منخفضات جويّة تنضمّ لتصعيد جبهات الشمال الغربي .. سامر مختار…المصدر: الجمهورية .نت .

انهارت البيوت فوق ساكنيها العام الماضي مع الزلزال الذي ضربَ مناطق شمال غربي سوريا في السادس من شهر شباط (فبراير)، ما أدى إلى وفاة 4191 شخصاً في المنطقة بحسب . وما تزال آثار الزلزال وتبعاته حاضرة حتى الآن. وفي مطلع العام الجديد، غرقَ عدد كبير من المخيمات إثر تعرّض المنطقة لثلاثة منخفضات جوية بين العاشر والسادس عشر من كانون الثاني (يناير)، رافقَتها عواصف وأمطار غزيرة وسيول جارفة أدَّت إلى ارتفاع منسوب مياه نهر العاصي وفيضان روافده. وقبل كارثة غرق المخيمات بأيام قليلة، شهدت المنطقة تصعيداً عسكرياً عنيفاً من قبل قوات النظام السوري وحليفتها روسيا في السادس والسابع من الشهر نفسه، إذ قُصفت مناطق إدلب وريف حلب الغربي بالقنابل الفسفورية الحارقة المحرَّمة دولياً، واستجاب فريق الدفاع المدني السوري «الخوذ البيضاء» لـ52 هجوما على شمال غربي سوريا. وتندرجُ موجة القصف العنيف هذه .
تجتمع هذه العوامل كلها مع ظروف إنسانية بالغة الصعوبة والتعقيد، في منطقة شهدت طوال سنوات موجات متتالية من القصف المُدمِّر، وتتنقل نسبةٌ كبيرة من أهاليها بين نزوحٍ ونزوح.
نزوح متجدد في فصل الشتاء
تعيش نسبة كبيرة من أهالي شمال غربي سوريا اليوم تحت وطأة الشعور بأن حياتهم مُهدَّدة في أي لحظة، فمع تجدد قصف قوات النظام والقوات الروسية الحليفة لها، والدمار الذي تُخلّفه في الأحياء السكنية، تجد كلّ عائلة نفسها مهددة إما بخسارة حيوات أفرادها؛ أو النزوح، في حال نجت من دمار منزلها جراء القصف، ونصب خيمة جديدة لا تقي من برد الشتاء داخل مئات المخيمات التي تأوي عائلات هجَّرها النظام السوري من مناطقها على مدار ثلاثة عشر عاماً، أو مخيمات ومراكز إيواء أحدث يقطنها النازحون المتضررون من الزلزال.
يقول محمد الفاضل، مدير المركز الصحي في بلدة سرمين، للجمهورية نت: «عاش الأهالي في سرمين وضعاً صعباً بسبب القصف المكثف الذي شهدته المنطقة في الأسابيع الماضية، حيث توقفت المدارس جزئياً بسبب القصف، وانتقلت لفترة إلى التعليم عن بعد. كما اضطربت حركة البيع والشراء بسبب الاستهداف المتكرر للسوق، فيما توقف المركز الصحي عن العمل لبضعة أيام بسبب استهدافه بشكل مباشر، حيث أُصيب السور الخارجي بقذيفة صاروخية أدت إلى تدمير جزء منه وتخريب أثاث المستوصف». وأضاف الفاضل: «خلال الأسابيع الماضية نزح قسم من سكان سرمين بسبب تكرار القصف، لكن الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والمركز الصحي، وخدمات التوليد والإسعاف والدفاع المدني لم تنقطع».
معظم النازحين من سرمين في الفترة الماضية هم بالأصل من الأهالي المُهجَّرين إليها بشكل تدريجي. وقد عاد الوضع إلى ما كان عليه قبل التصعيد بسبب الهدوء في الأيام الأخيرة، كما يوضح لنا الفاضل، مشيراً إلى أنهم في المركز الصحي لم يتوقفوا عن تقديم الخدمات للأهالي سوى في فترة صيانة المركز بعد تعرضه للقصف، لكن قِسمَي التوليد والإسعاف استمرّا بتقديم الخدمات دون توقف، حسب قوله.
