مساء الاثنين، انتشرت شائعات في أوكرانيا عن أنّ الرئيس فولوديمير زيلينسكي قرّر إقالة قائد القوّات الأوكرانيّة فاليري زالوجني من منصبه. في هذا الإطار، ذكرت صحيفة “فايننشال تايمز” الثلثاء أنّ زيلينسكي عرض على زالوجني التخلّي عن منصبه وتبوّء مركز مستشار دفاعيّ، لكنّ الأخير رفض، على ما نقلته عن أربعة مصادر. وقال اثنان منهما، إنّ زيلينسكي أخبر زالوجني أنّه سيقال من منصبه في نهاية المطاف بصرف النظر عمّا إذا قبل العرض أو لا. وفيما كانت مواقع التواصل الاجتماعيّ تضجّ بالنبأ في أوكرانيا، نفى مكتب الرئيس الأوكرانيّ كما وزارة الدفاع هذا القرار.
يعود الخلاف بين الرجلين، أو بالحدّ الأدنى انتشار هذا الخلاف علناً، إلى مقابلة أجراها زالوجني مع مجلّة “إيكونوميست” مطلع تشرين الثاني (نوفمبر)، حين قال إنّ الحرب دخلت مرحلة “انسداد أفق”، وإنّ اختراقاً تكنولوجياً متعدّد المستويات أمكن وحده أن يحلّ المشكلة، علماً أنّه لم يتوقّع أيّ اختراق من هذا النوع في وقت قريب. تقييمٌ انتقده بشدّة زيلينسكي في حينه.
في كانون الأوّل، وتعليقاً على علاقته مع الجيش وقائده، قال زيلينسكي في مقابلة: “أنا أنتظر أموراً ملموسة جداً على الميدان، أنا أنتظر قراراتهم. الاستراتيجيّة واضحة؛ أريد رؤية التفاصيل. أعتقد أنّ هذا عادل”.
ضغط متصاعد
انعكست الأنباء السلبيّة الواردة من الجبهة الأوكرانيّة على كييف وموسكو معاً. رأى العالم “مسيرة العدالة” التي أطلقها زعيم “فاغنر” يفغيني بريغوجين نحو العاصمة الروسيّة اعتراضاً على أداء وزارة الدفاع فوق الميدان. اليوم، ومع فشل الهجوم الأوكرانيّ المضادّ، يرى العالم توتّراً مشابهاً، وإن بمظهر أقلّ حدّة، داخل العاصمة الأوكرانيّة.
وتواجه العلاقة بين زيلينسكي وزالوجني ضغطاً متصاعداً بما أنّ الأنباء الواردة من الحلفاء سلبيّة هي الأخرى. المساعدات العسكريّة عالقة في الكونغرس بسبب خلافات حزبيّة حول سياسة الهجرة، وحتى لو حُلّت الأزمة بطريقة ما، فمن المرجّح أن يكون الدعم المرتقب الحزمة الأميركيّة الأخيرة قبل الانتخابات الرئاسيّة. في الوقت نفسه، يبدو أنّ أوروبا لا تزال عاجزة إلى حدّ بعيد عن سدّ الفراغ في القيادة الأميركيّة وثقلها العسكريّ. وبعد تعهّدها إرسال حزمة عسكريّة إلى أوكرانيا بقيمة 20 مليار يورو على مدى أربعة أعوام، مالت بروكسل مؤخّراً إلى تجزئة المساعدات عبر إرسال حزمة أصغر بقيمة 5 مليارات يورو سنوياً على أن تجدّد لاحقاً بحسب الظروف السياسيّة والميدانيّة. ومن المقرّر أن يُتّخذ القرار النهائيّ بهذا الشأن في اجتماع يوم الخميس.
بعدٌ آخر
ربّما هناك عامل شخصيّ في موضوع الخلاف. أظهر استطلاع في كانون الأوّل أنّ زيلينسكي يحصل على تأييد 62 في المئة من الأوكرانيّين مقابل 88 لزالوجني. قد يمثّل ذلك خطراً على طموحات زيلينسكي المستقبليّة إذا أراد قائد الجيش الأوكرانيّ خوض الانتخابات الرئاسيّة بعد انتهاء الحرب. وأغدِقت صفات كثيرة على زالوجني من بينها “الجنرال الحديديّ” و”أيزنهاور أوكرانيا” بحسب صحيفة “كييف إندبندنت”. كان دوايت أيزنهاور قائداً للجيش الأميركيّ في الحرب العالميّة الثانية قبل أن يصبح لاحقاً رئيساً للولايات المتّحدة.
