مسؤولو الدول الأكثر اضطراباً يتوجسون من العطلات الطويلة وكأنها تنحٍ موقت عن الحكم وآخرون يستغلونها في الدعاية السياسية
وجرت العادة أنه لا أحد من أصحاب السلطة السياسية يرغب في أن يبتعد اسمه عن منصبه، خوفاً من أن يصبح خارج الضوء، بالتالي خارج حسابات من يمنحونه ثقتهم، سواء من الناخبين، أو من يمتلكون قرار سحب الصلاحيات منه.
لا إجازات في هذا المجال. وحتى في ما يتعلق بالعطلات القليلة التي تمنح للقادة سنوياً يتنفسون فيها الصعداء لبعض الوقت، يحرصون على أن يتركوا خطوط الاتصال معهم مفتوحة لمتابعة المستجدات الحرجة والطارئة، إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يستمتعوا بحياتهم بشكل كامل بعيداً من ضغوط عملهم، مهما كانت عطلتهم مرفهة ومدللة.
“السياسة مهلكة بشكل عام”، قالها الشاعر المصري صلاح جاهين قبل أكثر من نصف قرن، إذ تعتصر صاحبها، ولا تترك له حيزاً للابتعاد، وتجربة شيء جديد طالما قرر احترافها. لكن، هذا لا يعني أن المسؤولين ليسوا بحاجة إلى إجازة حقيقية، يتركون فيها هموم هذه المهنة، وكأنه تنحٍ موقت عن المنصب، يحافظون به على لياقتهم الذهنية والبدنية.
الاحتراق الوظيفي مصطلح بات شائعاً للغاية في السنوات الأخيرة، حيث يُعرف بشكل مبسط على أنه إنهاك، بسبب ضغوط العمل، يؤدي إلى التوتر والتخبط في القرارات والإرهاق النفسي والجسدي، وهي أمور تواجه العاملين في هذا العصر بشكل ملحوظ ثمناً لالتزامهم المهني، فما بالنا إذا كان هذا الموظف هو رجل سياسة بالدرجة الأولى منوط به قرارات مصيرية تخص شعباً بأكمله، وربما شعوب مجاورة أو غير مجاورة، وتتعرض تصريحاته للتدقيق، والمراجعة الجماهيرية والمؤسسية، مما يجعله يدفع فاتورة عالية الكلفة تجاه هذه الالتزامات الضاغطة.
وبعيداً من الدساتير التي تحكم كل دولة، هل تتيح ظروف البلدان لرجال السياسة الفاعلين إجازات تفرغ بالفعل؟ يشحنون فيها طاقتهم، ويمتهنون فيها عملاً آخر فترة من الزمن، ثم يمكنهم العودة بكل سهولة، أم أن شروط العمل السياسي أقسى من أن تعطى تلك “الفسحة” مهما كانت ضرورية التي يمكن أن تستعمل كورقة سياسية على أكثر من وجه؟!
سياسي في مهمة دراسية
على رغم أن إرهاصات تعريف الاحتراق الوظيفي بدأت بين علماء النفس ما بين منتصف سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن الماضي، فإن هناك من انتبه إلى أهمية إجازة التفرغ من المهام السياسية في عام 1968، على رغم أنه كان من صناع القرار وصاحب منصب تاريخي، وهو لي كوان يو أول رئيس وزراء لسنغافورة، الدولة ذات الاقتصاد القوي وأحد أبرز النمور الآسيوية.
وحصل لي كوان يو على إجازة بهدف التعلم، وذهب بالفعل للدراسة شهراً إلى معهد السياسة التابع لكلية جون كيندي للعلوم الحكومية بجامعة هارفارد الأميركية الواقعة بولاية ماساتشوستس في منتصف نوفمبر (تشرين الثاني)، وخلف خلال هذه الفترة وراءه تركة سياسية أدارها نوابه لحين عودته، وبالفعل بعد أن أنهى مهمته طالباً تسلّم مقاليد منصبه مجدداً، وكأن شيئاً لم يكن.