وتعرَّضت أيضاً كلّ من الأبزمو وكفرعمة والقصر ومعارة النعسان وكفرنوران، وبلدات وقرى أخرى من ريف إدلب الشرقي، ومدينة أريحا وقرى جبل الزاوية وبعض المناطق الأخرى، لقصف قوات النظام والقوات الروسية، وذلك بحسب علي يوسف، الذي يعمل مُدرّساً في إحدى مدارس بلدة الأبزمو. يقول اليوسف: «شملَ القصف أيضاً كل من بلدة أرمناز التابعة لريف إدلب الغربي، التي راح فيها أكثر من خمسة شهداء وبعض الجرحى معظمهم من الأطفال؛ ومدينة دارة عزة في ريف حلب الغربي أول أيام العام الجديد، والتي راح فيها أربعة مدنيين. وبسبب هذه الحملة عُلِّقَ الدوام المدرسيّ في الكثير من المناطق التي تعرضت للقصف حرصاً على حياة التلاميذ».
وأضاف اليوسف: «جرى أيضاً اسهداف بلدة تديل في ريف حلب الغربي بأكثر من عشرة طائرات مُسيَّرة انتحارية، أغلبها إيرانية المنشأ، أدَّت إلى وقوع شهيدين وعدّة جرحى. كما أن الطائرات المُسيَّرة، المخصصة للتصوير والاستطلاع، تكاد لا تفارق المنطقة بالتزامن مع وجود طائرة البجعة الروسية، التي تعتبر كغرفة عمليات متنقلة للقوات الروسية». وأشار اليوسف كذلك إلى أن قوات النظام استهدفت سيارات المدنيين المارة في محيط دارة عزة وتقاد وكفرتعال وتديل وكفرنوران ومحيط الأتارب.
النزوح هرباً من قصف البيوت وغرق المخيمات
لم تمضِ بضعة أيام على تعطّل حياة أهالي تلك المناطق، ونزوحهم من بيوتهم ومدنهم وبلداتهم جرّاء قصف قوات النظام وحليفتها (روسيا) في ظل انخفاض درجات الحرارة وظروف الشتاء، حتى جاءت العواصف والأمطار الغزيرة وفيضان نهر العاصي، ما أدى إلى غرق عدد كبير من المخيمات، ونزوح أكثر من مئة وتسعة آلاف متضرر-ة من حوالي 309 مخيمات، أي ما يعادل 18 بالمئة من إجمالي المخيمات المنتشرة في تلك المنطقة، بحسب منظمة ، التي قالت إن الأوضاع الحالية تدعو لتصنيف منطقة المخيمات المتضررة منطقة كوارث، مقدّرةً الحدّ الأدنى للتعافي سيستوجب نحو عشرين يوماً.
وقال تقرير أعدّه الدفاع المدني السوري «الخوذ البيضاء» إن أضرار العاصفة قد حلّ بشكل أكبر على مناطق ريف إدلب الغربي والمخيمات فيها، بسبب ارتفاع منسوب مياه نهر العاصي جرّاء الهطولات المطرية الغزيرة، وفَتْح عدة سدود على النهر، وفيضان عدة مجاري مياه رافدة للنهر في مناطق الزوف والحمبوشية وعين البيضا ودركوش وخربة الجوز في ريف إدلب الغربي، والتي تضررت عدة مخيمات فيها بسبب السيول. وقد تسرّبت المياه إلى عدة منازل للمدنيين في مدينة دركوش، وغُمرت أراضٍ زراعية في منطقتي بتيا والغزالة، ومنطقة تلول بالقرب من مدينة سلقين في الريف نفسه بسبب ارتفاع منسوب نهر العاصي. كما تسبّبت السيول بإغلاق عدة طرق في مناطق حارم وكفرتخاريم وفرجين وبداما، وتجمّع مياه الأمطار والسيول في منازل في مناطق حارم وبداما والحمبوشية وعين الحور.
وتسبَّبَ فيضان سواقي المياه قرب بلدة جارز في ريف حلب الشمالي بغمر الأراضي الزراعية، وتشكّلت سيول جراء الهطولات المطرية الغزيرة خلفت أضراراً في المخيمات. وأدت الهطولات المطرية الغزيرة لانهيار جدار في مسكن مؤقت في مخيمات أطمة شمالي إدلب، وانهيار صخري على خيام لإيواء الناجين من الزلزال ضمن مخيم الشرفة بالقرب من عزمارين غربي إدلب، دون وقوع إصابات. كما سُجِّلت انهيارات صخرية على طرقات في منطقتي كفرتخاريم وبداما في ريف إدلب، بحسب ما جاء في تقرير الدفاع المدني.
