عندما يلتقي الملك عبد الله الثاني الرئيس جو بايدن في البيت الأبيض، ستكون تلك فرصة كي يغتنم الرئيس الأميركي المناسبة ويقدم على مبادرة تصبّ في وقف النار في غزّة. يطلب الأردن، بلسان عبد الله الثاني، وقفاً لإطلاق النار كي تتوقف الحرب المجنونة التي تشنها إسرائيل على أهل غزّة بديلاً من تحقيق انتصار مستحيل على “حماس”.
هذا لا يعني من دون أدنى شكّ غياب مسؤولية “حماس”، التي يحاول كثيرون إخفاءها أو تجاهلها، عن السبب الحقيقي لبدء حرب غزّة في 7  تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي. يومذاك، شنت “حماس” هجوماً سمّته “طوفان الأقصى” من دون  امتلاك أي أفق سياسي لمثل هذا الهجوم الذي يصعب التكهن بانعكاساته على الصعيد الإقليمي.
في الواقع، بعيداً من الاختباء وراء العودة إلى جذور نشوء القضيّة الفلسطينيّة والظلم التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني، وفّر “طوفان الأقصى” غطاءً للوحشيّة اللامتناهية التي تمارسها حكومة بنيامين نتنياهو الساعية إلى تصفية القضيّة الفلسطينيّة. تماماً مثلما وفرت صواربخ “حماس” في الماضي غطاءً للحصار الإسرائيلي لغزّة بعد إقامة إمارة إسلاميّة على الطريقة الطالبانيّة (نسبة إلى طالبان) في القطاع ابتداءً من منتصف حزيران (يونيو) 2007.
تكمن أهمّية وقف النار، الذي يُفترض بالولايات المتحدة أن تكون قادرة على فرضه، في توفير فرصة لالتقاط الأنفاس تمهيداً للتفكير في ما يمكن عمله وما لا يمكن عمله في ضوء عجز إسرائيل، ممثلة بحكومة نتنياهو، عن تصفية القضيّة الفلسطينيّة. يتمثّل ما يمكن عمله في البحث في كيفية قيام دولة فلسطينيّة قابلة للحياة. يتطلّب ذلك توفير ضمانات كافية وجدّية كي تكون هذه الدولة مسالمة وألّا تتكرّر مغامرة “طوفان الأقصى”. ولدت حرب غزّة حروباً عدّة في المنطقة، خصوصاً في ظلّ القدرة الإيرانيّة على استغلال ما قامت به “حماس” قبل ما يزيد على أربعة أشهر.
لن يكون اللقاء بين العاهل الأردني والرئيس الأميركي حدثاً عادياً، خصوصاً أنّ عبد الله الثاني أول رئيس دولة عربيّة يزور البيت الأبيض منذ اندلاع حرب غزّة. الأهم من ذلك كلّه أن سجل الرجل هو سلسلة من النصائح الصادقة التي قدّمها للإدارات الأميركية منذ صعوده على عرش الأردن قبل ربع قرن خلفاً لوالده الراحل الملك حسين.
منذ ربع قرن لم يتوقف عبد الله الثاني عن السعي إلى تصحيح النهج الأميركي في المنطقة عن طريق قول كلام جريء يرافقه سلوك يصبّ في كلّ ما من شأنه خدمة الاستقرار في الشرق الأوسط والخليج. لم تتجاوب أي من الإدارات الأميركيّة، منذ انعقاد مؤتمر مدريد في أواخر عام 1991 مع الطرح الأردني الذي ركّز في كلّ وقت على أهمّية قيام دولة فلسطينيّة في وقت كانت الولايات المتحدة ترى أنّ الأحداث تجاوزت هذه القضيّة التي عادت إلى الواجهة في أيامنا هذه.
أكثر من ذلك، تبيّن أنّ كلّ ما في المنطقة مرتبط بطريقة ما بالقضيّة الفلسطينيّة التي سعى عبد الله الثاني دوماً إلى إعادة التركيز عليها حتّى في داخل الولايات المتحدة. من يتذكّر أنّ العاهل الأردني ذهب إلى واشنطن في آذار (مارس) 2007 ليلقي خطاباً أمام مجلسي الكونغرس يشدّد فيه على أهمّية قيام دولة فلسطينية. قال بالحرف الواحد: “لا نستطيع إنكار أن زماننا يواجه قضايا حاسمة. وأنا أعلم أن هناك قلقاً عاماً كبيراً هنا بسبب النزاع في العراق، كذلك الحال في منطقتنا. على المجتمع الدولي بمُجْمله أن يتخذ قرارات أساسية رئيسية في شأن مسار التقدم إلى أمام، وكيفية ضمان أمن العراق ووحدته ومستقبله. لكن يجب ألا تغيب عنا رؤية حقيقة أساسية مفادها أن مصدر الانقسام الإقليمي ومصدر الحقد والإحباط أبعد من ذلك، فأصل المشكلة هو إنكار العدالة والسلام في فلسطين”.
كان ذلك قبل 17 عاماً نسيت فيها واشنطن القضية الفلسطينية. لم تستفق عليها إلّا بعد “طوفان الأقصى”. لم تأخذ نصيحة عبد الله الثاني في الاعتبار، مثلما لم تأخذ في آب (أغسطس) 2002 تحذيره من حرب على العراق. وقتذاك، التقى العاهل الأردني جورج بوش الابن في البيت الأبيض. عندما سعى عبد الله الثاني إلى شرح المخاطر التي يمكن أن تترتب على احتلال عسكري أميركي للعراق، أجاب بوش الابن مقاطعاً بقوله إن “الله أمره” بغزو العراق!
في خريف 2004، تحدّث عبد الله الثاني إلى صحيفة “واشنطن بوست” عن “الهلال الشيعي” الممتد من طهران إلى بيروت عبر بغداد ودمشق. كان يقصد بذلك الهلال الفارسي. لكنّ المشكلة أنّه ليس في واشنطن من يريد أن يسمع وأن يتنبه إلى خطورة وضع إيران يدها على العراق بفضل الحرب الأميركيّة على هذا البلد العربي المهمّ.
هل يجد عبد الله الثاني هذه المرّة آذاناً صاغية في واشنطن؟ ليس ما يشير إلى تفاؤل كبير، خصوصاً في غياب الدور القيادي الأميركي في المنطقة وفي ضوء شخصية جو بايدن وما يعانيه من مشكلات على الصعيد الشخصي بسبب تقدّمه في العمر.
مرّة أخرى سيقول عبد الله الثاني في واشنطن ما عليه قوله في وقت تواجه المملكة الهاشميّة مجموعة من التحديات. من بين هذه التحديات حقد اليمين الإسرائيلي على الأردن وعلى كلّ ما قام به الملك حسين، رحمه الله، والملك عبد الله الثاني من أجل رسم حدود الدولة الفلسطينية التي لا بدّ من أن ترى النور يوماً…