وعلى رغم قصر المدة التي قضاها الزعيم الآسيوي في صفوف الطلبة فإن الواقعة كانت نادرة للغاية وتقدمية بشكل لافت، بخاصة أنه بحسب ما جاء على الموقع الرسمي للجامعة العريقة، وصف هذه الرحلة بالعلاجية: “أنا هنا للراحة، ولإعادة التفكير، ولإعادة صياغة السياسات، وللحصول على أفكار جديدة، وللالتقاء بعقول محفزة، لأعود محملاً بموجة جديدة من الحماسة لما أقوم به”.
كما أبدى لي كوان يو، الذي بقي في منصبه 31 عاماً، ودرس القانون في جامعة كامبريدج البريطانية ثاني أعرق جامعات العالم بعد أكسفورد في شبابه، عدم تخوفه من شغور منصبه، إذ وصف حينها الوضع في بلاده بأنه هادئ، بالتالي لا أزمات في اقتطاعه الوقت للتعلم والدراسة.
نجوم السياسة وإجازات رعاية الأطفال
وفي دولة آسيوية أخرى كانت هناك أيضاً سابقة متعلقة بإجازات للمسؤولين المنخرطين في العمل السياسي، إذ حصل للمرة الأولى وزير ياباني على إجازة لرعاية طفله، حديث الولادة، وذلك في منتصف يناير (كانون الثاني) من عام 2020.
وأثارت تصريحات وزير البيئة شينجيرو كويزومي الجدل حينها، لكنه كان حريصاً على تأكيد أن مهام عمله “لن تتأثر” سواء كوزير حكومي أو كنائب في البرلمان الياباني، وفي الوقت نفسه شدد أيضاً على أنه يريد أن يشعر بكونه أباً، بعد أن وضعت زوجته طفلهما: “أريد أن أكون مثالاً جيداً للآباء العاملين في اليابان”.
وعلى رغم قصر مدة الإجازة فإنه جرى تداول الخبر على نطاق واسع، باعتباره سابقة لم تقع من قبل في المجتمع الياباني، الذي يعاني تراجعاً في عدد المواليد السنوي (أقل من 800 مليون مولود خلال 2022)، وزيادة نسبة الشيخوخة، وأيضاً من ساعات العمل القاتلة.
وبحسب تقرير نشرته “بي بي سي” مطلع عام 2020، كان تصرف وزير البيئة وقتها غير متوقع، بل إنه تعرض للانتقاد أيضاً وحينها علق على هذا السخط في تصريح نقلته وكالة “أسوشيتيد برس”، إذ قال “هذه هي المرة الأولى التي يحصل فيها وزير على إجازة أبوة، وكلما فعلت شيئاً غير مسبوق، يكون هناك نقد دائماً”.
وعدّ تصرف كويزومي تشجيعاً على زيادة نسبة المواليد في الدولة البالغ قوامها 125 مليون نسمة، نحو 30 في المئة منهم فوق الـ65 سنة، أي أن للأمر أيضاً عاملاً يصب في الترويج الحكومي لزيادة معدلات الإنجاب في البلاد.
وجرت العادة أن الأمهات هن من يحصلن على إجازات أمومة، لكنها في حالتهن تكون اضطرارية من أجل رعاية الرضيع، ومن جهتها، حصلت رئيسة وزراء نيوزيلندا السابقة جاسيندا أردرن على إجازة أمومة استمرت ستة أسابيع، بعد أن رُزقت بطفلتها في صيف 2018.
ولم يكن الأمر محل استهجان، حتى إنها اصطحبت طفلتها معها في ما بعد إلى بعض الفعاليات الرسمية، وهو ما يشير إلى تغير ثقافة العمل السياسي في هذا العصر، إذ باتت الحياة الاجتماعية الصحية تأتي في نظر كثيرين في مقدمة اهتماماتهم.
لا إجازات طارئة في زمن الاضطراب السياسي
وفي تسعينيات القرن الماضي كانت تبدو عطلات السياسيين الطويلة شبه مستحيلة على رغم أنه لا قلق بشأن كونها مدفوعة الأجر بعكس الموظفين الذين يحسبونها كثيراً خوفاً من تأثر رواتبهم. لكن، القلق الدائم يأتي من اشتعال الأوضاع السياسية وعدم استقرارها.