حاولنا التواصل مع عدة مدراء ومشرفين على المخيمات، ومع رؤساء مجالس أحياء وبلدات تضرَّرت إثر كارثة غرق المخيمات وبعض الأحياء والمنازل لمعرفة تفاصيل أكثر عن وضع الأهالي في تلك المناطق، لكن أغلب من تواصلنا معهم اعتذروا عن الإدلاء بأي تصريحات إعلامية دون موافقة «وزارة الإعلام» التابعة لـ«حكومة الإنقاذ»، الذراع المدني لهيئة تحرير الشام، والتي افتتحت نهاية شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من العام الماضي، وعمَّمت منع التعاطي مع جهات صحفية غير مُصرَّح لها بالعمل من قِبلها.
أبنية سكنية بـ«شوادر عازلة» تتسرّب منها المياه
لم يقتصر أثر الأضرار على المخيمات فقط بل شملت التجمّعات السكنية التي بُنيت من قبل منظمات الإغاثة. وقالت سهام (اسم مستعار)، من مدينة إدلب، إن صديقتها، التي تعيش في مخيم المنارة في بلدة أطمة شمال إدلب، اتصلت بها منذ عدة أيام تستغيث بعد أن مضى أسبوع واحد على هطول الأمطار الغزيرة وغرق المخيم بأكمله. تقول سهام للجمهورية.نت: «بقيت صديقتي محبوسة وأطفالها في الغرفة الوحيدة التي لم تغرق. أما باقي المنزل، المكون من غرفة أخرى ومطبخ، فقد غرق بالمياه، وأصيب أطفالها بنزلات برد شديد، وارتفعت درجة حرارة أجسادهم، ما اضطرها لاصطحابهم إلى المستشفى. فما أن تُبدّل لهم ثيابهم المبللة بالمياه حتى تضطر لتبديلها مرة أخرى».
يُطلق الأهالي في المنطقة على المخيمات المشابهة لمخيم المنارة «كُتل سكنية» أو «تجمعات سكنية»، إذ أن جدرانها مبنية من البلوك وتم سقفها بـ«شوادر عازلة» أو ألواح توتياء، كما تُوضح سهام. تعيشُ غالبية العائلات داخل المخيم في تلك «الكتل السكنية»، فيما تعيش عائلات أخرى في خيم قماشية، يُعيد أصحابها ترميمها كلما اهترأ قماشها أو تمزقت أجزاء منها عبر تزويد سقفها بـ«بطانيات» وطبقة عازلة، منعاً من تسرب مياه الأمطار إلى داخل الخيمة.
ولم يكن مخيم «زهرة الشمال» في قرية بابسقا بريف إدلب بحال أفضل. يتكون المخيم من 250 «كتلة سكنية»، جزء منها ذات أسقف إسمنتية، والجزء الآخر مسقوف بشوادر عازلة لم تُبدّل منذ أربع سنوات، بحسب المدير المسؤول عن المخيم صطوف قاسم. يقول القاسم للجمهورية.نت: «تسرَّبت المياه في 150 كتلة سكنية بسبب تدهور حال الشوادر العازلة، وتواضع جدران الكتل، التي لم يجرِ ’تلييسها‘ -أي أنها لم تُدعم بطبقة من الأسمنت الذي يغطي الجدران من الخارج-، ما أدّى لانتشار الرطوبة العالية فيها، وباتت تسبب أمراضاً لساكنيها».
