حقوق الأقليات بما في ذلك الدروز ليست مجرد مطلب قانوني بل ضرورة لاستقرار سوريا. الدروز بتاريخهم الثوري وهويتهم المتماسكة يستحقون حماية حقوقهم الثقافية والدينية والمشاركة في إدارة شؤونهم المحلية.
تاريخ طويل من المقاومة
دعوات الدروز لتأسيس “إدارة ذاتية لإقليم جبل العرب” أثارت نقاشًا عميقًا حول حقوق الأقليات ومستقبل سوريا. هذه الدعوات، التي جاءت في سياق انتقالي مضطرب بعد أحداث يوليو 2025 العنيفة، يرى فيها البعض طموحًا مشروعًا لحماية الهوية الدرزية ومواجهة التهميش. ولكنها تثير في الوقت ذاته تساؤلات حول مخاطر التفتيت الطائفي في بلد يعاني أصلًا من انقسامات الحرب الأهلية. يقدم هذا المقال رؤية تدافع عن حقوق الأقليات السورية، وفي مقدمتها الدروز، مع التأكيد على ضرورة الحفاظ على وحدة سوريا الوطنية، من خلال إطار لامركزي يحترم التنوع دون تقسيم البلاد إلى كيانات صغيرة.
الدروز، الذين يشكلون حوالي 3.2 في المئة من سكان سوريا (من 700000 إلى مليون نسمة)، هم طائفة دينية عربية تتبع عقيدة مشتقة من الإسلام الإسماعيلي، مع خصوصيات ثقافية ودينية تميزهم. يتركزون في محافظة السويداء، حيث يشكلون 90 في المئة من السكان، ويمتلكون تاريخًا طويلًا من المقاومة، من الثورة السورية الكبرى (1925) بقيادة سلطان باشا الأطرش إلى رفضهم الهيمنة المركزية خلال الحرب الأهلية. هذا الإرث، إلى جانب هويتهم الاجتماعية المتماسكة التي ترتكز على المجالس العائلية ودور مشايخ العقل، يمنحهم إحساسًا قويًا بالانتماء المحلي.
إعلان “الإدارة الذاتية” في يوليو 2025، الذي وصفه النشطاء الدروز بـ”الثوري”، يعكس هذا الإحساس بالهوية. وجاء كرد فعل على أحداث عنيفة شهدتها السويداء، حيث أدت اشتباكات بين فصائل درزية وعشائر بدوية، مدعومة بتدخل القوات الحكومية والقصف الإسرائيلي، إلى مقتل أكثر من 1400 شخص، معظمهم دروز، ونزوح 176 ألف نسمة. هذه الأحداث عززت شعور الدروز بالتهميش، خاصة مع فشل النظام في دمشق في حمايتهم. تصريحات الشيخ حكمت الهجري، الذي دعا إلى “حماية دولية” ورفض “حكومة اللون الواحد،” تُظهر هذا الشعور العميق بالإقصاء.
◄ سوريا، التي كانت رمزًا للتعايش قبل الحرب، في حاجة إلى إعادة بناء نسيجها الاجتماعي من خلال حوار وطني يحترم التنوع ويرفض التفتيت
حق الأقليات في الحفاظ على هويتها الثقافية والدينية هو مبدأ أساسي في حقوق الإنسان، كما تنص المادة 27 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. في سوريا، التي تضم سنّة (65 في المئة)، علويين (11 في المئة)، دروز (3.2 في المئة)، مسيحيين (5 في المئة)، وأكراد (10 في المئة)، يُعد التنوع الطائفي والعرقي مصدر قوة تاريخي، لكنه تحول خلال الحرب الأهلية إلى مصدر توتر. الدروز، مثل غيرهم من الأقليات، عانوا من التهميش تحت حكومات مركزية متعاقبة، سواء في ظل نظام البعث أو في السياق الانتقالي الحالي. أحداث يوليو 2025، التي شهدت نقصًا في المواد الأساسية مثل الخبز والأدوية، أظهرت هشاشة وضعهم، حيث اضطروا إلى الاعتماد على قوافل مساعدات برعاية أميركية وتركية.
