ملخص
الطرح الذي كشف عنه توماس براك يشكل خطوة للإدارة الأميركية على طريق محاصرة التحالف الاقتصادي الثلاثي الإيراني والروسي والصيني، وينقل المعركة التي تخوضها واشنطن هذه المرة إلى الحديقة الخلفية لكل واحدة من هذه الدول التي لا شك في أنها ستكون أمام تحدي البحث عن مخارج لإفشال أو تعطيل مفاعيل هذا المشروع.
فرضت تصريحات السفير الأميركي لدى تركيا توماس براك خلال الأسبوعين الأخيرين، سواء المتعلقة بالوضع اللبناني أو منطقة القوقاز الجنوبي، على جميع الدول الإقليمية وبخاصة تركيا وإيران، رفع مستوى استعداداتها لمواجهة تداعيات هذه التصريحات وكيفية تعطيل مفاعيلها، لما لها من تأثير جيوسياسي وجيوإستراتيجي في معادلات منطقة غرب آسيا برمتها.
وباتجاهين كانت رسائل البيت الأبيض التي حملها براك إلى الدول المعنية بمستقبل المعادلات في غرب آسيا، فاستهدفت بالدرجة الأولى النظام الإيراني وما بقي من نفوذه الإقليمي، وبدرجة أقل النظام التركي الذي يطمح لإعادة رسم معادلات النفوذ بما يخدم مصالحه وطموحاته التي تشمل سوريا وتمتد إلى دول الهلال التركي في آسيا الوسطى، فقلل براك في طروحاته من أهمية المطلب اللبناني باستعادة سيادته على مزارع شبعا، واقترح على الجانب اللبناني إجراء تبادل بالأراضي مع الجانب الإسرائيلي، وهو مقترح قرأته طهران كجزء من دعم أميركي للمشروع الإسرائيلي الذي طغى أخيراً على الاهتمامات الإقليمية، والمتمثل في مشروع “ممر داود”، بخاصة أنه يسحب الذريعة الرئيسة التي يتمسك بها حليف طهران اللبناني للاحتفاظ بسلاحه لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلة، وقد ارتفع منسوب الترقب الإيراني بعد السيطرة الإسرائيلية على المحافظات الجنوبية لسوريا في القنطيرة والسويداء ودرعا وصولاً إلى مشارف دمشق، وأن تنفيذ هذا المشروع يسمح لإسرائيل بإعادة إحياء طموحاتها بالوصول إلى الحدود الإيرانية وتغيير معادلة “حزام النار” الذي أقامته إيران حول إسرائيل بحزام إسرائيلي جديد حول إيران، يتكامل مع نفوذها الواسع والكبير الذي بنته على مدى ثلاثة عقود في منطقة القوقاز من خلال تحالفها مع حكومة إلهام علييف في أذربيجان.
والمخاوف التركية من هذا المشروع لا تقل عن المخاوف الإيرانية، لأن مشروع “ممر داود” يعني إعادة تفكيك كل التفاهمات التي عقدتها أنقره مع القوى الكردية الإقليمية (كردستان العراق) وأحزاب المعارضة في الداخل، بخاصة المصالحة الأخيرة مع حزب العمال الكردستاني بقيادة عبدالله أوجلان، لأن الوصول الإسرائيلي إلى مناطق شرق سوريا يعني عقد تفاهمات علنية بين تل أبيب والقوى الكردية السورية ذات الامتداد في الداخل التركي، وبالتالي فإن مستقبل أي تفاهم بين هذه القوى والدولة السورية الجديدة التي تحظى برعاية كبيرة من أنقرة سيكون في دائرة المجهول، ومن المحتمل أن يتحول إلى تهديد مستجد للطموحات التركية في إعادة بناء نفوذها الإقليمي.
