طبيعي أن تحظى زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لمصر، غداً الأربعاء ليلتقي نظيره المصري عبد الفتاح السيسي، بهذا القدر الكبير من اهتمام وسائل الإعلام والأوساط الشعبية والسياسية في البلدين، وربما عالمياً وإقليمياً، وأن تتباين آراء المصريين، خصوصاً حول جدوى الزيارة وأسبابها، وأن يطرحوا أسئلة تتعلق بالإرث التركي لديهم، وخصوصاً علاقة الرئيس أردوغان بـ”الإخوان” وأفعال ذلك التنظيم الإرهابي وجرائمه. وليس سراً أن المصريين ظلوا يستغربون صمت الحكم تجاه الأذى الذي كان يأتيهم من تركيا دون أن يسألوا عن الأسباب التي تدفع الحكم هناك إلى الترحيب بـ”الإخوان”، والإنفاق على نشاطهم، وتوفير ملاذات آمنة لهم، واستقطاب كل معارض مصري، حتى لو غير إخواني، وإفساح المجال له للظهور في الفضائيات التي تبث من المدن التركية، لسب الرئيس المصري وشتم الشعب والبكاء على أيام حكم “الإخوان”. ولأن أعداداً كبيرة من رموز الجماعة فروا من مصر واختاروا تركيا بالأساس ملاذاً لهم، وأسسوا فيها منصات إعلامية عملت على مدى اليوم على إسقاط الحكم في مصر، وتحريض الناس ضد الجيش، وتشويه كل إنجاز، والسخرية من كل نجاح، والإساءة إلى كل شخص أو جهة لا تطالب بعودة “الإخوان” إلى الحكم، فإن قناعات ترسخت لدى المصريين بأن نشاطاً مكثفاً كهذا لا يمكن أن يتم دون توزيع للأدوار بين عناصر من “الإخوان” لا يزالون داخل مصر وآخرين في تركيا بمعرفة، أو ربما تحت إشراف مسؤولين أتراك.
وبديهي أن يسوق في مسائل كتلك عبارات ومصطلحات ومبررات صارت “كليشيهات” محفوظة ومعروفة ومتوقعة من كثرة ترديدها عند تغيير مسارات لدول كانت تعادي بعضها ثم تصالحت كـ”السياسة مصالح” و”لا عواطف في السياسة”، أو أن يصطاد المتضرر من تلك الخطوة، وهو هنا تنظيم “الإخوان” بالدرجة الأولى، في مياه الماضي العكرة ويروج لتنظيرات بقصد الإساءة لمصر والمصريين أو تحريض الشعب ضد السيسي بزعم أن مصر لم تكن لتجرؤ على الصلح مع تركيا إلا بعد المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات! لكن الأهم أن الزيارة تمثل بالفعل تحولاً دراماتيكياً في أنماط العلاقات بين دول المنطقة، وستنتج منها تغيرات في مستقبل “الإخوان” الذين حتى الآن لم يهاجموا التحولات في السياسات التركية تجاه مصر أملاً منهم في الحفاظ على بعض المكتسبات، وبينها تأمين إقامات من تبقوا من رموز هناك، فيما اتفقوا على الإساءة للموقف المصري الجديد تجاه تركيا!
عموماً ليس سراً أن ملايين الدولارات أنفقت من دول مارست العداء تجاه مصر للإساءة للحكم فيها والتسويق لـ”الإخوان”، ومحاولة التأثير على الجيش المصري وتشويه صورته على مدى سنوات ضمن خطة طويلة الأمد، كان هدفها إسقاط الدولة المصرية، ونشطت فضائيات في صُنع عشرات الأفلام والتقارير والبرامج لتحقيق ذلك الغرض، لكن النتيجة دائماً كانت فشلاً بامتياز. ومؤكد أن استقرار الأوضاع في مصر بعد إطاحة حكم “الإخوان” مثّل صدمة كبيرة للدول التي دعمت ذلك التنظيم ولـ”الإخوان” أنفسهم. واللافت هنا أن مصر والسعودية والإمارات تعاطت بهدوء لافت وسلاسة مبهرة ودراسة وافية مع كل فعل وردود الفعل طوال الأزمة مع تركيا، وبدا واضحاً أن الدول الثلاث ماضية في مواجهة الإرهاب ولن تخضع لابتزاز أو تقبل بضغوط، وأن الإجراءات التي اتخذتها للتصدي للنشاط التخريبي لـ”الإخوان” ستبقى بل ستتصاعد.
