ماذا فعلت الحكومة السورية المؤقّتة بإعلانها حرباً على السويداء، غير أنها نفّذت خطّةً إسرائيلية ما فتئت حكومة نتنياهو تعمل عليها منذ سقوط نظام الأسد، وتقوم على إحداث شرخ بين المكوّنات السورية، وتحوّل إسرائيل الأمَّ الحنون للأقلّيات في سورية، تمهيداً لتقسيم البلد إلى كانتونات طائفية وقومية، وتغيير المعادلات في المنطقة إلى الأبد؟
في السويداء اليوم، يُخوّن كلّ صوت يدعو إلى التحاور مع حكومة دمشق، الرأي العام في المحافظة متوتّر وموتور، إذ تعتقد الأغلبية أنه لم يعد ممكناً التعايش مع السُّنة في سورية بعدما جرّدت العشائر السُّنية آلاف المقاتلين لذبحهم، وثمّة كثر في السويداء يرغبون بأن تكون تل أبيب وجهتهم، لا دمشق، وبعضهم يتوسّط دروز إسرائيل لإقناعها بهذه الفكرة ومزاياها، التي ستدرّ على إسرائيل فوائدَ أمنية وسياسية عديدة. في الجهة المقابلة، هناك رأي عام سنّي يشعر بالخيبة والإحباط والحقد على سويداء حكمت الهجري، التي غدرت بأولادهم الذين دخلوا بلباس الأمن العام لفضّ النزاع لا محاربين، ثمّ استدعاء إسرائيل التي قتلت عشرات من العناصر بذريعة حماية السويداء، واستهداف السيادة السورية عبر ضرب مبنى الأركان، أحد أكثر الرموز السيادية أهميةً. ولكن أيضاً ثمّة احتقان ضدّ حكومة دمشق لأنها لم تستطع إدارة الأزمة باحترافية، وعكّرت المزاج السنّي المحتفل بالانتصار منذ بداية العام، فضلاً عن أنها منحت الهجري وجماعته انتصاراً مجّانياً لا يعكس موازين القوى الحقيقية، ويفتح الباب أمام حروبٍ جديدة قد تقوم بها أطراف سورية أخرى ترفض الاندماج في الدولة.
ارتكبت إدارة دمشق خطأ فادحاً في انجرارها إلى الحرب مع السويداء، فهي صنعتْ من الهجري ندّاً وسلطةً موازيةً لسلطتها، وجعلته ممثّلاً، بحكم الأمر الواقع، لغالبية الطائفة الدرزية، وبذلك قُضي على الأصوات المدنية في المحافظة، كما جعلت سلطة دمشق من “المجلس العسكري” (ذي التوجّهات المشبوهة) الفاعل الأمني الأساس في المحافظة، بعد إخراج القوى الوطنية المعتدلة مثل ليث البلعوس من المعادلة، وتصويره خائناً لطائفته ومحافظته. كان لافتاً، منذ البداية، أن الهجري يشتغل ضمن مخطّط مكشوف، فقد عمل على مدار الشهور السابقة في استنزاف قدرة الدولة على التفاوض معه، وأغلق جميع المنافذ لإمكانية التفاهم معها، ورفض التفاهمات الأمنية مع حكومة دمشق مراهناً على إسرائيل. وبالفعل، أجهض كلّ محاولات جسر الهوة بين دمشق والسويداء، ورفض أيّ تعامل مع الحكومة المؤقّتة، واصفاً إياها بالتكفيرية والإرهابية. كان على سلطة دمشق أن تدرك هذه اللعبة، وأن تدرك أيضاً شبكة العلاقات التي بناها الهجري مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والدفع الذي قامت به الأخيرة لإيصال الأمور إلى هذا المستوى الساخن من الصراع. والواقع أن الإدارة الكردية راهنت على ما حصل في السويداء لتتخلّص من الضغط الأميركي للاندماج في هياكل الدولة السورية، والتذرّع بعدم تسليم السلاح بحجّة أن الأقلّيات باتت في خطر، في ظلّ سياسات الرئيس أحمد الشرع وإدارته للعلاقة مع المكوّنات السورية الأخرى.
عزّزت أزمة السويداء نفوذ الفواعل المحلّية بديلاً من السلطة المركزية، بل ذهبت الأمور إلى حدّ تشكيل مراكز القرار في المحافظة بعيداً من الحكومة السورية، وليس ثمّة في الأفق ما يشي بتغيير المعادلة الراهنة، في ظلّ حالة غير مسبوقة من الاستقطاب والاستعصاء السياسيَّين. وتكمن خطورة الأمر في احتمال أن تقدم الجهات الفاعلة في السويداء على تشكيل هياكل حكم محلية، على المستويَين الأمني والمحلّي، وتتحوّل تجربةً مقبولةً دولياً، وقابلةً للتطبيق في غالبية المناطق السورية، وهو ما يعني (في ظلّ الأوضاع الحالية) ذهاب سورية إلى ما يشبه حالة يوغسلافيا عشيّة تقسيمها. ما حصل في السويداء يمكن تسميته “التأثيث للفيدرالية”، وقد تجلّى الأمر بوضوح عبر تهجير البدو من المحافظة، وهو ما يشبه عمليات التطهير العرقي التي كانت تسبق أو تتوازى مع حالات ذهاب الدول نحو التقسيم. وإذا ما أضفنا إلى ذلك “الفيتو” الإسرائيلي، الذي يمنع قوات الحكومة السورية من الانتشار في جنوب سورية، تصبح صورة المشهد أكثر وضوحاً، في ظلّ حالة من السعار الطائفي التي تسري في عموم سورية، وترفض أيّ صوت يدعو إلى التفاهم والحفاظ على وحدة البلاد.
هل كان من الممكن التعامل بمقاربة مختلفة مع الوضع في السويداء؟… أكيد، لو أن حكومة دمشق تراجعت عن خطواتها في إعادة تنظيم الدولة، أو تشكيلها، التي لم تلق قبولاً من مكوّنات سورية كثيرة، ولا سيّما الإعلان الدستوري وتشكيل الحكومة، وقد بدا واضحاً أن هذه الخطوات تهدف بدرجة كبيرة إلى احتكار السلطة والقرار في سورية بيد جهة معيّنة، ولا تصلح لإدارة بلد ينطوي على حساسياتٍ عرقيةٍ وطائفية وتعقيدات أنتجتها سنوات الحرب المديدة، لو فعلت دمشق ذلك، وهو أمر ما زال ممكناً، عبر إشراك أوسع للسوريين في صناعة المشهد السوري المقبل، لضمنت تعزيز الخطّ الوطني وتقوية حضوره وفاعليته في مواجهة الأطراف الداعية للانفكاك عن الدولة السورية، وأغلقت باب الذرائع أمام إسرائيل، وغيرها، للعبث بالمعادلات السورية، وصناعة واقع جديد يضع الوطن السوري في مهبّ الرياح.