إيران… استعداد لحرب جديدة وانتظار لمفاوضات مؤجلة
وإذا ما كان الطرفان الإيراني والتركي يتعاملان مع الطموحات والمشاريع الإسرائيلية المدعومة أميركياً بكثير من القلق والخوف من تداعياتها على أمنهما واستقرارهما ومصالحهما الإستراتيجية، فإن المعادلة تنقلب في ما يتعلق بما يرسم لمنطقة القوقاز الجنوبي وطموحات حكومة باكو في فرض تغييرات جيوسياسية على خرائط المنطقة، ويشكل الكلام الذي صدر عن براك، بصفته سفيراً لأميركا لدى تركيا، حول رغبة بلاده في لعب دور فاعل في الأزمة المزمنة بين أرمينيا وأذربيجان حول المعبر البري بين إقليم نخجوان المحاذي للحدود التركية والعاصمة باكو (شطري أذربيجان) والذي تطلق عليه اسم “ممر زنكزور”، وأن الرؤية الأميركية لحل هذه المعضلة المزمنة تمر عبر تولي شركة أميركية خاصة إقامة وبناء هذا الممر، على أن يكون مستأجراً لمصلحتها مدة 99 عاماً.
وتزامن كلام السفير الأميركي مع الكشف عن وثيقة سرية مسربة يجري تداولها بين شخصيات وأوساط أرمينية تعيش في أوروبا، وتتحدث عن توافق ثلاثي الأطراف بين أميركا وأذربيجان وأرمينيا لإنشاء ممر بطول 42 كيلومتراً، يربط بين باكو ونخجوان باسم “جسر ترمب” على جزء من أراضي إقليم سيونيك الأرميني.
وتضيف الوثيقة أن تحصل حكومة يريفان على 30 في المئة من عائدات التشغيل في مقابل تنازلها عن الأراضي التي يمر بها الجسر للشركة الأميركية، كما يعطي هذا الاتفاق الولايات المتحدة الأميركية الحق في نشر قوات عسكرية كبيرة على الأراضي الأرمينية، مع تخويلها استخدام القوة عندما ترى ضرورة لذلك.
السهم الذي أطلقه براك أصاب ثلاثة أهداف في الوقت نفسه، فالنظام الإيراني سيجد نفسه مجبراً على التعامل مع تغييرات في التركيبة الجيوسياسية لمنطقة القوقاز الجنوبي، لأن الممر الذي تطالب به أذربيجان بدعم من تركيا والذي تسعى واشنطن إلى إقامته باسم “جسر ترمب”، سيكون على حساب الممر التاريخي في الأراضي الإيرانية المعروف بـ “ممر إرس”، على رغم أن أعمال تطويره التي تقوم بها إيران منذ عام 2022 تقترب من نهايتها، فإيران ترفض أي تغيير في الوضع الجيوسياسي لمنطقة القوقاز الجنوبي، وكانت على استعداد لخوض معركة عسكرية مع أذربيجان لمنع إحداث هذا الممر الذي يستدعي احتلال الجزء المحاذي للحدود الإيرانية في إقليم سيونيك الأرميني، مما يهدد مصالحها الجيواقتصادية التي يوفرها هذا الممر ويربطها عبر جورجيا وشرق أوروبا، وتعتبره إحدى الحلقات الأساس على خريطة المواصلات والممرات والمعابر البرية التجارية والاقتصادية.
