تورطت سلطة دمشق في مغامرة عسكرية فاشلة في محافظة السويداء تحت هذه الذريعة، كلّفتها خسائر سياسية من الصعب تعويض مفاعيلها، فضلاً عن كلفتها الباهظة على مصير سوريا والسوريين. ونترك جانباً ذرائع إعلام السلطة والمتطوعين للذود عنها «ظالمة كانت أو مظلومة» على سنّة المبدأ العشائري المعروف، من مثل تركيز الهجوم على حكمت الهجري وطلب الحماية من إسرائيل وغيرها من الذرائع المألوفة في البيئات الموالية لأنظمة إجرامية كنظام الأسد المخلوع في شيطنة الخصوم. نتركها جانباً لنركز على المبدأ نفسه وكيف يتم ابتذاله وإفراغه من محتواه الإيجابي وتحويله إلى مجرد أداة لتسويغ الجريمة.
وتقوم هذه الذريعة على مغالطة أساسية مألوفة أيضاً من العهد الأسدي البائد هي إقامة تطابق وهمي بين السلطة والدولة. لنتذكر أن الذريعة التي كان يستند إليها كثير من مؤيدي نظام الأسد الإجرامي لتبرير ولائهم الأعمى هي أنه هو «الدولة»! واقع الحال الآن هو أن دولة جديدة في طور التشكل على أنقاض «دولة الأسد» المزعومة. فلا يمكن الحديث عن دولة قائمة ينبغي الالتفاف حولها ونبذ المصالح والانتماءات الفئوية لمصلحة الانتماء إليها. وجذر المشكلة يكمن في أن المجموعة الحاكمة اليوم، وهي عبارة عن أقلية سلفية جهادية تقودها مجموعة صغيرة ذات بنية عائلية «موثوقة»، تتصرف وتريد من السوريين أن يتعاملوا معها، كما لو كانت هي الدولة.
إن ما حدث في السويداء، منذ منتصف شهر تموز الجاري وما زال، وقبلها في جرمانا وأشرفية صحنايا (نيسان) ومنطقة الساحل (آذار) إنما هي نتائج لرفض مثابر من قبل السلطة لإشراك عموم السوريين في تقرير مصيرهم ووضع أسس الدولة التي يتوقون إليها ويتوحدون حولها بصرف النظر عن هوياتهم الفئوية أو مصالحهم المتباينة، لتتفرد المجموعة الحاكمة بتحديد مصير البلاد وشكل الدولة ومضمونها وعلاقاتها الدولية ونظامها الاقتصادي الاجتماعي وفرض أيديولوجيتها وتصورها لشكل العلاقة بين الحكام والمحكومين، بما في ذلك فرض نوع من التراتبية الاجتماعية الضمنية بين مختلف المكونات الوطنية يهمش ملايين السوريين من حيث المبدأ بسبب انتماءاتهم الدينية أو المذهبية أو الإثنية أو الثقافية. كما اعتمدت المجموعة الحاكمة مبدأ الشوكة والغلبة والعنف في إخضاع من لا يوافقون بدلاً من مبدأ الإقناع والتوافقات والحلول الوسط التي هي أس السياسة. لقد رأينا أتباع هذا المنهج في تشكيل الحكومة الأولى والثانية، وفيما سمي بمؤتمر الحوار الوطني، وفي الإعلان الدستوري، وفي آلية تشكيل المجلس التشريعي المؤقت المزمع تحقيقه بعد أسابيع قليلة.
مبدأ «من يحرر يقرر» الذي أطلقه مؤيدون للسلطة منذ الشهر الأول انطوى على أساس النهج الذي تم اتباعه في الأشهر التالية على سقوط نظام الأسد. والحال أنه انطوى على مغالطة أساسية: ذلك أن قوات ردع العدوان بالكاد خاضت معركة على مشارف مدينة حماة، مقابل تقدمها بلا أي عقبات جدية طوال المسافة من إدلب إلى دمشق. وإذا تركنا جانباً الطيران الروسي الحليف لنظام الأسد، كان بوسع الطيران الإسرائيلي النشط آنذاك أن يدمر تلك القوات قبل وصولها إلى دمشق على غرار ما فعلت بكل تركة نظام الأسد العسكرية بعد فراره إلى موسكو. كما أن الاحتضان العربي والدولي الذي حظيت به السلطة الجديدة في دمشق، على رغم ماضيها الجهادي، يكفي لإفراغ ادعاءات التحرير من مضمونها.
وبصرف النظر حتى عن التوافقات العربية – الدولية التي أوصلت هيئة تحرير الشام لملء فراغ السلطة في دمشق، فإن واقع التفكك الذي نتج عن 14 عاماً من الحرب الداخلية وقبلها نحو نصف قرن من حكم النظام الأسدي، يحتم على السوريين أن يعيدوا تأسيس دولتهم على أسس توافقية يشعر فيها كل السوريين بأنها دولتهم بصرف النظر عن السلطة التي قد تحكمهم في هذه الفترة أو تلك. واقع الحال هو أن المجموعة الحاكمة اليوم قد حظيت بما يشبه القبول العام في أعقاب سقوط نظام الأسد، بما في ذلك الأوساط التي كانت مؤيدة للنظام المخلوع، على رغم توجس فئات واسعة من السوريين من جذورها السلفية الجهادية وتجربتها السلطوية في إدلب. بدلاً من استثمار هذا القبول العام بصورة إيجابية وتحويله إلى هيمنة اجتماعية قائمة على التوافقات، تم إفلات العنان للعنف بدوافع ثأرية أو للإخضاع، فتحولت التوجسات إلى قطيعة وانعدام ثقة.
فإذا عدنا إلى مبدأ «احتكار الدولة للسلاح» لرأينا أن السلطة حاولت، أو تظاهرت بمحاولة، تفكيك الفصائل المشاركة في «ردع العدوان» أو المؤيدة للسلطة الجديدة، منذ الأشهر الأولى، واتخذ قرار بدمج تلك الفصائل في وزارة الدفاع في «مؤتمر النصر» الذي تشكل من قادة تلك الفصائل وقرر اختيار أحمد الشرع رئيساً مؤقتاً للمرحلة الانتقالية. ولكن تلك الفصائل احتفظت ببناها وبسلاحها ضماناً لسيطرتها على «الدولة» الجديدة في كل مفاصلها. في حين تم استثمار تحرك «الفلول» في الساحل وتضخيم حجمها وفاعليتها لتبرير إخضاع السكان بواسطة العنف المنفلت. وبدأ الضغط على فصائل السويداء لتسليم سلاحها، مقابل محاولة الاعتماد على الضغط التركي لإخضاع قوات سوريا الديمقراطية ومطالبتها بالاستسلام تحت يافطة «حصر السلاح في يد الدولة».
الغريب أن السلطة ومؤيديها لم يستخلصوا أي دروس من الهزيمة التي ألحقوها بأنفسهم في «موقعة السويداء» التي كلفتهم قصف إسرائيل لمبنى قيادة الأركان والقصر الجمهوري في قلب العاصمة دمشق، ومهدت الطريق أمام انفصال محافظة السويداء عملياً إذا أمعنا النظر في اتفاق وقف إطلاق النار الذي وقعت عليه السلطة بهذا الخصوص.
الخلاصة أن حصر السلاح بيد الدولة هو مطلب وطني لكل السوريين، ولكن شرطه الشارط هو إقامة دولة أولاً، وليس العمل بكل همة لتفكيك ما هو قائم.