحابها.
تعرَّضَ مصطلح “حماية الأقليات” (Minority Protection) وما زال للتشويه في سوريا. قبل وبعد سقوط الأسد، ما ولّدَ ليس فقط عَوَراً سياسياً، وإنما خللاً على صعيد المشاعر أيضاً لدى كثيرين. تشويهٌ سببته عقودٌ من الحكم القمعي الذي مارس تمييزاً ممنهجاً على الجميع، وتمادى خلال العقد الأخير ضد الأكثرية بمستوىً أشدّ. للمفارقة، باسم تلك الحماية جرى غالباً التمييز بدلاً من الحدِّ منه.
اليوم يبدو من الخطورة بمكان، ليس فقط أن تتعامل الإدارة الجديدة بمنطق الغلبة والقهر ضد الأقليات، وهذا مقتلٌ وطني. لكن الأخطر أن ذلك سيؤدي إلى أن ترى الدول المؤثرة الأقليات كشركاء ضعفاء يحتاجون الحماية المباشرة، ما يعيد إنتاج منطق الوصاية، ويُجهض أيّ إمكانية لمواطنة متساوية.
نعم، فراريج بيضاء لكن تصادف أيضاً أنهم يجيدون الأدب والفنون والأخلاق، وتشييع الجنازات. تماماً مثل أهلك الطيبين يا صديقي.
بالتأكيد حماية الأقليات من أي تغوّل ضرورة إنسانية وأخلاقية، لكن لا يجب أن تكون على حساب العدالة ولا على حساب الأكثرية المضطهدة بدورها. المعادلة السليمة تبدأ من الاعتراف المتبادل بالمعاناة، وتأسيس دولة لا تحتاج فيها أي جماعة إلى حماية خاصة. طبعاً من البديهي، في كل بلاد الأرض، أن إنجاز هذه الخطوة هو أولاً مسؤولية الدولة (التي لم نحُزها بعد للأسف)، لأن الجميع يجب أن يعيشوا في ظل الدستور والقانون، لا في ظلال الطوائف والأعراق.
بالعودة إلى قريتنا. فقد حدث ما حدث فيها قبل سنوات. مع ذلك، في ظلّ السعار الطائفي والعرقي الحالي من الجميع، الذي ساهمت (النخب) في تأجيجه، خصوصاً بعد أحداث السويداء المريعة والكارثيّة، عادت لي فكرة أنّ أخي وأهلي هناك ارتضوا أن يكونوا مع ذاك الفروج الأبيض، الذي يذهب للذبح يومياً، في دورة حياةٍ دمويةٍ بدت طبيعيةً لصديقي. هم لم يقدّموا أنفسهم كأقلية، أو بصفتهم طيوراً نادرة بريشٍ ملوّن، بل ضاعوا مع الفراريج البيضاء، وشاركوا معها في كلّ شيء: التظاهر السلمي والاعتقال والاختفاء القسري. القتال وتلقّي الموت يومياً في بيوتهم. الحصار والجوع ومن ثمَّ التهجير بالباصات الخضراء، واللجوء.
حدث كلّ ذلك، ولم أكتب أي بيان شخصي، بل ولم أتحدّث عن الأمر إلا لماماً. كان الأمر بالنسبة لي قضية خاصة تستنزف المشاعر في الكثير من الأيام والليالي. أما كقضية عامة، فهي كباقي الجغرافيا السورية التي عانت من جرائم مماثلة، ومقتل كل سوري مهما كان انتماءه جريمة موصوفة بالنسبة لي، وأنا أعلم أن هناك في كل مدينة وقرية من كان يدفن قلبه مع أحبائه. طبعاً هذا كله لا يعني أنني ألوم من يدافع ضد موت أهله، فهذه فطرة بشرية.
اليوم، بينما أكتب هذه المادة، خطر لي، أكثر من مرّة، أن أجعل حكايتها رمزيةً دون تسميات، فأحوّلها إلى قصة قصيرة على لسان الفراريج والحساسين وطيور الكناري، متكئاً على ابن المقفّع في كتابه “كليلة ودمنة”، كي لا أخدش مشاعر أحد.
طبعاً فشلتُ في مجاراة ابن المقفع، أدبياً على الأقل. وعلى سيرة الأدب، ومن أجل بعض الإنصاف، ردّاً على تعميمات تمييزية وسطحية بدأت تظهر في الفضاء العام هذه الفترة، واضحة حيناً أو مع بعض المواربة في أحيان كثيرة، يلزم أن أقول، أنه في قريتنا الصغيرة، قرية الفراريج البيضاء، يوجد سبعة كتّاب لديهم كتباً مطبوعة ومنشورة، وأكثر من هذا العدد فنّانون تشكيليون أعضاء في نقابة الفنون الجميلة. نعم، فراريج بيضاء لكن تصادف أيضاً أنهم يجيدون الأدب والفنون والأخلاق، وتشييع الجنازات. تماماً مثل أهلك الطيبين يا صديقي.
google news