تعتبر تركيا لاعباً بارزاً ومحورياً في التطورات التي شهدتها سوريا منذ تأسيس الدولة السورية الحديثة بعد اتفاقية سايكس – بيكو، وانتهاء الانتداب الفرنسي، ومرت العلاقات بين البلدين بتعرجات كثيرة وشابها الكثير من الفتور والتوتر والتقارب الحذر، رغم الحدود المشتركة على طول أكثر من 900 كلم، إلا أن الفترة الحالية التي أعقبت سقوط نظام بشار الأسد أواخر العام الماضي، توصف بالأكثر تحالفاً بعد وصول أطراف مقربة من أنقرة إلى سدة الحكم في دمشق.
توترات وتقارب حذر
منذ وصول حافظ الأسد إلى الحكم في سوريا منتصف ستينيات القرن الماضي، وتقاربه المعلن مع الاتحاد السوفييتي، أصبحت التوترات والتنافر سيد المشهد بالعلاقات بين سوريا وتركيا التي كانت قد أصبحت ضمن حلف شمال الأطلسي (الناتو) وتقاربت مع الغرب الذي هو على خصومة مع موسكو.
وبقيت العلاقات على ما هي عليه حتى العام 1998، عندما هددت أنقرة وحشد رئيسها آنذاك سليمان ديمريل قواته على الحدود السورية مطالباً سلطاتها بتسليم قائد “حزب العمال الكردستاني” عبدالله أوجلان المتواجد على أراضيها، لترضخ دمشق ويتم على إثر ذلك ترحيل أوجلان إلى كينيا وتوقيع “اتفاقية أضنة” التي سمحت للقوات التركية بالتوغل خمسة كيلومترات داخل سوريا لملاحقة أي “تهديد لأمها القومي” وبنود أخرى، ووصفت بأنها “فرض إملاءات” على السلطات السورية.
اقرأ أيضاً: أردوغان: الشرع اتخذ موقفاً “حازماً” في السويداء وتركيا لن تترك سوريا وحدها – 963+
حكم بشار الأسد واندلاع الاحتجاجات
بعد استلام بشار الأسد للسلطة خلفاً لأبيه عام 2000، شهدت العلاقات تقارباً حذراً، لكن العام 2007 يعتبر نقطة التحول في العلاقات حيث شهدت انفتاحاً كبيراً وتوقيع العديد من الاتفاقيات التجارية والاستثمارية المشتركة وفتحت المعابر الحدودية أمام مواطني البلدين لزيارتهما، وزار الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان الذي كان حينها لا يزال يشغل منصب رئيس الوزراء، العاصمة السورية دمشق ومدينة حلب شمالي البلاد والتقى الأسد، وأصبح البلدان يوصفان بالحليفين، رغم تحالف دمشق مع طهران وموسكو حينها، فيما يمكن وصفه بــ”علاقات متوازنة” مع الأطراف الإقليمية والدولية، في إطار توجهات تفرضها ضرورات المرحلة.
لكن اندلاع الاحتجاجات الشعبية في سوريا ضد نظام بشار الأسد عام 2011، كان نقطة التحول والمنعرج في هذه العلاقات، حيث أعلنت أنقرة منذ اليوم الأول للحراك دعمها له، ودعت السلطات السورية للاستجابة لمطالب المحتجين، وحذرتها من اللجوء للعنف في مواجهتهم، قبل أن تندد بشكل علني بهذا العنف وتصفه بانتهاكات لحقوق الإنسان وتنخرط في سياسة رفض وجود هذا النظام وقطع العلاقات معه بشكل كلي، في انقلاب واضح على السياسات القديمة، وسط تساؤلات بشأن ما إذا كان ذلك دعماً ووقوفاً إلى جانب الشعب السوري الثائر ضد الأسد، أم محاولة البناء على مرحلة جديدة تقود إلى تغيير قواعد السيطرة والنفوذ في المنطقة، يكون لأنقرة فيها موطئ قدم كبير.