لكنّ التفكير بهذا الموضوع قبل نهاية الحرب أقرب إلى الترف. إذا خسرت أوكرانيا معركتها الوجوديّة، فلن يكون هناك الكثير للتنازع حوله في الانتخابات. وستدفع الخلافات بين الرجلين المشرّعين الأميركيّين المشكّكين أصلاً بفائدة دعم أوكرانيا بعد تضاؤل آفاق انتصارها إلى مضاعفة شكوكهم الأساسيّة.
انعطافة؟
بحسب صحيفة “التايمز” البريطانيّة، تمّ استدعاء زالوجني إلى مكتب الرئيس يوم الاثنين، حيث أبلغ القائد العسكريّ مستشاري زيلينسكي بأنّ تقييمهم العسكريّ كان أقرب إلى الإيجابيّة منها إلى الواقعيّة. عندها، طُلب منه الاستقالة فعاد وأخبر مساعديه أنّه “يوضّب أغراضه”. لكنّ الصحيفة ذكرت أنّ هذا النبأ أثار مخاوف لدى الغربيّين وفي طليعتهم الولايات المتحدة والمملكة المتّحدة. ربّما أدّت هذه المخاوف وردّ الفعل العنيف على وسائل التواصل الاجتماعيّ في أوكرانيا إلى “انعطافة” زيلينسكي تجاه قراره وفق توصيف الصحيفة.
لكنّ هذه “الانعطافة” قد لا تكون دائمة. ربّما أعاد زيلينسكي تأجيل القرار إلى فترة لاحقة على ما كتبته مجلّة “إيكونوميست”. وذكّرت “واشنطن بوست” بما حدث حين قال نائب مقرّب من زيلينسكي إنّ وزير الدفاع أوليكسي رزنيكوف سيقال من منصبه، لكنّ ذلك لم يتحقّق قبل أشهر.
غير أنّ التأجيل قد لا يخفّف من حجم التداعيات. في حديث إلى مجلّة “نيوزويك” الأميركيّة، رجّحت مديرة منتدى أوكرانيا في معهد “تشاتام هاوس” الملكيّ أوريسيا لوتسيفيتش أن تكون الخطوة “اختباراً لردّ الفعل العامّ على فكرة إقالة زالوجني، وقد أرسل المجتمع إشارة واضحة إلى أنّهم لم يحبّوا ذلك”. وأوضحت أنّ الأوكرانيّين كانوا مستعدّين للاحتجاج علناً على الخطوة.
“الاختبار” نفسه كان مثيراً للدهشة بالنظر إلى شعبيّة زالوجني الكبيرة بين المواطنين الأوكرانيّين، مدنيّين وجنوداً. بحسب “التايمز”، قال مقرّب من قائد القوّات الأوكرانيّة: “يحتاج زيلينسكي إلى فهم أنّ الجيش يثق بزالوجني، وإذا أراد الرئيس أن يثق الجيش به، فهو يحتاج إلى تعلّم الثقة بزالوجني أيضاً”.
بودانوف يتدخّل
مساء الثلثاء، قال رئيس الاستخبارات العسكريّة الأوكرانيّة كيريلو بودانوف إنّ أوكرانيا ستشنّ هجوماً مضاداً جديداً في الربيع بعد أن يكون زخم الهجوم الروسيّ الحاليّ قد استُنفد. يمكن أن يكون تصريح بودانوف محاولة لإعادة تركيز الأوكرانيّين على الميدان بدلاً من الصراعات الداخليّة. ويصعب تصوّر أن تخطّط أوكرانيا لهجوم مضادّ جديد وسط غياب اليقين، أقلّه بشأن المساعدات الغربيّة، إن لم يكن أيضاً بشأن إعادة تكرار محاولة اختراق تحصينات روسيّة معزّزة ستصبح أكثر صلابة في الشتاء المقبل.
بودانوف نفسه كان مطروحاً لكي يكون بديل زالوجني، لكنّ “إيكونوميست” أشارت إلى أنّه رفض العرض في اللحظات الأخيرة، مع قول أحد زملائه إنّ الرجل لم يفكّر سابقاً في تولّي منصب زالوجني. لكنّه لفت أيضاً إلى أنّه لم يكن يحقّ لبودانوف رفض المنصب المعروض عليه: “لستَ أنت من يتّخذ قرارات كهذه”.
بينما كان المراقبون يجمعون في الآونة الأخيرة على أنّ أوكرانيا لا تعيش أفضل أيّامها فوق الميدان، يبدو أنّ القادم قد لا يكون أفضل بكثير على مستوى العلاقات العسكريّة – المدنيّة في كييف.