وقد بنت هيئة الإغاثة الإنسانية وحقوق الإنسان والحرّيات التركية، ، هذه الكتل السكنية على الـ«العظم»، كما يروي القاسم، واكتفى المشروع حينها بوضع شوادر عازلة. وهناك عائلات استطاعت «تلييس» جدران الكتلة التي سكنت فيها من الداخل فقط، فيما عائلات أخرى عانت لمدة لا تقل عن ثلاثة سنوات حتى استطاعت «تلييس» جدرانها. وأشار القاسم إلى أن عدداً كبيراً من ساكني مُخيّم زهرة الشمال اضطروا للإبقاء على مآويهم على الوضع الذي استلموها فيه. ويقول: «جميع العائلات تقريباً اتصلت بي لتشكوا حال ’شوادرها‘، ورغم أننا خاطبنا مسؤولي المنظمة أكثر من مرة بأننا بحاجة شوادر لكن ما من أحد أجاب على طلبنا. في السابق كانوا يأتون من أجل تلبية حاجة عائلة أو عائلتين، أما الآن، ومع كثرة الاحتياجات والطلبات، لا أحد يستجيب لنا». ونوَّه القاسم إلى أن وضع مخيم الزهرة بالغ السوء، إذ تعيش بداخله 90 عائلة تحت خط الفقر، ويعاني المخيم من إهمال شديد ولا يحصل على المساعدات ولا الخدمات، فالقمامة تتراكم داخل المخيم، ولا آليات لترحيلها ومعالجتها.
وترى سهام أن بعض المشاريع السكنية التي بُنيت عن طريق منظمات إغاثة في شمالي غرب سوريا، كحال مخيمي المنارة و زهرة الشمال، شديدة الرداءة، إذ لم يمضِ سنوات قليلة على بنائها حتى تشققت جدرانها، والمياه تدلف منها، وترشح الرطوبة منها، حسب تعبيرها.
وسائل تدفئة رخيصة مضرّة للصحة وتُسبّب حرائق
مع الشحّ الشديد في المعونات، انعدمت وسائل التدفئة في المخيمات. العائلات مُجبرة على تحمّل برد الشتاء، كما تروي سهام، إذ أن غالبية الناس بدون عمل، وليس لديهم أي مدخول مالي، في ظل موجة الغلاء الحاصلة في المنطقة، وانخفاض قيمة الليرة التركية مقابل الدولار.
تقول سهام: «تلجأ العائلات الفقيرة لاستخدام مواد سيئة جداً كوقود للتدفئة، مثل أكياس النايلون والبلاستيك والكرتون. وهناك مواد أخرى، رغم أضرارها الصحية، إلا أن أسعارها لم تعد رخيصة الثمن كما كانت في السابق، مثل البيرين (تفل الزيتون) والحطب والفحم، وجميعها مواد مضرة بالصحة. والأخطر من ذلك أنها تُسبّب حرائق وكوارث الاختناق، فمنذ عدة أيام توفي ثلاثة شبان بسبب احتراق ناقص للفحم الذي استخدموه للتدفئة واستنشاقهم أحادي أوكسيد الكربون المنبعث منه. لذلك فالوضع كارثي فيما يخص أزمة تأمين وسائل التدفئة في المخيمات، والمساعدات الشحيحة لم تعد تلبي احتياجات الأهالي في المخيمات».
وكان الدفاع المدني السوري قد نشرَ عبر صفحته الرسمية على فيس بوكخبر إصابة رجل مسن بحروق من الدرجة الثانية، جرّاء حريق اندلع بسبب مدفأة في غرفة مسكن مؤقت ضمن مخيم «الأرض الطيبة» في بلدة صلوة شمالي إدلب. وأتبعَ الدفاع المدني الخبر بمشور آخر يحذّر من مخاطر انبعاث غاز أحادي أوكسيد الكربون الناتج عن عمليات الاحتراق غير الكاملة، مضيفاً أن التعرّض المفرط لهذا الغاز يمكن أن يؤدي إلى التسمم. وتعد مواد التدفئة والتسخين في المنازل والمخيمات مصدراً لهذا الغاز.
مع كل عام جديد، وفصل شتاء آخر، يختبر مئات الآلاف من أهالي شمالي غرب سوريا سلاسل محن ومصائب لا يعلم أحدهم إن كان سينجو منها. فمن نجا من القتل هُجِّر من بيته واقتُلع من مكانه، لكن القصف والموت استمرا بملاحقته إلى المكان الذي هُجِّر إليه. ومن دُمِّرَ بيته ونزح منه بعد أن دمره الزلزال، نزح مرة أخرى بعد أن غرقت خيمته.