وإضافة إلى التحدي الجيوسياسي فإن تحدياً جيوإستراتيجياً أكبر ستواجهه طهران مع إحداث هذا الممر، لما سيوافره لتركيا من حرية العمل لاستكمال مشروعها والحلم ببناء “الهلال التركي” بقيادة أنقرة، والذي يضم دول العالم التركي في آسيا الوسطى ويفتح الطريق أمامها للربط البري مع باكستان والهند والصين وصولاً إلى أفغانستان، مما يعني سيطرة تركية على قلب هذه المنطقة الحيوية وبالتالي محاصرة المصالح الإيرانية الجيواقتصادية، وإذا ما كانت طهران على استعداد للتعامل مع تداعيات مثل هذا المشروع بعيداً من التفاهم معها في حال حصلت على ضمانات بعدم تهديد مصالحها الاقتصادية وتأمين ممر آمن لمواصلاتها باتجاه أوروبا الشرقية، فإنها لا تسقط من اعتباراتها الأهداف البعيدة لهذا المشروع الذي يدخل في إطار محاصرة مناطق نفوذها ومصالحها، والمستفيد الأساس منه ليس تركيا على رغم الأرباح السياسية والإستراتيجية التي ستحصل عليها، بل أميركا وإسرائيل اللتين تنظران إلى الوجود في قوقاز وآسيا الوسطى خطوة جدية على طريق التخلص من النظام في إيران.
وعلى رغم محاولة طهران ابتلاع موقفها السلبي من الدور الذي لعبته باكو خلال الضربة الإسرائيلية التي تعرضت لها في يونيو (حزيران) الماضي، وتغاضيها عن المعلومات المؤكدة عن استخدام تل أبيب الأراضي والأجواء الأذربيجانية في هذه العملية، لكن عودة باكو بقيادة رئيسها إلهام علييف وبدعم من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للإصرار على إحداث هذا المعبر البري، حتى وإن كان من طريق استخدام القوة وفرضه على أرمينيا، يضع طهران ونظامها في موقف البحث عن مخارج وحلول لا تصل حد الخسارة، ولا تدفع باتجاه مزيد من التصعيد في ظل الاحتمالات الكبيرة لدى قياداتها بإمكان تجدد حربها مع إسرائيل.
المساعي الأميركية للدخول المباشر على خط الأزمة الأذربيجانية – الأرمينية، وما يعنيه الوجود العسكري المباشر وإن كان تحت عنوان حماية المصالح الأميركية، يحمل في هدفه الثاني رسالة إلى القيادة الروسية التي قد ترهن موقفها من المشروع بآلية تنفيذه، وهي سترفضه وتعارضه إذا ما كان تحت إدارة واشنطن أو الـ “ناتو”، انطلاقاً من دورها التاريخي في القوقاز ومن أن هذه المنطقة شكلت وتشكل جزءاً من الحديقة الخلفية لموسكو، أما موافقتها أو صمتها التكتيكي فيعتمد على مدى توافقه مع مصالحها الجيوسياسية، وألا يكون الهدف منه عزل إيران والصين.
أما الهدف الثالث لهذه الرسالة الأميركية فهو الصين التي ستعتبر أن الهدف منه هو إضعاف مشروعها الإستراتيجي “الحزام والطريق” في الجزء الخاص ببحر الخزر(قزوين)، بخاصة أن بكين سبق ووقعت عام 2013 اتفاقات تجارية مع أذربيجان وأرمينيا وجورجيا ودول آسيا الوسطى، وبالتالي فان الممر الجديد تحت إدارة وإشراف واشنطن وحمايتها سيكون منافساً للمشروع الصيني، وقد يؤدي إلى السيطرة على جزء من ممرات المواصلات من الشرق إلى الغرب، ويهدد أيضاً مصالح الصين باستثمار الموانئ وسكك الحديد في القوقاز الجنوبي للوصول إلى أوروبا، مما يفتح الطريق أمام منافسة جيوسياسية جديدة في المنطقة.
وفي الخلاصة فإن الطرح الذي كشف عنه توماس براك يشكل خطوة للإدارة الأميركية على طريق محاصرة التحالف الاقتصادي الثلاثي الإيراني والروسي والصيني، لينقل هذه المرة المعركة التي تخوضها واشنطن إلى الحديقة الخلفية لكل واحدة من هذه الدول التي لا شك في أنها ستكون أمام تحدي البحث عن مخارج لإفشال أو تعطيل مفاعيل هذا المشروع.