لم يكن وليد جنبلاط طيفًا عابرًا في الحياة السياسية اللبنانية، بل ظلّ على مدى أربعة عقود أحد أبرز أركان المعادلة الداخلية، ومرآة دقيقة للتحولات الإقليمية. هو ابن المختارة، نعم، لكنه أيضًا ابن اللحظة والظرف، يقرأ مزاج الريح كما يقرأ مزاج الجبل، ويتقدّم حين تتعثر الأقدام، وينسحب حين يستدعي البقاء التراجع.
عندما اغتيل كمال جنبلاط عام 1977، انتقل العبء إلى الابن الشاب. لم يرث الزعامة على الطريقة التقليدية، بل بدا وكأنه يعيد كتابتها من جديد. لم يتبنَّ أطروحات والده بالكامل، لكنه لم ينقضها، بل أنشأ بينه وبينها مسافة تأمل. كان عليه أن يواجه فراغ الأب، وأن يُرمم البيت من الداخل قبل الخروج إلى الخطابة في الخارج.
بين الزعامة والإرث: التقدير لا الاستنساخ
كمال جنبلاط لم يكن مجرد زعيم سياسي، بل كان مشروعًا فلسفيًا، قوميًا، اشتراكيًا، قلقًا. إرث يصعب حمله كاملاً دون الانكسار تحت ثقله. اختار وليد جنبلاط أن يُدير هذا الإرث لا أن يُؤلهه. صاغ موقعه من الدولة والطائفة والحزب كمن يدير أزمة ممتدة، لا كمن ينتظر الخلاص الكبير.
اختلف مع الجميع، وتحالف مع الجميع، لكنه احتفظ بمعيار أساسي: ما يُبقي على الحد الأدنى من الاستقرار. لم يكن حالمًا، بل حريصًا. لم يكن متمردًا، بل موازنًا. وهذا ما جعل حضوره السياسي أشبه بخط التماس بين الفوضى والنظام.
من الحرب إلى الدولة: رجل التوقيت الدقيق
خلال الحرب الأهلية، قاد جنبلاط الجبل في ظروف شديدة التعقيد، لكنه لم يتورّط في مشاريع تقسيمية، وبدا كمن يسعى إلى عبور النفق لا الإقامة فيه. أيد اتفاق الطائف بوضوح، لأنه فهم مبكرًا أن الطوائف الصغيرة لا تعيش إلا في ظل دولة ولو ناقصة، وأن الانخراط في الدولة هو ضمان للبقاء، لا مجرد خيار سياسي.
قرأ التحولات قبل وقوعها، انسحب من تحالفات قبل أن تنهار، غادر الميدان حين أصبح الميدان مقبرة للآخرين. هذه القدرة على الانسحاب قبل الانهيار، ميّزت تجربته عن كثير من زعامات الحرب وما بعدها.
من المختارة إلى السويداء: الامتداد الطبيعي للهوية
السويداء ليست تفصيلًا في وجدان وليد جنبلاط. العلاقة مع دروز سوريا، تاريخيًا، كانت جزءًا من معمار الهوية لا من المناورة السياسية. حين تحرّك أهل الجبل السوري مطالبين بلقمة وكرامة، لم يندفع جنبلاط إلى خطاب تعبوي، بل دعا إلى الحكمة والتأني، كما لو أنه يُخاطب نفسه قبل جمهوره.
علاقته مع آل الأطرش، وتقديره لسلطان باشا، ليست شعارات تذكارية، بل امتداد لنهج يضع وحدة الطائفة فوق الحسابات، دون أن يسقط في العصبية أو الحنين الخالي من السياسة.
الصمت كصيغة فعل: حين ينسحب الزعيم
منذ سلّم قيادة الحزب لنجله تيمور، بدا أن وليد جنبلاط خرج من الواجهة. لكن المتابع يلاحظ أن ابتعاده لا يعني الغياب. رسائله مستمرة، عبر إشارات متقطعة، ومواقف موجزة، ومقابلات انتقائية. لا يكثر من الكلام، لكنه يُجيد اختيار اللحظة. وهو حين يعلّق، يُحرّك الماء الراكد، لا ليثير العاصفة بل لينبّه السفينة.
