عادت إسرائيل إلى التصعيد العسكري على وقع العد العكسي لمهلة المبعوث الأميركي توم باراك، واضعة لبنان أمام معادلة النار والضغوط المتعددة الأوجه: إمّا نزع سلاح “حزب الله”، أو استمرار الغارات والتهديدات. لكن بيروت الرسمية، بقيادة رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، قررت أن لا تفتح أبواب المواجهة المباشرة ولا أن تنخرط في مسارات الاستسلام الكامل، بل أن توزّع أدوار الرد والتطمين، بين موقف سيادي يكرّس حصرية السلاح بالدولة، وخطاب ديبلوماسي يطمئن الحزب وبيئته.
في الجنوب والبقاع، حلّقت الطائرات الحربية الاسرائيلية، وأغارت على مواقع قيل إنها تضمّ منشآت لصناعة الصواريخ ومعدات لـ”حزب الله”. وأعلنت تل أبيب، بلسان وزير دفاعها يسرائيل كاتس، أنها لن تتوانى عن سحق أي محاولة من الحزب لإعادة ترميم بنيته العسكرية، محمّلة الحكومة اللبنانية مسؤولية “الخرق” المزعوم لاتفاق وقف النار. توقيت الغارات لم يكن عشوائياً، بل جاء متناغماً مع المهلة التي حدّدها باراك لبيروت: إمّا التزام صريح بنزع السلاح، أو ترجمة رد اسرائيل على طريقتها.
في المقابل، لم يختبئ لبنان الرسمي خلف الصمت، بل خرج رئيس الجمهورية بخطاب استثنائي يمكن وصفه بـ”قسم رئاسي ثانٍ”، وضع فيه خريطة طريق واضحة لتطبيق القرار 1701 وتثبيت سلطة الدولة، رامياً الكرة في ملعب الحكومة والوزراء كافة. عون لم يتردّد في تأكيد حصرية السلاح بيد الجيش، لكنه قرنها بشروط سيادية، تبدأ بوقف العدوان الاسرائيلي، وانسحاب قوات الاحتلال، وإطلاق الأسرى. بكلامه هذا، منح “حزب الله” مخرجاً مشرّفاً من مأزق السلاح، ووضع الخصوم السياسيين أمام واقع جديد: لا مزايدات، بل جدول زمني تدريجي مدعوم بضمانات دولية وعربية.
خطاب عون لم يكن فقط بمثابة احتواء سياسي لانقسام وزاري كان يهدد بتفجير جلسة الحكومة المقبلة، بل جاء في توقيت استثنائي لطمأنة “حزب الله” وبيئته، بأن الدولة ليست أداة بيد الخارج، بل شريكة في مواجهة العدوان، وأن السلاح – حين يسحب – لا يُسلَّم إلى إسرائيل، بل إلى المؤسسة العسكرية الوطنية.
وفي موازاة الاشتباك بين الغارات والخطابات، كان مجلس النواب يكرّس لحظة إصلاحية مفصلية، بإقراره مشروعي تنظيم القضاء العدلي وإصلاح المصارف. قانونان لطالما وُضعا في أدراج التسويف والتجاذب، لكن مرّا – هذه المرة – بشبه إجماع، في رسالة مزدوجة إلى الداخل والخارج بأن لبنان لا يكتفي بالوعود، بل يسعى الى تفعيل مؤسساته وإنقاذ نظامه المالي المهترئ. غير أن النقاش حول مشروع المصارف لم يخلُ من سجال دستوري وسياسي حاد، وسط تخوف من التباسات قانونية تُفقد النص صلابته، وتطيح حقوق المودعين لمصلحة المصارف والنظام الريعي نفسه.
أما في الكواليس السياسية، فالحراك الأميركي لا يزال في صلب المشهد، وسط ترقّب لرد فعل توم باراك على الخطاب اللبناني الموحّد نسبياً، الذي تمثّل في موقف الرؤساء الثلاثة، وفي تطابق شبه تام مع خطاب عون الأخير. هنا، يصبح السؤال المركزي: هل يقبل باراك بالتدرّج اللبناني أم يتمسّك بتسليم فوري وشامل للسلاح؟ وهل تكون الغارات الأخيرة مجرد “رسالة ضغط”، أم تمهيد لمرحلة تصعيد أوسع إذا لم يُلبّ لبنان الشروط الأميركية؟
الوقائع تشير إلى أن معادلة السلاح لم تعد من اختصاص “حزب الله” وحده، بل باتت بنداً سيادياً بامتياز، تقوده الرئاسة، وتواكبه الحكومة، ويشارك البرلمان في بلورة مناخه التشريعي. وللمرة الأولى منذ سنوات، يبدو أن ميزان القوى السياسي قد نجح – ولو مرحلياً – في خرق جدار الجمود، عبر التأسيس لمسار لبناني داخلي، قد لا يلبّي كل شروط واشنطن وتل أبيب، لكنه يحصّن البلاد من الانفجار، ويمنح الحزب فرصة للانسحاب المنظّم من “معركة السلاح”، من دون أن يظهر كمن خضع أو استُسلم له.
باختصار، بين غارات إسرائيل وخرائط الطريق اللبنانية، ولدت معادلة جديدة عنوانها: لا سلاح خارج الدولة، ولكن بشروط الدولة… لا بشروط العدو.