دور سلبي
يوضح الكاتب والباحث السياسي ماجد علوش المقيم في مدينة غازي عنتاب التركية، أن “الدور التركي في سوريا لم يكن إيجابياً منذ تشكل الدولة السورية، وشجعت أنقرة الاتجاهات التي تدين العرب، وكان من نتيجة ذلك اضطرار القيادات السياسية والعسكرية السورية للتوجه إلى إقامة وحدة مع مصر بدون شروط لتجنب الضغط التركي، ووصلت العلاقات بين البلدين لدرجة السخونة حين هددت تركيا باجتياح شمالي سوريا أواخر تسعينيات القرن الماضي، لكن مع وصول حزب “العدالة والتنمية” للحكم في تركيا ووصول بشار الأسد لحكم سوريا، تحسنت العلاقات كنتيجة لمحاولات السلطة السورية اتباع سياسات تهدئة، واستدارة أنقرة شرقاً ومحاولة إعادة الصلات مع العرب”.
ويقول علوش لـ”963+”، إن العلاقات السورية التركية خلال السنوات الأولى لحكم بشار الأسد يمكن تسميتها بـ”شهر العسل”، وتم توقيع اتفاقيات اقتصادية حملت نتائج سلبية على الوضع الاقتصادي السوري عمق من الخلاف بين النظام والقوى الاقتصادية الفاعلة، لكن بعد انطلاق الثورة السورية تغيرت الأوضاع، ويمكن القول إن القيادة التركية تختزن سراً نزوعاً نحو استعادة السلطة القديمة، لكن مع تعثر الثورة السورية وتراجع حظوظ الإخوان المسلمين في المنطقة، حاولت الحكومة التركية إحداث اختراق بالوضع السوري، فاشتركت مع روسيا وإيران في محاولات إيجاد مخرج للاستعصاء السوري واستجدت بشار الأسد على أمل إيجاد حل يمكنها من الحفاظ على قدر من النفوذ”.
اقرأ أيضاً: “ميدل إيست آي”: أردوغان نصح الشرع بعدم الانخراط في الصراع الإسرائيلي – الإيراني – 963+
تدخلات عسكرية مباشرة
وتحوّل الدعم التركي وما تبعه من استقبال ملايين اللاجئين السوريين الفارين من العنف في بلادهم، إلى تدخلات عسكرية مباشرة عبر دعم فصائل مسلحة معينة إثر تحول الحراك الشعبي إلى صراع مسلح تدخلت فيه أطراف عديدة بينها روسيا وإيران اللتان دعمتا نظام الأسد، إلى جانب تدخل أنقرة لاحقاً بقوات عسكرية في عدة مناطق سورية وإنشاء قواعد عسكرية لا تزال قائمة حتى الآن، وتتحول إلى أحد الأطراف الأساسية الفاعلة والمؤثرة في مسار الأحداث إلى جانب موسكو وطهران، وأصبحت الأطراف الثلاثة راعية لاتفاقيات عسكرية فيما بينها بشأن الانتشار العسكري لقوات النظام وفصائل المعارضة، وعمليات الهدنة التي يتم توقيعها عبر “مسار أستانا” الذي بدأ أعماله منذ العام 2015.
وقادت تركيا 3 عمليات عسكرية في شمال سوريا عبر فصائل “الجيش الوطني السوري” المدعوم منها، بدءاً من عملية “درع الفرات” في منطقتي الباب وجرابلس شرقي حلب عام 2016 ضد تنظيم “داعش”، وعمليتي “غصن الزيتون” بمنطقة عفرين شمال غربي حلب، و “نبع السلام” بمنطقتي رأس العين/ سري كانييه وتل أبيض بريفي الحسكة والرقة شمال شرقي البلاد ضد قوات سوريا الديموقراطية (قسد)، عامي 2018 و 2019، لتؤكد أنها أصبحت طرفاً أساسياً في الصراع الذي تشهده البلاد، وبرزت انعكاسات ذلك من خلال إجراءات لاحقة للعمليات العسكرية تمثلت ببدء التعامل بالليرة التركية وتعيين مقربين منها في المجالس المحلية وغيرها من الإجراءات الإدارية والمؤسساتية والأمنية والعسكرية.