وفي عام 1990، اضطرت رئيسة الوزراء الباكستانية الراحلة بنظير بوتو، التي اغتيلت عام 2007 إلى العودة لمباشرة عملها بعد أيام قليلة من وضعها طفلتها بيختوار في يناير (كانون الثاني) 1990، فقد كانت أول زعيمة منتخبة على الإطلاق تضع طفلاً في أثناء توليها المنصب، وقد عادت سريعاً لأداء واجبها الحكومي في البلد المضطرب سياسياً، بعد أن كانت قد نجت لتوها من اقتراع لحجب الثقة، كما كانت تواجه إدارتها حصاراً عاصفاً من الجناح اليميني في الجيش الباكستاني.
ووفق ما ذكرته “بي بي سي” فإن بوتو علقت على عودتها مباشرة لمهامها بعد الولادة على رغم خضوعها لعملية قيصرية بالقول: “في اليوم التالي عدت إلى العمل، أقرأ الأوراق الحكومية وأوقع الملفات”.
وحُرمت بنظير بوتو من إجازة الأمومة، ولم تتفرغ لرعاية وليدتها، على رغم كون تلك الإجازة تقترب كثيراً من بند الإجازة المرضية الطارئة التي هي حق أصيل تكفله قوانين العمل المختلفة على مستوى العالم سواء لأصغر الموظفين المعينين وكذلك لأعلاهم سلطة، كما ينالها السياسيون باستمرار سواء من هم في السلطة التنفيذية أو الزعماء الكبار من صناع القرار على مستويات الرؤساء والملوك والسلاطين والأمراء، حيث بعضهم خضع لجراحات عاجلة، وكان بحاجة إلى الاستشفاء، وبعضهم أصيب بوعكات صحية غير متوقعة فاضطر للمكوث بالمستشفيات وغيرها من الحالات الطبية التي كان يجري الكشف عن تفاصيلها.
وفي ما يتعلق بالدساتير التي تسير عليها البلدان، دعا استشاري الصحة النفسية الدكتور وليد هندي إلى أن تكون إجازة السياسيين المؤثرين بقراراتهم في مستقبل البلاد “إجبارية وملزمة. نتمنى أن تكون هناك ثقافة الحصول على عطلة طويلة بين العاملين في المجال السياسي والحكومي، وأن يقرها الدستور والقانون في جميع دول العالم”. لكنه أيضاً تحدث عن خصوصية الدول النامية، منوهاً إلى أن كثيراً منها لا تتبع العمل المؤسسي بصورة صحيحة، بالتالي تكون هناك دوماً حاجة إلى وجود رأس السلطة، لتتابع المستجدات وسير دائرة العمل، كي تسير الأمور على ما يرام.
ويرى هندي أن ضرورة الإجازة من العمل السياسي تتمثل في عدة محاور، بينها “الخروج من الروتين مما ينعكس بدوره على مستوى أداء المهام، إذ يكون الشخص أكثر إنتاجية”. واصفاً التفرغ لهواية أو موهبة معينة بعيداً من الجمود السياسي “محفزاً ووقوداً للعقل البشري، حيث يتمكن الشخص من النظر إلى المشكلات من زوايا أكثر مرونة واتساعاً مما يسهم في التفكير الإبداعي ورفع الكفاءة النفسية والعقلية، وكذلك الشعور بالرضا عن الذات”.
عطلات القادة رسائل حاسمة للخصوم
وقد ينص الدستور بالفعل على تنظيم أمور العطلات لكبار السياسيين وصناع القرار بشكل حاسم، إلا أن صاحب المنصب نفسه تكون لديه قيود ذاتية، ويصبح غير قادر على التحرر من تلابيب مسؤولياته بسبب شعور داهم بعدم الاستقرار.
