
كنيسة السيدة الأفريقية.
لا يزال التقرير الأميركي المتعلق بحرية الأديان في الجزائر التي أدرجتها واشنطن ضمن “قائمة الدول التي توجد تحت مراقبة خاصة بسبب انتهاكات في مجال الحريات الدينية”، يثير ردود فعل في الإعلام الجزائري.
وكانت السلطات الجزائرية قد أبدت أسفها لصدور التقرير، وتركت للأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وغيرها الرد عليه عبر التذكير بالحرية التي تتمتع بها الكنائس ودور العبادة باختلافها، في عملها وأداء طقوسها وغير ذلك، مستشهدة بإحدى أشهر الكنائس في أفريقيا وفي البحر المتوسط أجمع وهي كنيسة “السيدة الأفريقية”، التي لم يحدث أن تم التضييق عليها أو عرقلة عمل القسيسين فيها ورهبانها، بحسب تأكيد رئيس المجلس الجزائري لحقوق الإنسان عبد المجيد زعلاني.
على ارتفاع 227 متراً، تعلو شاهقة، وتشد نظرك بهندستها الفريدة. اسمها مقترن بمارغريت بيرغر، الخادمة المسيحية التي حلّت في مدينة الجزائر خلال القرن الـ19 قادمة من مدينة ليون الفرنسية، واستقرت بها وخدمت دينها إلى أن توفيت سنة 1857 لتدفن في داخل الكنيسة.
“رمز الحرية الدينية في الجزائر”
تقع الكنيسة في أعالي منطقة باب الوادي في مدينة الجزائر، ويشد المسيحيون هنا الرحال إليها كل أحد للصلاة وكل يوم للسياحة، وللمسلمين من الجزائريين أيضاً فسحة لزيارة هذا المكان العابق بالتاريخ.
ليليا، جزائرية من منطقة بلكور، مسيحية الديانة، تتأمل اللوحة المنقوشة عليها كلمات “العبادة المريمية”. هل تأتين دوماً إلى هذا المكان؟ “نعم، أنا مسيحية وأقيم هنا في الجزائر العاصمة ومن الطبيعي أن أرتاد وعائلتي كنيسة السيدة الأفريقية”. وهل حدث أن صادفتم مشاكل في هذه الكنيسة أو في غيرها بالجزائر؟ “مشاكل!!؟ ممن؟! ولماذا؟ أبلغ الثلاثين من عمري ولم يحدث أن صادفت أي مشكل في حلي أو تجوالي في الكنيسة”.
في “السيدة الأفريقية” جدران مكتوبة عليها صلوات بلغات ثلاث، هي العربية والأمازيغية والفرنسية، أما ما يقابل لوحة العبادة المريمية فحجرات بنقوش تحوي اسم مريم، وهي الحجرات التي وقف فيها دانيال مطولاً، متمعناً فيها وبين شفتيه كلمات لا تسمع.
دانيال لكحل، هو اسمه الكامل، مولود في الجزائر لأب جزائري مسلم وأم فرنسية مسيحية، يقول: “لم يكن لدي أدنى اهتمام لا بدين والدي ولا بدين والدتي عندما كنت صغيراً، والدي كثيراً ما حدثني عن الإسلام ووالدتي فعلت مثله عن المسيح ومريم العذراء، لكني لم أكن أبالي، الآن أنا أب لثلاثة أطفال، بت أقصد كنيسة السيدة الأفريقية بحثاً عن شيء ما ينقص حياتي، لذلك وجدتني ممعناً النظر في اسم مريم العذراء المنقوش على الحجرات” يسرد دانيال، ويضيف أن الجزائر التي ولد فيها وترعرع وكبر لم يحدث أن سمع فيها بقمع أحد لأسباب دينية سواء كان مسيحياً أم من ديانة أخرى. ويقول لـ”النهار العربي”: “زرت بلداناً كثيرة، بمساجدها وكنائسها ودور العبادة فيها، من فرنسا إلى الهند إلى ماليزيا وغيرها، إلا أني لم أجد شعباً يحترم ديانة الآخر مثلما يحترم الجزائريون المسيحيين بالدرجة الأولى”، ويؤكد أن كل ما يقال عن عدم احترام الديانات وغيرها في الجزائر مردود على قائليه أياً كانوا: “انظر، نحن في الكنيسة، هل وجدت من يمنعك من الدخول؟ أنا أيضاً لم يمنعني أحد ولن يمنعني، ببساطة لأنك في بلد يحترم عقيدتك أياً تكن”.
وزارة للشؤون الدينية
ليس خافياً على أحد أن كنيسة السيدة الأفريقية لم تعد مكان عبادة فحسب، فقد تعدت ذلك لتصبح معلماً تاريخياً وتراثياً وثقافياً في الجزائر، لذلك تجد أكثر زوارها من غير المسيحيين وممن دب الفضول فيهم لمعرفة سر الكنيسة وعبق تاريخها، وهو أبرز ما استخلصه “النهار العربي” في زيارته للمكان.
فهذا محمد وعائلته الصغيرة، يتجولون في محيط الكنيسة التي “تمثل بالنسبة إلي مكاناً للفسحة والراحة ولنظرة جميلة على عاصمة بلادي من عل”، يقول لـ”النهار العربي”. ويضيف: “لا يمكنني عدم زيارة السيدة الأفريقية عندما أدخل الجزائر، أقطن في فرنسا وفي هذه الكنيسة ذكريات طفولتي ووالدي وجدّي، كانا يصطحبانني معهما كلما سنحت الفرصة، وبعيداً من المعتقدات فإن روحانيتها الدينية تشرح النفس”.
ورداً على سؤال يجيب: “أنا مسلم وواجب علي احترام معتقدات الآخرين، ومثلما نرتاد نحن المساجد في فرنسا وغيرها من البلدان ذات الديانة المسيحية، هم أيضاً لهم الحق في ممارسة شعائرهم الدينية في بلادنا وبكل حرية”.
“السيدة الأفريقية” ليست وحدها في الجزائر، ففي كل مدينة من المدن الكبرى للبلاد تتراءى لك كنائس. في عنابة أقصى الشرق وفي وهران أقصى الغرب، وفي مدن أخرى كذلك، ما يظهر أن الجزائر متصالحة مع أبنائها أياً كانت معتقداتهم، ومع غيرهم من الجاليات المقيمة وهي تخدمهم وتخدم معتقدهم عن طريق وزارة سميت وزارة الشؤون الدينية وليست الإسلامية فقط.
الخارجية الأميركية وجهت انتقادات “شديدة اللهجة” إلى الجزائر في شأن ما وصفته “انتهاكات جسيمة” للحريات الدينية، وأبقتها ضمن قائمة البلدان التي تجدر مراقبتها بسبب ارتكابها أو تسامحها مع هذا النوع من الانتهاكات، وذكر البيان بأن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن “أبقى الجزائر ضمن لائحة المراقبة الخاصة لارتكابها أو تسامحها مع انتهاكات جسيمة للحرية الدينية”.