الدفاع عن حقوق الدروز يعني ضمان حقهم في ممارسة شعائرهم الدينية بحرية، الحفاظ على تقاليدهم الاجتماعية، والمشاركة في الحياة السياسية دون خوف من الاضطهاد. هذا الحق يمتد إلى جميع الأقليات السورية، من العلويين الذين يخشون الانتقام في ظل تغيرات سياسية، إلى المسيحيين الذين يواجهون تحديات الحفاظ على وجودهم التاريخي. تجربة الأكراد في “روجافا” (الديمقراطية الكونفيدرالية)، رغم تحدياتها، تُظهر أن منح الأقليات درجة من الحكم المحلي يمكن أن يحمي هوياتهم ويقلل التوترات مع الدولة المركزية.
رغم مشروعية مطالب الأقليات، فإن السعي نحو حكم ذاتي منعزل، كما في إعلان السويداء، يحمل مخاطر كبيرة. سوريا، التي عانت 14 عامًا من الحرب الأهلية، تواجه بالفعل انقسامات جغرافية وسياسية. إذا طالبت كل طائفة بحكم ذاتي، فقد تتحول البلاد إلى دويلات صغيرة (سنيّة، علوية، درزية، كردية، مسيحية)، ما يُضعف الدولة الوطنية ويعرضها لتدخلات إقليمية من قوى مثل إيران، تركيا، وإسرائيل. تقرير الأمم المتحدة (يوليو 2025) أشار إلى أن الوضع الإنساني في السويداء “حرج” بسبب الحواجز الأمنية، ما يُظهر صعوبة إدارة مناطق معزولة دون دعم مركزي.
السويداء نفسها تفتقر إلى المقومات الاقتصادية للحكم الذاتي. على عكس المناطق الكردية، التي تمتلك النفط والمياه، تعتمد السويداء على الزراعة التقليدية (مثل التفاح والعنب)، التي لا تكفي لتأمين الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه. الأزمة الإنسانية الأخيرة، التي شهدت نقصًا في الخبز والأدوية، أظهرت اعتماد المحافظة على المساعدات الخارجية، مثل قافلة 27 شاحنة تحمل 200 طن من الدقيق. كما أن الفصائل الدرزية المسلحة (حوالي 1000 مقاتل) غير قادرة على إدارة منطقة ذاتية أو مواجهة تهديدات مستمرة من العشائر المحيطة أو القوات الحكومية.
الدعم الخارجي، مثل الدعم الإسرائيلي المؤقت، يُضيف تعقيدًا آخر. الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط حذّر من أن هذا الدعم قد يكون فخًا لتفتيت المنطقة، بينما رفض الشيخ سامي أبي المنى أيّ ارتباط بإسرائيل، مؤكدًا أنه يتعارض مع هوية الدروز. هذا الرفض يعكس وعيًا بأن الاعتماد على دعم خارجي ظرفي قد يؤدي إلى تبعية بدلاً من استقلالية.
علاوة على ذلك، فإن الانقسامات الداخلية بين القادة الدروز، مثل الخلاف بين حكمت الهجري، الذي يدعو إلى الحكم الذاتي، ويوسف جربوع، الذي يفضل التنسيق مع دمشق، تُعيق توحيد الجهود. هذه الانقسامات، إلى جانب التحديات الجغرافية (حصار العشائر المحيطة)، تجعل الحكم الذاتي غير واقعي في الوقت الحالي. فالتجربة التاريخية، مثل دولة جبل الدروز تحت الانتداب الفرنسي، تُظهر أن محاولات التقسيم الطائفي فشلت في تحقيق استقرار دائم، وأدّت إلى تعزيز الهيمنة المركزية لاحقًا.
