
قاعدة أميركية
فجأة صار إقليم كردستان موقع تجاذب بين القوتين اللتين تتحكمان بالوضع السياسي في العراق، إيران والولايات المتحدة. فبعد الصواريخ البالستية الإيرانية التي سقطت على أربيل ولم ينتج منها سوى مقتل تاجرين، أحدهما كردي هو من أتباع الحزب الديموقراطي الكردستاني الذي يتزعمه مسعود البرزاني، صارت الولايات المتحدة على قلق من أن قواعدها العسكرية في أربيل ستكون مستهدفة إيرانياً ولو بطريقة مخاتلة.
فمن المؤكد أن الحرس الثوري الإيراني لن يطلق صواريخه في اتجاه واحدة من تلك القواعد، غير أنه يمكن أن يستعين بواحدة من ميليشياته للقيام بذلك نيابة عنه. وهو ما يمكن أن يدخل ضمن جدول أعمال المقاومة الإسلامية لإجبار المحتل الأميركي على مغادرة البلاد. أما حكومة كردستان التي يديرها الحزب الديموقراطي الكردستاني فليس بالضرورة أن تكون على علم بذلك. لا لشيء إلا لأنها من وجهة نظر الطبقة السياسية الشيعية الحاكمة متواطئة مع الاحتلال. ومن الظريف فعلاً أن المقاومة الإسلامية لم تكتشف أن العراق بلد محتل إلا بعد مضي عشرين سنة على الاحتلال، وبعدما سحب المحتل جيوشه وليس له الآن سوى قواعد عسكرية، نصت عليها اتفاقية “الإطار الاستراتيجي” التي وقعتها الحكومة العراقية عام 2008 يوم كان نوري المالكي يترأسها. والمالكي الذي يتزعم اليوم تحالف الإطار التنسيقي الذي هو مرجعية الحكومة العراقية هو من أكثر المتحمسين لإنهاء استقلال الأكراد في إقليمهم كما لو أنه دولة، وقد يكون على حق لولا أنه يفكر في مصلحة إيران من غير أن يفكر في مصلحة العراق.
حزبان كرديان بمرجعيتين متضاربتين
في كل مراحل علاقتها الشائكة بالعراق، استفادت إيران من علاقتها بحزب الاتحاد الوطني الكردستاني الذي تزعمه جلال الطالباني والذي أصبح رئيساً للجمهورية بين عامي 2005 و2014. في حرب الثماني سنوات التي خاضتها ضد العراق في ثمانينات القرن الماضي، كان موقف حزب الاتحاد منحازاً إلى إيران، بحيث إن الإيرانيين استطاعوا أن يدخلوا حلبجة العراقية عام 1988 بيسر، وحين تعرضت البلدة الكردية لهجوم كيماوي بعد تقدم الجيش العراقي وانسحاب الجيش الإيراني لم يكن الأكراد على يقين من أن الغازات أتت من الجانب العراقي. أما حين حُمل العراق ما حدث فإن ذلك جرى لغايات سياسية، كان الإعلام الغربي قد هيأ أجهزته لترويجها من أجل الانقضاض على العراق قبل احتلال الكويت عام 1990. في المقابل، فإن علاقة الحزب الديموقراطي الكردستاني بإسرائيل كانت متجذرة وقوية وتعود إلى ستينات القرن الماضي، يوم كان ملا مصطفى البرزاني يقود الكفاح الكردي المسلح من أجل إقامة وطن قومي للأكراد. كانت هناك زيارات متبادلة بين الطرفين لم تنقطع، وهو ما أكده غير مرة محمود عثمان الذي كان عضواً بارزاً في الحزب الديموقراطي الكردستاني وسبق له أن زار إسرائيل وكان بعد الاحتلال الأميركي فخوراً بعرض صور فوتوغراقية توثق تلك الزيارات. كما أن أحداً من الحزب المذكور لم ينف قيام إسرائيل بتزويد المتمردين الأكراد بالسلاح. في المحصلة يمكنني القول إن الحزبين الكرديين اللذين يتقاسمان السيطرة على خريطة كردستان لا يختلفان على مناطق النفوذ والمصالح الاقتصادية داخل الإقليم فحسب، بل أيضاً في ارتباطاتهما الإقليمية التي تزيد من تعقيد الصراع القائم في ما بينهما.
معادلات سياسية متغيرة
أخطأ مسعود البرزاني حين دعا إلى الاستفتاء على الانفصال الكردي عن العراق عام 2017. فنتائج الاستفتاء التي ذهبت في اتجاه تأييد الانفصال والتي حظيت بمباركة الدولة العبرية لم تحظ إلا بموقف أميركي بارد. اعتبرت حكومة بغداد المدعومة دائماً من إيران ذلك الموقف بمثابة بطاقة خضراء، تسمح لها بإعادة النظر في المعادلة السياسية والاقتصادية التي نجح الأكراد بسبب الدعم الأميركي في استمالتها لمصلحتهم. صحيح أن الأكراد لم يخرجوا نهائياً من الحسابات الأميركية، بدليل أن أهم القواعد الأميركية لا تزال تتمركز شمال العراق، غير أن الصحيح أيضاً أنهم خسروا الدعم السياسي الأميركي الذي يصب أصلاً في محاولة الحفاظ على وحدة الأراضي العراقية. وكان واضحاً أن الولايات المتحدة لا تميل إلى استفزاز تركيا وإيران من خلال التلويح بإقامة دولة كردية على حساب العراق. ولا يمكنني هنا أن أؤكد ما إذا كانت إسرائيل التي دعمت التمرد الكردي تميل إلى إقامة دولة كردية شمال العراق تكون بمثابة مأوى للمتمردين الأكراد من إيران وتركيا، أم أنها كانت تعمل على إدامة الفوضى في واحدة من دول الطوق المعادي لها.
ولكن القصف الإيراني الذي استهدف أربيل بدعوى وجود قواعد للموساد الإسرائيلي لا بد من أن يكون له أثر على الجبهة الأميركية، بعدما تعالى صراخ جماعات المقاومة الإسلامية التابعة لإيران المطالب بخروج القوات الأميركية من العراق. كانت أربيل موقعاً آمناً للقوات الأميركية قبل أن تلجأ إيران إلى استعمال الصواريخ البالستية. فهل سيغير ذلك شيئاً من المعادلات على الأرض؟
الإقليم الكردي في المهب
الخلاف الكردي ــ الكردي لن يُحل، فهو خلاف اقتصادي يستند إلى أصول عشائرية. أي أنه خلاف بدائي وجد في السياسة غلافاً له. كما أن حكومة بغداد بمزاجها الإيراني لن تقبل بوجود إقليم كردي هو بمثابة دولة مستقلة تؤوي معارضي الدولتين الجارتين، إيران وتركيا. وفي ثنايا المشهد تحرص الولايات المتحدة على الإبقاء على قواعدها العسكرية في الشمال العراقي، وهي حصتها من الغزو الذي كلفها الكثير من الخسائر وألحق بها قدراً لا يُنسى من العار التاريخي. من المؤكد أن الولايات المتحدة ستدافع عن حقها في إقامة قواعد عسكرية، غير أن ذلك لا يشكل حماية للإقليم من الهجمات التركية والإيرانية. في الوقت نفسه سيكون موقف بغداد أساسياً وحاسماً. فبالرغم من ولاء الحكومة العراقية لإيران فإنها تظل رهينة للجهة التي تشرف على ودائعها المالية وهي الولايات المتحدة. سيكون كل خطأ محسوباً، وهو ما سينعكس سلباً على الإقليم الذي صار موقع تجاذب بين إيران والولايات المتحدة.