رغم التسميات المؤثرة والهالات اللامعة التي تحيط بكل ما هو ذو علاقة بالوطن والوطنية والحوار الوطني، ليس بالضرورة أن يكون طرح فكرة “مؤتمر الحوار الوطني” حلاً سحرياً لوقف الهزات الارتدادية التي أربكت المشهد السوري بعد الزلزال الكبير الذي أطاح بنظام البطش الذي جثم على صدور السوريين لما يزيد على نصف قرن. في مقال سابق يحمل عنوان “على السوريين نسيان أطروحات الديمقراطية في الوقت الراهن”، شَكَّك المقال في مقولة الالتجاء إلى الديمقراطية كحل لبلد مكانه الطبيعي غرفة العناية المركزة، والتي تحتاج إلى السرعة في اتخاذ القرار، ولا تحتمل إجراء تجارب نتيجتها الحتمية هي الفوضى العارمة وضعف السلطة. واستناداً إلى المعطيات نفسها، قد ينتج عن مؤتمر الحوار الوطني ما هو أشد سوءاً.
الطريق إلى دولة القانون
مع مرور الزمن، طورت المجتمعات القبلية عدة مؤسسات سياسية، في مقدمتها المصدر المركزي للسلطة، الذي مارس احتكاراً فاعلاً لاستخدام القوة العسكرية فوق قطعة محددة من الأرض، وهذا ما يسمونه الدولة. لم تعد توازنات القوة الغاشمة بين مجموعات الأقارب تحفظ السلم، بل يحفظه جيش الدولة وجهاز شرطتها، اللذان أصبحا الآن قوة منظمة على الأرض تستطيع أيضاً الدفاع عن المجتمع ضد الدول المجاورة. ولم تعد حقوق الملكية محمية بسلطة القرابة، بل بسلطة المحاكم والأنظمة القضائية التي امتلكت حق حل النزاعات والتعويض عن الأضرار والإساءات.
مع مرور الزمن أيضاً، صيغت القواعد الاجتماعية على شكل قواعد مكتوبة بدل تركها عادات وتقاليد وأعرافاً غير رسمية. واستخدمت تلك القواعد الرسمية لتنظيم عملية توزيع السلطة داخل النظام، بغض النظر عن الأفراد الذين يمارسونها، والفترة الزمنية التي يمارسونها فيها. بعبارة أخرى، حلت المؤسسات محل القادة والزعماء الأفراد، ومنحت الأنظمة القضائية والقانونية – في نهاية المطاف – السلطة العليا في المجتمع، وهي سلطة اعتُبرت أعلى من سلطة الحكام الذين يتولون آنياً قيادة قوات الدولة المسلحة وبيروقراطيتها، وهذا ما بات يعرف بحكم القانون.
لم يسلم هذا النسيج الاجتماعي الهش بطبيعته من عبث نظام البعث، الذي دأب على تكريس التشظي وتفخيخ المجتمع ليجعل من نفسه الضامن الوحيد لبقاء الدولة ولاستمرار وحدتها.
الفئات الميراثية
استناداً إلى عبارة “مع مرور الزمن”، علينا أن نتصور أن بعض المجتمعات قد وصلت إلى خط النهاية في رحلتها الطويلة نحو دولة القانون، وبعضها ما زال في أول الطريق، والبعض الآخر يتأرجح في المراتب بين هذين الحدين. وفي مجمل الأحوال، لا تأخذ عملية إحلال سلطة القانون محل سلطة الأعراف والتقاليد خطاً متصاعداً بشكل دائم، وإنما غالباً ما تتعرض هذه العملية لارتكاسات مختلفة الشدة. فالبشر بطبعهم لديهم نزعة فطرية لتفضيل الأسرة والأصدقاء والعشيرة، وهو ما يسميه “فوكوياما” “الميراثية”.