لكن سقوط نظام بشار الأسد مطلع كانون الأول/ ديسمبر الماضي، والذي كانت السلطات التركية قد بدأت بالتقارب معه ومحاولة استعادة العلاقات الديبلوماسية تخلل ذلك لقاءات عديدة بين مسؤولين من الطرفين في روسيا وكازاخستان، يمثل وفق أغلب المحللين، نقطة تحول كبيرة بمسار الدور التركي في سوريا، مع وصول فصائل مسلحة معارضة إلى الحكم في دمشق، وبدء مرحلة جديدة من العلاقات مع الدول العربية والإقليمية، وأوفدت أنقرة بشكل فوري وزير خارجيتها هاكان فيدان، ورئيس جهاز الاستخبارات إبراهيم كالن، للقاء الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، فيما بدا أنه توجه للانخراط في تحالف رسمي وعلني وعلى أعلى المستويات، متجاوزاً مرحلة الدعم الذي كانت تقدمه تركيا على مدى السنوات الماضية لفصائل المعارضة المسلحة.
تصورات السياسة التركية
ويرى علوش، أن “القوة التي دخلت دمشق بعد سقوط نظام بشار الأسد، هي ذات بنية دينية لها علاقة سرية مع أنقرة، إلا أنها لا ترى ضمنياً على الأقل، أن تركيا ممثلاً مقبولاً للإسلام، كما أنها لم تكن الوحيدة في إسقاط الأسد، لذلك فأنقرة تدرك أن البنية الإيديولوجية الجديدة في سوريا لا تضمر ارتياحاً لها، إضافةً لعجزها عن إنقاذ سوريا المدمرة، مقابل قدرة العرب والأوربيين، لذلك السياسة التركية تقوم على عدة تصورات أهمها الوعود بتقديم الدعم العسكري الذي يصعب تحقيقه خلال هذه المرحلة بسبب الرفض الإسرائيلي وعدم الارتياح العربي للشكل المزمع تقديمه عبره، والقائم على إنشاء قواعد عسكرية ثابتة، وإبداء دعم سياسي للإدارة الجديدة، لكن في الحدود التي لا تكرر التجربة التركية في ليبيا والتي كلفت الكثير دون تحقيق نتائج ملموسة”.
ويشدد، على أن “تركيا تعرف الآن أن مساحة الحركة في سوريا ليست بالسعة التي تتمناها، وربما تضيق أكثر مع الوقت ومع تمكن القيادة السورية الجديدة من تجاوز المراحل الصعبة، لذلك يتوقع أنها تجهز ذراعاً سورياً أكثر موثوقية يحفظ لها نفوذاً ما في سوريا، والمقصود هنا هو المجلس التركماني السوري”.
ويتوقع أن تذهب العلاقات إلى تحالف على المستوى الأمني والعسكري رغم التوجس والتحذيرات الإسرائيلية، والتوجه الذي تبديه الحكومة السورية الجديدة للعودة إلى الحضن العربي والتحالف مع دول الخليج برئاسة السعودية تحت رعاية أميركية، حيث قالت وزارة الدفاع التركية الأسبوع الماضي، إن الحكومة السورية طلبت دعماً من تركيا لمكافحة التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها تنظيم “داعش”، وأن أنقرة تواصل جهودها من أجل تقديم وتدريب القوات السورية، وتقديم الاستشارات والدعم الفني لتعزيز القدرات الدفاعية السورية، فيما يؤسس لمرحلة جديدة من العلاقات والنفوذ التركي في سوريا، يتوقع معه أن تبقى أن متصدرة المشهد فيما يتعلق بالجانب الأمني والعسكري لكن هذه المرة على مستوى عمق الأراضي السورية وصولاً إلى البادية وحمص.