وفي السنوات الأخيرة أصبح زعماء العالم يحرصون على إظهار قضائهم العطلات الترفيهية مع تنامي الوعي العالمي بأمور الصحة العقلية، فكثير من الرؤساء يبرزون هذا الجانب في حياتهم، بحصولهم على قسط من الراحة، يحاولون من خلاله ترك انشغالات الشأن العام، ويمارسون فيها هواياتهم المفضلة في وجهات سياحية خلابة.
ومهما كان المكان الذي يقضي فيه رأس الدولة عطلته فإنه يكون مجهزاً بأحدث وسائل الاتصال والتأمين كذلك، تحسباً لأي طارئ، سواء كان قلعة حصينة مثل قلعة بريجانسون بالجنوب الفرنسي التي يقضي فيها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عطلته الصيفية المعتادة قبالة شواطئ الريفييرا، وهي تعود إلى القرون الوسطى، أو في منزل فاره بمنطقة خليج فيبورج على الحدود الروسية- الفنلندية، حيث يفضل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قضاء وقته المستقطع، إضافة إلى التنزه أيضاً على الجليد في غابات التاجا بسيبيريا.
ويحوّل فلاديمير بوتين عطلاته التي من المفترض أن تكون للاسترخاء إلى وسيلة للدعاية السياسية وإرسال الرسائل إلى خصومه كونه الرجل القوي الذي يتأثر بأي مواقف معادية، حيث يتحرك وسط الثلوج عاري الصدر، ويقفز وهو على ظهر الخيل، ويصطاد الحيوانات البرية مرتدياً الزي العسكري ومعه سلاح ناري.
وحول الإجازات السياسية التي تبدو وكأنها مجرد حلقة في الترويج للأنظمة وللقادة، تقول الأكاديمية المصرية سهير صالح، أستاذة الإعلام التربوي وعميدة المعهد الدولي العالي للإعلام بأكاديمية الشروق، “هذا النوع من الاستعراض يعتبر رسالة يطمئن بها المسؤول السياسي الشعب الذي يحكمه، كونه يتمتع باللياقة والشباب والصحة القوية والقوام الرياضي، حتى لو كان هذا يخالف الحقيقة التي تقرها السجلات الطبية”.
وتشير أستاذة الإعلام بجامعة القاهرة إلى أن هذا ما يجعل زعماء في عمر كبير يحرصون على الظهور وهم يمارسون رياضات تتسم بالعنف، والروح القتالية كوسيلة لـ”طمأنة الجماهير بأنهم قادرون على أداء مهامهم في الحكم، وفي اتخاذ قرارات سليمة، بالتالي يحصلون على دعمهم وولائهم وأصواتهم في الاقتراع السياسي”.
وتضيف صالح أن كل نشاط يقوم به الزعماء “يستعملونه في البعث برسالة معينة، والعطلة تقع في هذا الإطار، فهي رحلة سياسية بالأساس ينشرون صورها، ويسربونها لوسائل الإعلام لتحقيق أهداف معينة، لأنهم يعلمون أنها ستتداول على نطاق واسع بخاصة عبر مواقع التواصل الاجتماعي”.
وفي النهاية يعتقد استشاري الصحة النفسية وليد هندي أن السياسي الحقيقي يكون دائم الانشغال الذهني بأمور بلاده، مما يستلزم استنفار طاقته الداخلية وتسخيرها لمصلحة قضايا الوطن، ومع انتشار السوشيال ميديا وسرعة تداول المعلومات والإحصاءات والتقارير الحادثة على المسرح السياسي محلياً ودولياً، يجد نفسه يتجاوز حتى ساعات العمل الطبيعية، ويعيش في فقاعة نفسية من الضغوط تسبب له عزلة عن مجتمعه الحقيقي وتؤثر سلباً في علاقاته الإنسانية، فيجد الزعيم السياسي نفسه يعمل طوال الوقت ليل نهار خوفاً من تفويت حدث تترتب عليه عواقب جمة، وكثيرون لديهم قلق بالغ لدرجة إنهم حتى مع الحصول على عطلة فهم يقضونها وسط أحبائهم بجسدهم فقط بينما عقلياً هم منشغلون بأمور مهنتهم القاسية.