هذه النزعة تعيد تأكيد ذاتها باستمرار في غياب حوافز مضادة. مع الزمن، تتخندق الفئات المنظمة – وتتكون غالباً من الأغنياء وأصحاب السطوة والنفوذ – في مواقعها، وتبدأ في مطالبة الدولة بامتيازات خاصة. ولا تنفك الفئات الميراثية الراسخة تسعى إلى توسيع نطاق هيمنتها، أو تمنع الدولة من ردعها باستجابة مناسبة. ويحصل هذا غالباً بعد حقبة سلام واستقرار طويلة تفضي إلى أزمة مالية أو عسكرية. (هل من حالة مشابهة في سوريا اليوم؟ وهل هناك من يسعى لتوسيع نفوذه ويطالب الدولة بالحصول على امتيازات خاصة؟)
تشظي المجتمع
في وصف دقيق للتركيبة السكانية في سوريا، يقول “هينبوش”: إن التركيبة الجغرافية المعقدة لسوريا شكّلت أساساً بيئياً لتعددية اقتصادية اجتماعية عززت بدورها الاختلاف الثقافي. هذه التعددية، والاختراق القبلي المتواصل للمجتمع (بما في ذلك عادات الزواج من الجماعة نفسها)، والإنتاج المحلي القائم على الملكيات الصغيرة، وكذلك بدائية وسائل النقل والتواصل، هذه العوامل مجتمعة ولّدت وحافظت على بنية مجتمعية مجزأة وذات انقسامات عميقة، ولم تولد نظاماً شاملاً موحداً ينتج قوى مكافئة تشاركية.
لم يسلم هذا النسيج الاجتماعي الهش بطبيعته من عبث نظام البعث، الذي دأب على تكريس التشظي وتفخيخ المجتمع ليجعل من نفسه الضامن الوحيد لبقاء الدولة ولاستمرار وحدتها. هذه التركة بدأت تطفو على السطح منذ انطلاقة الثورة السورية، التي ما لبثت أن تحولت إلى قصة حزينة لا يخلو فصل من فصولها من مشاهد العذابات والآلام. وهكذا، كان من الطبيعي أن ينزلق المجتمع الهش أصلاً نحو مزيد من التمزق تحت وطأة عصبيات كامنة انفلتت من كوابحها، وأحالت المشهد إلى بيئة مشحونة بعواطف الشك والتوجس وانعدام الثقة.
لا يعني أن تنأى الحكومة بنفسها عن إشراك الجميع في العملية السياسية والإدارية، بل على العكس تماماً، فإشراك الجميع في إدارة العملية السياسية هو الحل الأمثل.
مؤتمر الحوار الوطني السوري
إذاً، يريد دعاة المؤتمر الوطني من ممثلي مجتمع بلغ قمة التشظي والتخندق والاستقطاب وفقدان الثقة المتبادل، مجتمعاً يمر بمرحلة الانحطاط السياسي، تسعى القوى الميراثية فيه إلى توسيع نفوذها وتكاد تحيله إلى مجتمعات ما قبل الدولة، يريدون منه أن يُنجز مؤتمراً وطنياً يجترح الحلول لبلد يكاد يحتضر. بلد أكثر ما يحتاجه سلطة بصلاحيات واسعة تجعلها أكثر رشاقة في اتخاذ القرارات وإجراء ما يلزم لإنقاذ البلد الذي تتهدده عشرات المخاطر، ابتداءً بمخاطر المجاعة، مروراً بمخاطر الحرب الأهلية، وانتهاءً بمخاطر التقسيم.
إن موافقة الحكومة على رعاية مؤتمر كهذا سوف تعطيه من الشرعية ما يرقى إلى مستوى شرعية سلطة تشريعية منتخبة، وبناءً على المعطيات السابقة ستتركز جهود بعض الجماعات على الحصول على مزايا تمكنها من التعطيل دون امتلاكها للأكثرية اللازمة، وهي إن لم تحصل على هذا المطلب سوف تنسحب من مؤتمر الحوار كتطبيق فعلي لحق النقض. والنتيجة الحتمية ستكون استقطاباً مجتمعياً أكثر حدة من ذي قبل. بمعنى آخر، إن تورط الحكومة برعاية مؤتمر وطني يتوافق ورؤية القوى المطالبة به؛ سيضعها أمام خيارين: إما مواجهة تبعات الفشل، وإما الاسترضاء الذي سيفضي إلى نموذج مستنسخ عن النموذج العراقي أو النموذج اللبناني.
أخيراً، كل هذا لا يعني أن تنأى الحكومة بنفسها عن إشراك الجميع في العملية السياسية والإدارية، بل على العكس تماماً، فإشراك الجميع في إدارة العملية السياسية هو الحل الأمثل، على أن تكون هذه المشاركة قائمة على مبدأ المواطنة والكفاءة ومراعاة التركيبة السكانية للمجتمع السوري دون الوقوع في فخ المحاصصة المُقننة والمُدسترة.