بدلاً من السعي نحو حكم ذاتي منعزل، يمكن للدروز والأقليات الأخرى المطالبة بنموذج لامركزي ضمن إطار دولة سورية موحدة. هذا النموذج يحقق التوازن بين حماية حقوق الأقليات والحفاظ على وحدة الوطن، ويمكن أن يتضمن: منح السويداء صلاحيات إدارية موسعة في التعليم، الصحة، والخدمات المحلية، مع بقائها جزءًا من الدولة السورية. وسن قوانين تحمي الحقوق الثقافية والدينية، مثل الاعتراف بمشايخ العقل كممثلين رسميين للطائفة، والسماح بتدريس التراث الدرزي في المدارس المحلية.
◄ الدفاع عن حقوق الدروز يعني ضمان حقهم في ممارسة شعائرهم الدينية بحرية، الحفاظ على تقاليدهم الاجتماعية، والمشاركة في الحياة السياسية دون خوف من الاضطهاد
هذا إلى جانب دعم الفصائل الدرزية بتدريب وتجهيزات لتكون جزءًا من قوات أمن محلية تحت إشراف الدولة، ما يضمن حماية المحافظة دون تهديد وحدة البلاد. واستثمار الدولة في مشاريع تنموية، مثل تحسين البنية التحتية الزراعية ودعم الصناعات المحلية، لتقليل الاعتماد على المساعدات الخارجية.
هذا النموذج مستوحى من تجارب دولية ناجحة، مثل إسبانيا، التي تمنح مناطق مثل كتالونيا وبلاد الباسك درجة من الحكم المحلي ضمن إطار وطني. في سوريا، يمكن أن يكون هذا الحل وسيلة لدمج الأقليات في مشروع وطني يحترم تنوعها، بدلاً من تقسيم البلاد إلى كيانات ضعيفة.
بريطانيا، كدولة متعددة الأديان والطوائف، تقدم نموذجًا مغايرًا. تضم البلاد مسيحيين، مسلمين، يهودًا، وهندوسًا، لكن فكرة تقسيمها إلى كيانات طائفية تبدو غير واقعية بفضل نظامها الديمقراطي الراسخ. نواب من الأقليات يُمثلون مصالح مجتمعاتهم ضمن البرلمان، بينما تُعزز سياسات التعددية الثقافية التعايش.
في سوريا، حيث أدت الحرب الأهلية إلى انهيار المؤسسات، لا يوجد مثل هذا الإطار، ما يدفع الأقليات إلى البحث عن حلول ذاتية. لكن هذا لا يعني أن التقسيم هو الحل. اتفاق الجمعة العظيمة في أيرلندا الشمالية (1998) يُظهر كيف يمكن للحوار أن يحل الصراعات الطائفية دون تفتيت الدولة.
حقوق الأقليات، بما في ذلك الدروز، ليست مجرد مطلب قانوني، بل ضرورة لاستقرار سوريا. الدروز، بتاريخهم الثوري وهويتهم المتماسكة، يستحقون حماية حقوقهم الثقافية والدينية، والمشاركة في إدارة شؤونهم المحلية. لكن السعي نحو حكم ذاتي منعزل، كما في إعلان السويداء، يحمل مخاطر التفتيت وتفاقم الصراعات. وبدلاً من ذلك، يمكن لنموذج اللامركزية أن يوفر الحل الأمثل، حيث يضمن للدروز وغيرهم من الأقليات حقوقهم ضمن إطار دولة موحدة. اتفاق وقف إطلاق النار في يوليو 2025، الذي شمل لجان مراقبة مشتركة، يُظهر إمكانية التعاون بين الدولة والأقليات.
سوريا، التي كانت رمزًا للتعايش قبل الحرب، في حاجة إلى إعادة بناء نسيجها الاجتماعي من خلال حوار وطني يحترم التنوع ويرفض التفتيت. الدروز، كجزء من هذا النسيج، يمكنهم أن يكونوا جسرًا لبناء سوريا جديدة، موحدة وقوية، تحترم الجميع.