الزعامة ليست دائمًا في الموقف العالي، بل أحيانًا في لحظة الصمت الدقيقة، حين يُترك الفراغ ناطقًا باسم الخبرة. وهذا ما يُتقنه جنبلاط بامتياز، منذ أن اختار العقلانية بدل الحسم، والمهادنة بدل التصعيد.
جمهور متقلب… وثقة تُستعاد دائمًا
ليس جمهور جنبلاط جمهورًا عاطفيًا بالمطلق، لكنه جمهور قلق، يتفاعل مع اللحظة، ويطالب بالموقف الحاسم. ولأنه كذلك، كثيرًا ما سبقه الغضب، ثم لحقته الثقة بعد حين. تكرّر ذلك في أكثر من محطة: من الطائف، إلى 14 آذار، إلى انقلاب التحالفات. وفي كل مرة، بدا أن حسابات الزعامة كانت أعمق من الانفعال.
الزعامة ليست في استرضاء الجمهور كل مرة، بل في دفعه إلى إدراك أن القرار أحيانًا يُؤخذ ضد الرغبة، لكنه لحماية الجماعة. وهذا ما نجح فيه جنبلاط مرارًا، وإن بثمن شخصي باهظ.
الحزب… الهوية المؤجلة
قاد جنبلاط حزبًا يحمل اسم الاشتراكية، لكنه لم يسعَ لتطبيق النموذج الحزبي المؤسسي الكامل. بقي الحزب إطارًا سياسيًا مرنًا، أكثر منه جهازًا أيديولوجيًا. وهذا أحد وجوه الانتقاد لتجربته. لكن المتابع يعلم أن تركيب لبنان لا يسمح لحزب عقائدي أن يعيش طويلًا دون أن يتورّط أو يتكسر.
حافظ الحزب التقدمي على هويته العلمانية، دون أن ينفصل عن الطائفة. وكان ذلك توازنًا صعبًا، لا يُرضي الجميع، لكنه منع الانزلاق إلى التطرف أو التفكك.
تجربة شخصية في زمن الاختبارات الكبرى
من يعرف وليد جنبلاط شخصيًا، أو تابع مسيرته عن كثب، يُدرك أن الرجل لا يشتغل بالسياسة كوظيفة، بل كتجربة وجودية. يمزج فيها القلق بالقراءة، والذاكرة بالموقف. وفي أحلك الظروف، لم يتورّط في متاهة الخطاب العالي. بقي على مسافة من التهور، لكنه لم يسقط في السلبية.
هو من جيلٍ نجا من الحرب ولم يُصب بالعمى السياسي. رجل أحاطته التحولات، لكنه لم يتوقف عن النظر، أو المساءلة. وهو اليوم في ظلّ مشهد مأزوم، يبدو كأنه يُراكم الحكمة لا لأجل المناورة، بل لتسليمها في الوقت المناسب.
خاتمة: زعامة بحجم التوازن المستحيل
وليد جنبلاط ليس سياسيًا عاديًا. هو ابن تجربة قاسية، ونظام هشّ، وطائفة قلقة. لم يُخدع بشعارات البطولة، ولا ارتضى الانكفاء الكامل. بقي بينهما: يُمسك بخيط الزعامة، دون أن يدّعي امتلاك الحقيقة.
من المختارة إلى السويداء، ومن الحرب إلى الانهيار، بقي حضوره بمثابة بوصلة. لا تُشير دومًا إلى الاتجاه المنتصر، لكنها تُنذر دائمًا بالهاوية المقبلة. وهذا وحده، في بلد مثل لبنان، زعامة تستحق أن تُفهم بعمق، لا أن تُختصر بكلمة عابرة.