وليس غريباً أن بعض أركان الحكم في تركيا وبعض الأجهزة هناك لم تتخلص بعد من تراث اعتمدوا فيه إعلان العداء لمصر وتغييب لأي دور مصري إيجابي في أي قضية، لا يستخدمون عبارات عدائية تجاه مصر الآن لكنهم يقتنصون التصريحات الرسمية لتُبث خارج سياقها بهدف الإساءة دون التورط المباشر في إظهار التحيز ضد مصر. وحقيقي أن بعض المدن التركية تحولت مستنقعاً إخونجياً تماماً وكل “الإخوان” فيها لا يخفون توجهاتهم، ويستخدمون كل حدث مصري للتحريض ضد مصر والإساءة لقادتها وتلميع تنظيم “الإخوان” الإرهابي والإيحاء بأن كل مآسي العرب أتت بسبب نزع الحكم عن الجماعة وثورة الشعب المصري عليها، بينما يبدو موقف الرئيس التركي أردوغان جاداً جداً تجاه التقرب من مصر وإزالة آثار ماضيه وسياساته في دعم تنظيم “الإخوان” وتحدي إرادة المصريين، وفي سبيل ذلك طرد أعداداً غير قليلة من رموزه وأغلق قنواتهم وحاصر النشاط التخريبي لباقي المقيمين منهم هناك، وحتى في لقاءاته مع الرئيس السيسي يبدو ودوداً عن حق وليس نفاقاً أو خداعاً. هذه هي السياسة التي تقوم على المصالح، والرجل واضح أنه أيقن أن مصلحته في الاقتراب من مصر والبعد من العداء لها، وخصوصاً أن العدوان الإسرائيلي على غزة طرح سؤالاً مهماً عن ماذا قدم التنظيم الدولي لـ”الإخوان” إلى أهل غزة؟ ووجد الناس الإجابة في أن عناصر التنظيم في ربوع المعمورة يواصلون بكل جسارة جهودهم في تفتيت الشعوب العربية والوقيعة بينها والتحريض ضد مصر والسعودية والإمارات وكل الدول التي أيدت ثورة 30 حزيران (يونيو)، والإساءة إلى الجيش المصري والرئيس السيسي، ولم يقدم التنظيم الإرهابي أي دعم مادي للفلسطينيين أو أي نشاط إعلامي لفضح إسرائيل أو مساندة معنوية لضحايا المجزرة وشهداء المذبحة، أما هتاف “على القدس رايحين شهداء بالملايين” فاختفى وتوارى خلف ضجيج منصات التنظيم ولجانه الإلكترونية التي لم تكتف بعد من شرب الدماء الفلسطينية.
بالنسبة لمصر، مؤكد أن علاج آثار الأزمة مع تركيا سيطول، حتى بعد أن تتم الزيارة التي أتت كضربة في قلب تنظيم “الإخوان”، فآثار اللهجة الحادة لوسائل الإعلام التركية والإخوانية التي كانت تبث من هناك ضد مصر ورموزها، واعتمادها ألفاظاً جارحة تصل إلى حد السباب والشتائم، وبحثها طويلاً عن صيد في المياه العكرة للإساءة إلى كل موقف مصري سعى إلى وقف الإرهاب والقضاء على التحريض ومنع خطاب الكراهية، كلها أمور لا يمكن تسويتها عبر قرارات سياسية مفاجئة أو زيارة سريعة، لكن تحتاج إلى سنوات وربما عقود للتغلب على تبعاتها وتأثيراتها المضرة. والمؤكد أن التغيرات في المواقف التركية وكبح جماح “الإخوان” هناك وإغلاق القنوات والمنصات الإخوانية أمور يفترض أنها أتت بعدما أيقن أردوغان أن الأموال التي أنفقت لهدم مصر ونشر الفوضى فيها ودعم الإرهاب واحتضان رموزه لم ولن تحقق لتركيا إلا الخسارة.