في 31 يوليو 2025، زار وفد من الحكومة السورية الجديدة برئاسة وزير الخارجية أسعد الشيباني ووزير الدفاع مرهف أبو قصرة العاصمة الروسية موسكو، في خطوة وُصفت رسميًا بأنها “تاريخية” و”انفتاح جديد على موسكو”. غير أن هذه الزيارة، بدلًا من أن تُحدث اختراقًا حقيقيًا نحو السلام الداخلي والعدالة السياسية، أثارت مخاوف وشكوكًا متصاعدة لدى شرائح واسعة من السوريين، خصوصًا المكونات المهمشة تاريخيًا كالكرد، بشأن نوايا الحكومة الانتقالية وعمق تحررها من إرث النظام السابق
-تجديد الولاء تحت غطاء السيادة؟
اللقاء مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدا أقرب إلى محاولة “تجديد البيعة” مع الكرملين، ولكن هذه المرة بثوب انتقالي. ففي الوقت الذي تطرح فيه شعارات “السيادة” و”الاستقلال الوطني”، تَظهر الزيارة كتكريس لاستمرار الوصاية الروسية على القرار السوري. لم يُعلن عن أي مراجعة جدية لاتفاقيات القواعد العسكرية الروسية أو العقود المجحفة التي وُقعت خلال حرب الأسد ضد شعبه. وبهذا، تُفقد الحكومة الانتقالية مصداقيتها كمشروع إنقاذ وطني
-تجاهل القضية الكردية وواقع الإدارة الذاتية
واحدة من أبرز الإشارات السلبية في هذه الزيارة كانت تجاهل للوجود السياسي الفعلي للإدارة الذاتية الكردية في روج افا ، التي تُعد اليوم أحد أكثر النماذج استقرارًا وتنظيمًا مقارنة بالفوضى التي تعم باقي المناطق. لم تتطرق التصريحات الرسمية لا من موسكو ولا من دمشق إلى أي آلية للحوار أو الاعتراف بهذا الكيان الذي يدير مناطق واسعة من البلاد، بل وُضِعَت كل المشاريع الخارجة عن “مركزية الدولة” في خانة “الانفصال”، وهو طرح يعكس عقلية النظام القديم.
هذا الإقصاء يُثير شكوكًا حقيقية حول نوايا الحكومة الانتقالية تجاه الشعب الكردي، ويعزز القناعة بأن دمشق ما زالت تتعامل بعقلية “إنكار الآخر”، ما قد يُفضي إلى مزيد من التوتر والانقسام.
_مقايضة بين الاستقرار الظاهري والاستبداد الخفي
تسعى موسكو لدفع الحكومة الانتقالية إلى تمثيل “الدولة القوية” في مواجهة التفكك. ولكن على أرض الواقع، ما يُقدَّم من دعم عسكري أو إعادة إعمار يُشبه في جوهره دعمًا لبناء دولة أمنيّة جديدة تُعيد إنتاج البنية القمعية، ولو بأسماء مختلفة. وفي هذا السياق، فإن أي تقدم ميداني أو دبلوماسي يتم دون إعادة هيكلة سياسية شاملة—تشمل الكرد، العرب، الدروز والعلويين—لن يكون إلا تكريسًا لصيغة مغشوشة من “الانتصار”.
-انعكاسات الزيارة على المشهد الميداني،
بدلاً من أن تفتح هذه الزيارة أفقًا لحوار وطني شامل، ستُستخدم من قبل الأطراف المتشددة في الحكومة كذريعة لتبرير الإقصاء والتجييش. قد تؤدي إلى مزيد من التصعيد مع القوى الكردية التي ستشعر مجددًا بأنها مستهدفة من قبل “دولة المركز” المدعومة من موسكو، وهو ما قد يفتح الباب أمام توترات عسكرية وسياسية في الحسكة والرقة ودير الزور.
كما أن الصمت الروسي عن انتهاكات حقوق الإنسان في السويداء وإدلب وشرق الفرات سابقا، يثير تساؤلات عن مدى جدية موسكو كطرف راعٍ للسلام، بل أنها ما تزال تعتبر سوريا ساحة نفوذ لا أكثر.
_ فرصة ضائعة للعدالة الانتقالية.
زيارة الوفد السوري إلى موسكو، بقدر ما تحمل من طموح رسمي للانفتاح، فإنها تعكس استمرارية خطيرة في السياسات الإقصائية. ومن دون مراجعة جذرية للنهج الأمني المركزي، والاعتراف السياسي الحقيقي بالإدارة الذاتية الكردية، فإن الدولة السورية الجديدة قد لا تكون أكثر من “نظام قديم بأقنعة جديدة”.
الشعب الكردي في سوريا، ومعه سائر القوى الديمقراطية، بحاجة إلى ضمانات سياسية ودستورية واضحة، لا إلى لقاءات بروتوكولية تُجمّل مشروع إعادة بناء الاستبداد. وما لم يتم إشراك كل السوريين في رسم مستقبل البلاد، فإن أي اتفاق مع موسكو أو غيرها سيكون هشًا وقابلًا للانفجار .